يطالعنا سفير السلام في العالم، الدكتور جهاد نعمان، بنِتاج جهاده الأخير المُعَنوَن “فلسفات الثورة في القرن التاسع عشر – محطات ونصوص ذات صلة”، والصَّادر حديثًا عن دار نعمان للثَّقافة في 260 صفحة قطعًا وسطًا.
والكتاب أضواء فلسفية استعادية لما سبق فلسفات الثورة في الغرب، ثم توقُّف عند المحطات الأساسيَّة في تلك الفلسفات، تليه تطلُّعاتٌ استشرافيَّةٌ للحالات الثوريَّة عمومًا، وفي عالمنا العربيّ على الخصوص.
في الثلث الأخير من القرن نفسه، كان لا بدَّ من أن تتفتَّحَ أذهان العرب على آفاق الوعي القوميّ، وأخذت أفكارهم تستضيء إلى حدٍّ ما بنور الحق والحريَّة وحب الكرامة الفطريَّة، وراحت هممُهم تتحفَّز للوثوب والانقضاض على أولئك الذين قيَّدوهم بسلاسل الظلم، وعملوا للجم لسانهم وكمّ أفواههم وتفريق عنصرهم الواحد إلى شيَع وأحزاب.
لهذه اليقظة العفويَّة تجلَّى قادة أوفياء بُسَلاء يجمعون الشمل، ويوحِّدون الصفوف ويسيرون في الطليعة، ويزكُّون نار الحمية والحماسة في قلوب متعطِّشة إلى الانعتاق من رِبقة الاستبداد المرير، وليقودوا جحافل الأباة الناقمين إلى حيث يحطِّمون أصنام الغطرسة البغيضة والعظمة الجوفاء.
تبدَّل العصر وأمسى الحاكم (بأمره؟) في عقر الدار يأتمر بإشارة من الخارج، ولكنَّ حركات التحرُّر باتت بلا حوافز جذريَّة لم تتوافر حتى في القرن التاسع عشر.
يسلِّط الدكتور نعمان إذًا على أسباب افتقار العرب اليوم وحتَّى في الأمس القريب والبعيد إلى نشاط ثوريّ حقيقيّ. فأنصاف الآلهة المتربِّعون على عروشهم، منصرفون عن الإصلاح إلى التنعُّم بمباهج السلطة ولو عرجاءَ رعناءَ، ومفاتن الحياة. حركة بلا بركة هنا وهناك وهنالك تفتقر إلى فلسفة وعقلانيَّة مُرَوْحَنَة، ما يطلق عليها الكاتب تسمية “الجوهرود” الذي يوفِّق بين الجوهر والوجود اللذَين لم يتناولهما فلاسفة العرب في عُرف الكاتب!
نتيجة فقدان الجوهرود في دنيا العرب وحتى في وطن الأرز ذي التعدُّديَّة السطحيَّة والموسميَّة على رقعة صغيرة من الجغرافيا وفي غمر معطوبيَّة التاريخ. يرى المفكِّر اللبنانيّ الغزير الإنتاج أنَّ شعوبنا ستظلّ مأخوذةً برهبة الحكم، وهي قلَّما تخرج عن حلمها. وكلّ ما في الأفق يُنذر، في نظره، بانفجار البركان الذي لن يوفِّر حتَّى العقول المدبِّرة للحروب في الخارج، من غير أن تحصل فعلاً ثورة حقَّة على الرغم من الجوّ الكالح الرهيب… ويُشير نعمان، وقد هاله ما تلْقاه الشعوب من عنتٍ وعسفٍ وطغيان فضلاً عن الأوبئة الجائحة، إلى حقّ الشعوب أن تهبَّ في وجوه ظالميها في حزمٍ وعزم.
إنَّه مُصلح لبنانيّ صادق وعربيّ صميم آلَ على نفسه مرَّة جديدة أن يناضل في سبيل الحقّ الطعين والحريَّة الموثقة بهذه الروح الرفيعة، يندفع، في هدي فلسفته، إلى مثله الأعلى. فلغة الضاد يجب أن تظلَّ جليلة القدْر، مدوِّية الصوت، مبسوطة اللواء، والأوطان العربيَّة ينبغي أن تبقى مصونة من كيد الكائدين وعبث العابثين. يدعو في شيء من الشدَّة المفكِّرين العرب إلى أن ينبِّهوا الأفكار، ويوقظوا الهِمَم، ويشدُّوا العزائم، وأن يعملوا بكلِّ ما أوتوا من جهدٍ وعلمٍ وإخلاص، لإبعاد الظالمين ويجعل الحكَّام يحترمون حقوق شعوبهم ويعاملونهم بالعدالة والمساواة.
طنجة الأدبية