«… كانوا ملاحقين، تم إلقاؤهم على الرصيف، يواصل المارة سيرهم دون إظهار أي سخط على هذا العدوان غير المبرر الذي أصبح شبه مألوف، قوات حفظ النظام، وكعادتهم اليومية، يجدون المتعة في الإساءة لهؤلاء المعوزين الفقراء».
بهذه المقطع السردي يفتتح الكاتب ديديه فسان Didier Fassin كتابه المعنون: «العقاب: الشغف المعاصر» الصادر عن دار النشر سوي Seuil سنة 2017. والذي يحاول فيه الإجابة عن التساؤلات الآتية: وما هو العقاب؟ ولماذا نُعاقِب؟ ومن يُعاقَب؟ وما مختلف الأضرار المادية والمعنوية التي تخلفها هذه الظاهرة؟
هي أسئلة تدعو إلى إعادة التفكير في موضوع العقاب في عالمنا المعاصر، خصوصا بعد تنامي هذه الظاهرة، وارتفاع عدد الأحكام الصادرة في فرنسا، وتضاعف عدد السجناء ثلاث مرات خلال الخمسين سنة الماضية. لقد أجرى ديديه فسان العديد من التحقيقات في المحاكم والسجون ومخافر الشرطة، واستجوب القضاة والحراس ورجال الأمن والمساعدين الاجتماعيين والسجناء، وذلك بهدف معرفة كيف أن المجتمعات الغربية تدين بشكل متزايد العقاب البدني الممارس على الأطفال من قبل آبائهم أو مدرسيهم، في الوقت الذي تسعى فيه هذه المجتمعات إلى تطوير آليات العقاب. ويعد هذا التحقيق الثالث من نوعه الذي يناوش الموضوع من زوايا مختلفة، فقد سبق للمؤلف أن أجرى تحقيقين سابقين، الأول حول شرطة الأحياء في فرنسا (قوات حفظ النظام، 2011)، والثاني حول النظام السجني (ظل العالم، 2015).
• ما هو العقاب؟
يتطرق الكاتب في الفصل الأول للبحث في ماهية العقاب. يقول: «منذ أزيد من نصف قرن، تحيل أغلب التعاريف التي حددت مصطلح (العقاب) إلى المرجع نفسه، وهو نص محوري للفيلسوف والخبير القانوني البريطاني هارت H.L.A Hart» (ص 43). صاحب كتاب (العقوبة والمسؤولية: مقالات في فلسفة القانون)، حيث عرض لمبادئ العقاب وما يترتب عنه من معاناة. لينتقل المؤلف بعد ذلك لاستعرض آراء نيتشه في الموضوع، خصوصا في كتابه (جينيالوجيا الأخلاق) 1887، الذي وضع فيه الأصبع على هذه الظاهرة التي شبهها بالديْن غير المسدد، وبالتالي فإن على الشخص المرتكب للفعل الإجرامي أن يسدد عن طريق العقوبة. وقد انطلق نيتشه في هذا التصور من مسألة تأثير الفكر المسيحي، ليتم بعد ذلك التخلي عن فكرة الجبر لصالح فكرة الخطأ، ووفقا للمعتقدات المسيحية، فإن المعاناة تعوض المرء المعاقب لتخليصه من خطيئته المرتكبة. ومن المفارقة أن في أوروبا المنفتحة التي كانت تعيش أبهى أيامها في عصر الأنوار، ظهر (السجن) كمؤسسة قائمة بذاتها بعد أن كان في السابق جناحا ملحقا بالأديرة والمعابد، لإضفاء الطابع الإنساني على العقاب.
إن تتبع المسار التاريخي للموضوع يكشف عن أن وظيفة السجن تكمن في ثلاثة وظائف رئيسة: تحييد الشر، والردع وضرب المثل، وإعادة تأهيل الجناة. غير أن هناك وظيفة أخرى لا يتم التصريح بها وهي وظيفة الانتقام، إن العقوبة تهدف إلى إشباع متعة القسوة. لقد خُصصت في الماضي ساحات عمومية لمعاينة إعدام قاتل أو معاقبة لص. أما اليوم، فلم يختلف الأمر كليا وإنما اتخذ صورا أخرى، إذ نشاهد مباشرة على شاشات التلفاز وبشكل شبه يومي بعض مظاهر الاعتداء والاعتقال والعقاب، وهذا الأمر يعود بنا إلى نقطة البداية.
• لماذا نعاقب؟
يقول ديديه فسان: «هناك نظريتان تسودان التفكير الفلسفي والتشريعي، الأولى نفعية، تعتبر في حبس السجناء ومعاقبتهم مصلحة للمجتمع. والثانية، جزائية، تعتبر الفرد المعاقب هو وحده من يحاسب على فعله الإجرامي، وبالتالي يكون العقاب تنفيذا للحكم، فهي بذلك تركز على أهمية تقليص نسبة الإجرام وحدتها» (ص 86). لقد تبنى الفيلسوف الإنجليزي جرمي بنتام Bentham المفهوم النفعي في عمله الموسوم (مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع) الذي شهد رواجا خصوصا مع تزامن انتشار الأفكار التقدمية النفعية، حيث برر العقاب بضرورة الحفاظ على مقترف الخطأ بعيدا عن المجتمع، وحفظ النظام العام، إذ يغدو العقاب نوعا من التحييد والردع. أما المفهوم الثاني فهو ذو توجه محافظ، يرتكز على الإجبار، ويُنظر فيه لمقترفي الجرائم على أنهم يستحقون المعاناة والعقاب.
كما يستشهد ديديه فسان بعمل ميشال فوكو (المجتمع العقاب) الذي أشار إلى أن القرن 19 شهد تشييد العديد من السجون عند مشارف المدن، واعتبرت قلاعا للحجز والعزل بديلا لطيفا للمقصلة ووسيلة لعقاب الروح قبل الجسد. يقول المؤلف: «لقد أصبحت العقوبة شرعية كرد فعل على الجريمة، وهذا في حد ذاته يطرح إشكالا»، وهذا ما أسماه بـ(اللحظة العقابية) التي يمر بها العالم لعدة عقود، فكل عام يزداد عدد السجناء، وهذه الظاهرة لا تمس الأنظمة الديكتاتورية فحسب، بل حتى الأنظمة الديموقراطية الغربية. ذلك أن العقوبات تعكس سلطة الدولة وهيبتها، وترسخ التسلسل الهرمي للمجتمع.
• من نُعاقب؟
يحاول المؤلف في الفصل الثالث والأخير أن يبحث في النظريات القانونية والفلسفية التي تبرر العقاب والتي تقدمه بشكل محايد وعادل، بيد أن نتائج البحث تكشف عن أن مسألة توزيع العقوبات، هي غير متكافئة. هذه النتائج تؤكدها أيضا ما خلُص إليه الباحث من استنتاجاته التجريبية والميدانية. ذلك أن المؤسسات القمعية تستخدم المزيد من أدوات التجريم، على سبيل المثال: يتم التعبئة لمواجهة جرائم السرقات، واستخدام المخدرات أكثر من الجرائم الاقتصادية والمالية. ونتيجة لذلك، فإن المستهدفين من العقاب هم بالدرجة الأولى الفقراء والطبقات الاجتماعية الهشة، وبالتالي تكون هذه الفئات تحت أعين الشرطة بشكل دائم، بل واستباقي أيضا. إن عددا من الأبحاث تشير إلى أن قوات النظام تسيطر أكثر على شباب الأحياء الجامعية والمناطق السكنية الشعبية، وبالأخص أولئك الذين لا يتمتعون برأسمال اجتماعي ومادي كافيين للاستفادة من تخفيض العقوبة أو الإفراج المشروط أو حتى نوع المعاملة داخل المؤسسة السجنية.
إن العقاب لا يمارس على الشخص المعتقل وحده، بل أيضا، عائلته وأحباءه من جراء ما يلحقهم من أضرار نفسية ومضايقات اجتماعية، وأعباء مادية، إذ كيف يمكن للعائلات معاودة أحد أفرادها المعتقلين وتغطية مصاريفه ونفقاته اليومية؟ سيما إذا استحضرنا أن أغلب هذه العائلات تنتمي إلى الطبقة الفقيرة. وهنا يغدو السجن مشكلا بدل أن يكون حلا. ليخلص المؤلف في نهاية هذا الفصل إلى أن ارتفاع عدد السجناء لا يتطابق مع زيادة الجريمة فحسب، بل إلى زيادة في شدتها، إننا نعاقب سياسيا وأمنيا وقضائيا.
• أمور يجب استحضارها:
تكشف الدراسات وجود فوارق صارخة في توزيع العقوبات السجنية. إضافة إلى سوء توزيع المساجين في الزنازن، إذ قد يجتمع في نفس الزلزانة إطار عال ومروج مخدرات وطالب جامعي وسفاح. وأحيانا أخرى يتم التمييز بين السجناء، فهناك فئة من الدرجة الأولى تتمتع بمجموعة من الامتيازات، وفئة أخرى تفتقد لكل ما هو إنساني يحفظ كرامة المعتقل. وهو بذلك يسهم في إنتاج الفوارق وتكريسها وتهديد النظام الاجتماعي. فهؤلاء السجناء يهجرون الحياة رغما عنهم خلف القضبان بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فأغلب المعتقلين يقضون 23 ساعة في اليوم في زنازنهم.
يقول المؤلف: «إننا نحتجز المخالفين للقانون وذوي السوابق فنحولهم بذلك لمشاريع العاطلين ومدمني مخدرات. إننا نحول وجودهم إلى وجود هش، لقد أثبتت الإحصائيات أن أكثر من نصف هؤلاء يعودون إلى السجن بعد فترة وجيزة من الإفراج عنهم. إن السجن لا يردع، وكل هذا يرمي بهؤلاء إلى الدرك الأسفل في المجتمع». إن هذه الأرقام والإحصائيات المخيفة والمثيرة للقلق تدعونا باستمرار للبحث عن السبل الكفيلة للحد من تنامي ظاهرة العقاب بمختلف أنواعه وتمظهراته، والبحث عن الحلول الناجعة لتقليص الأسباب المفضية للعقاب.
كما يثير المؤلف مسألة تتعلق بسوء التوزيع غير المتكافئ للأحكام، إذ يقارن مثلا، بين العقوبات الجنائية وتفاوت الأحكام بين تعاطي القنب الهندي أو ترويجه مع التهرب الضريبي، إضافة إلى التطرق لعواقب تحويل إجراءات العقاب لشركات ووكالات خاصة، التي غالبا ما تقع بدورها في تجاوزات، من قبيل : العنف اللفظي (الإهانة والشتم) والعنف الجسدي غير المبرر، ففي بعض الدول نجد عدد الوفايات الناجمة عن اعتداءات الأجهزة الأمنية أكثر بأربعين مرة من الوفيات الناجمة عن أحكام الإعدام. كما أن إعدام عدد من المعتقلين قد يكون في أغلب الأحيان خارج نطاق القانون وأحيانا أخرى بطريقة متسرعة على الرغم من عدم استيفاء الأدلة. كما يرصد الباحث أيضا بعض ممارسات الاعتقال رهن التحقيق، وتوسيع نطاق العقابية مع أشكال جديدة وإجراءات مشددة مثل السوار الإلكتروني وغيرها من الوسائل الرقابية. يشير الكاتب كذلك إلى ظاهرة اكتظاظ السجون مما يزيد ارتفاع نسبة الانحراف. وافتقار بعض السجون للحد الأدنى الذي يحفظ الكرامة الإنسانية
يمكن اعتبار هذا الكتاب دعوة لإعادة التفكير في العقوبة وإعمال الفكر النقدي للبحث في هذا الموضوع الشائك والمثير للجدل والقلق من مختلف الزوايا ومعالجة الحقائق وتمحيصها، إذ إن العقاب يزيد من تفاقم التوترات والتفاوتات الاجتماعية، بل إنه يعزز الجريمة في المقابل. إن إعادة النظر في هذا الموضوع يجب تكون من خلال «إخضاع قيمة قيمنا للتدقيق النقدي» على حد تعبير نيتشه. وعلى هذا الأساس سعى ديديه فسان إلى تشريح ظاهرة العقاب بحس نقدي ومن منظور متعدد الأبعاد: أنثروبولوجي وتاريخي وقانوني وسوسيولوجي. ليخص في خاتمة الكتاب إلى ضرورة إعادة النظر في النظام القمعي، ومدى فاعلية السجن وجدواه.
**********
ديديه فسان من مواليد 1955، عالم أنثروبولوجي وسوسيولوجي فرنسي. أستاذ للعلوم الاجتماعية في معهد برينستون Princeton للدراسات العليا، ومدير الدراسات في المدرسة العليا للدراسات في العلوم الاجتماعية EHESS. من مؤلفاته: «الصحة العمومية» 1989، و«التحديات السياسية للصحة» 2001، و«الحدود الجديدة للمجتمع الفرنسي» 2009، و«سؤال الأخلاق: أنثروبولوجيا نقدية» 2013. نال جائزة دوجلاس Douglass Price لأحسن كتاب أنثروبولوجي في أوروبا سنة 2011. والقلادة الذهبية من الهيأة السويدية للأنثروبولوجيا سنة 2016.
د. عبد الرحمان إكيدر