قطع الطريق بحذر كبير، سار نحو الحانة المفضلة لديه، يريد أن يحتسي جعتين باردتين في هذا اليوم من شهر يونيو، جعتان فقط، لا غير، هو قرار حاسم أخذه على نفسه، ثم يعود لشقته ليتمم الفصل الأخير من روايته الجديدة، رنا إلى الأفق بعيدا حيث الشمس تلامس صفحة الماء قبل أن ترتاح من يوم قائظ، تأمل قليلا الشفق، لون شبيه بلون الدم، بدت كلمة الشفق مناسبة لتكون عنوانا لروايته عوض العنوان الذي اقترحه، لكن الكلمة لم تعجبه رغم ذلك فهي توحي بالنهاية، تجاوز الأمر، دلف إلى الحانة المطلة على الشاطئ، في ركن منها جلس كعادته دون أن يثير انتباه أحد، النادل يعرفه ويعرف طلباته، لكنه هذه المرة طلب جعتين من نوع آخر، ابتسم للنادل وحرك رأسه عندما أدرك اندهاشه، وضع النادل الجعتين وانصرف لزبون آخر في ركن معتم كان يشير له بعلامة النصر. الفصل الأخير من روايته يجثم على صدره كما صخرة سيزيف..أفرغ جعة في الكأس بدت له رغوتها مثل كومة ثلج على قنة جبل، أو شبيه بعمامة بيضاء على رأس فقيه بجلبابه المائل إلى الصفرة، ابتسم لهذا التشبيه، احتسى من الكأس متلذذا بمذاق الجعة متأملا رواد الحانة، همساتهم،، تعليقاتهم ..بدا له الآمر مغريا، كان على يقين أن الكثير مما يقوله السكارى هو اقرب إلى الحكمة، وفيه الكثير من الصدق، لحظات البوح لا تكون إلا هنا حيث يهرب الإنسان من واقع موبوء ليختلس لحظات من الفرح، قال في نفسه، هنا سأجد نهاية لروايتي، كل النهايات التي اقترحها مع نفسه بدت له باهتة وغير مقنعة، يجب أن تكون نهاية صادمة و غير متوقعة، لا يهمّه موقف القارئ من النهاية، الأهم أن تكون نهاية صادمة. من الشرفة المطلة على البحر كان الظلام يرسل سدوله، على الرمل ثمة أشخاص قليلون، النادل يتحرك برشاقة بين الزبناء، الحانة بدأت تمتلئ، واللغط يرتفع، هو يعرف الكثير منهم، موظفون وتجار، ومنهم اللصوص والمخبرون، بل عاطلون أيضا، مرات كثيرة يتساءل، من أين يأتي هؤلاء بالمال؟ ما يهمّه الآن ليس هؤلاء، بل نهاية لروايته، النهاية ستكون من هنا، من الحانة، ما يقوله أحدهم قد يكون نهاية لعمله الروائي، الحكمة تأتي من أفواه المجانين والسكارى ..أفرغ القنينة الثانية في الكأس وطلب قنينتين، تذكر الوعد الذي أخذه قبل أن يدخل إلى الخانة، جعتان لا غير، ثم الذهاب للمنزل وإتمام الفصل الأخير من الرواية ..ابتسم في أعماقه، الوعود … الوعود، تذكر عرقوب والمثل العربي ..قريبا منه رجل أشيب يقول لصديق وبصوت مسموع: عليك بالانتحار من أعلى صخرة هناك وهو يشير للبحر ..ابتسم هو يسمع ما يقوله الرجل، تذكر نهاية رواية وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر، ربما الكاتب سمع ذلك في حانة بدوره وجعلها نهاية لروايته. وقبل أن يفرغ الجعة الأخرى سمع آخر يبوح بهمومه، وكيف أن زوجته تؤنبه كل يوم لأنه لم يشتر لها آلة تصبين فقد تعبت ..برقت عيناه، قام مسرعا ونفح للنادل ثمن ما شربه وترك له ما تبقى من الصرف، النادل وقف مشدوها، لم يسبق له أن رأى الرجل بشوشا ومسرعا بهذه الطريقة. خرج من الحانة، هدوء تام يلف المدينة، وظلال الأشجار تبدو مثل عناكب كبيرة تتمايل على ضوء الأعمدة الكهربائية المتباعدة ..أوقف أول سيارة الأجرة وارتمى بها، دل السائق على وجهته، نزل من تاكسي وصعد مسرعا لشقته، أخرج كومة من الأوراق هي مخطوط روايته، تأملها مليا، تقدم نحو آلة التصبين المركونة في زاوية من المنزل ثم فتحها، ألقى الأوراق داخلها وضغط على الزر، بدأت العجلة تدور، ورغوة الصابون تتصاعد، تذكر من جديد رغوة الجعتين وكومة ثلج على قنة الجبل، وعمامة الفقيه الصفراء، أطلق ضحكة، أغلق الباب من جديد، ونزل تاركا آلة التصبين تدور لوحدها … عاد للحانة من جديد وهو يردد في نفسه، وجدتها وجدتها، لقد أكملت روايتي اليوم لقد جعلت كل شخصياتي نظيفة وطاهرة ..قبّل جبين الرجل الذي تؤنبه زوجته على آلة التصبين، وطلب له جعتين، وانزوى في مكانه من جديد وطلب نبيذا أحمر وصوت الآلة يدور في رأسه.
حسن الرموتي