تقديم:
حسن غنجة مخرج سينمائي وتلفزيوني، راكم تجربة تلفزيونية معتبرة بقناة دوزيم منذ انطلاقتها سنة 1989، حيث كتب وأخرج ووضع تصورات للعديد من الروبورتاجات والأفلام الوثائقية والمسرحيات المصورة والبرامج السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها (وقائع، رجل الساعة، مباشرة معكم، وجه وحدث، صورة…) والأعمال الدرامية (أفلام وسلسلات وسيتكومات)، بالإضافة إلى أفلام سينمائية قصيرة وفيلم روائي طويل بعنوان “أركانة” (2007) وبعض السيناريوهات…
هو خريج المعهد الوطني العالي للسينما ببروكسيل والمعهد الوطني للسمعي البصري بباريس، استفاد من تداريب عدة بالإذاعة والتلفزة البلجيكية وبالقناة التلفزيونية الفرنسية الأولى بباريس ومؤسسات أخرى فرنسية وبلجيكية.
وبمناسبة عرض فيلمه “أركانة” على منصة إلكترونية من طرف المركز السينمائي المغربي، في إطار دورة أفلام الراحلة ثريا جبران (1952- 2020)، أجرينا معه حوارا حول جوانب من هذا الفيلم وحول علاقته كمبدع بالسينما والتلفزيون.
نص الحوار:
أسندت دور تامغارت للممثلة القديرة ثريا جبران التي كانت جد مقنعة بقسمات وجهها ونظراتها وحركاتها وغير ذلك من أدوات التعبير، كيف جاء اختيارك لها؟
أول لقاء لي مع الراحلة ثريا جبران كان سنة 1989 بالمركب الثقافي المعاريف بالدار البيضاء (يحمل حاليا إسم مركب محمد زفزاف)، حيث كانت تعرض به مسرحيتها الشهيرة “بوغابة”. وبما أنني كنت ولا زلت من عشاق المسرح، قمت بتغطية تلفزيونية لهذا الحدث الثقافي بمعية الصحافية سمية المغراوي.
قمنا بعرض لقطات من هذه المسرحــــــية في برنامـج 18/21، وهو البرنامج الوحـــيد الذي كان يــــبث آنذاك بالواضح، لأن القناة الثانية كان بثـــها يتم بالمرموز، وكــنت حـــــينها متــشبـعا بالمسرح الأوربي ومدمنا على قاعات المسارح ببـروكسيل. إلا أنــــني هذه المرة تـــــواجدت أمام عرض مسرحية مــــغربية من نـوع آخر. رفع الــــستار، وإذا بالمرحومة تـــــظهر أمامنا شامـــــخة، لـــــقد بهرتــني بقــوة أدائها وبـــمهارة تحركاتـــها فــــوق الخـــــــشبة، بحيث لا زلت أتــذكر حتى يومنا هذا حركاتها وطريقة أدائـها وصوتــــها الـــقوي الـــذي زاد من حضورها على الخشبة.
مع مرور الأيام أصبحنا أصدقاء واشتغلنا سويا في مجموعة من الأعمال الفنية، وكنت أتردد على بيـــــتها من حين لآخر فوجدت فيها الإنسانة الطيبة المعــطاء، بحيث كان كل ما لـــــديها ملك للجميع وكان بيـــتها مـــلتقى للفنانين والمثقفين و قبل أن تصــل إلى شــــــقتها كانت رائحة القهوة تســتقبلك في باب العمارة التي كانت تقـــطن بها.
قبل إسناد دور البطولة لها في فـــيــلمي السينمائي “أركانة”، سبق لها أن شخصت دور البطولة في فيلمي التلفزيوني “الفراشة السوداء”. كما اشـتغلنا سويا بعد ذلك في إنجاز مسلـــــــسلين للقناة الثــانية هما: “المعنى عليك” و”لاباس والو باس”. لقد مكنني تــــعاملي هـــذا معها من أن أقترب منها أكثر فأكثر، الشيء الذي جعلني ألمس فيها حبها الكــــــــبير للفــنانين والمسرحــيين منهم بالخصوص بحيـث شارك معها في هذين العملين جل الممثلين والممثلات. لم تقتصر ثـريا على مشاركة ثلاثة أو أربعة ممثلــين حتى يمكنها التوفير من مــيزانية هذين العملين التــلفزيونيين، بل كان همـــــــها الأساسي هو مشـــــــاركة أكبر عدد منهم. لقد كــنـت شاهــدا على سخــــائها وتعــاملها الطـــــيب مع جـــل الفنـــــانين.
بعد هذين العملين أخرجت للـــــــتلفزيون مسرحيتها الــــرائعة: “يــــــــــــــــــــــــــــــاك غـــــــــــير أنــــــــا” حيث تم تصويرها مباشرة مـــن مسرح محمد الخامس بالرباط.
بناء على ما سبق وأشياء أخرى تم اختياري لها لتشخيص دور “تامغارت” في فيلمي السينمائي”أركانة”، وكان اختيارا موفقا، لأن المخرج لا يتعامل مع الممثل كــفنان فحسب بل يتعامل معه قبل كل شيء بناء على صدقـــــــه في الأداء وعمقه الإنساني أيضا.
أحداث الفيلم تجري بمنطقة قروية وبفضاءات طبيعية جميلة نواحي تارودانت، هل لشجرة أركانة التي يحمل الفيلم إسمها كعنوان دور في اختيار هذه الفضاءات؟ ولماذا بالضبط هذا العنوان؟
أنا عاشق للطبيعة، ولست من محبيها فحسب بل من الناس الذين يدافــــــعون عنها.. وكسائر المغاربة أنا أعشق بــلادي المغرب وأحبها بـــتمعن خصوصا وأن الله حبانا بفضاءات طبيعية متنوعة.. أنظر مثلا إلى شواطئنا الساحرة المــــــمتدة إلى الصحراء، أنــظر إلى هذه الأرض المعطاء بلا حدود وتضاريسها المتنوعة وجبالها العالية وتربتها الخصبة ومناخها المعتدل طوال السنة وأوديتها الكثيرة التي تنبع منها الحياة.. المغرب أرض الخير بنبــاتـــاته المتنوعة وأشجاره الباســـقة المثـمرة و غير المثــمرة.. هل تعلم أن المغرب كان مــــنذ الثمانين سنـــة الماضية يتوفر على أكـــــبر غابـــــة في إفــــريقــــيا؟ وأن المـــــــــاء الـــذي نستهــــــلكه الـــيوم كـــــان مخــــــــبئا مـــنذ مــــــــلايــين الســــنــين؟ فمن حافـــــظ على هــذا الماء؟ إنــها الغـــــــابة بأشــجارهــا ورجالها الأوفيــــــاء.
المـــغرب ولله الحـــــــمد يزخر بـــأنواع فـــريدة من الأشـــجار، مـــن ضـــمنـها شــجرة “الأركان”، وهذه الشــجرة الطيبة المباركة أعــتبرها بمثابة رمز للمــغرب، ولهذا كان اخــــــتيار الــــمكان ضروريا لهذا النوع من الأفلام.. وما دام عـنوان الفيلم يحمل إسم هذه الشجرة الشامــخة، كان من اللازم أن نقــترب من الحقيقة وأن يحمل الفضاء في طــياته الـــعــديد من الرموز من بيـــــنها شجرة أركـــان وكل ما يـــتعلق بـــها.
كنت أثـــناء الإعداد لتصوير اللقطات والمشاهد أجلس تحـت شـــجرة الأركـان ولاحظت أن التـراب لم يعد يغطي جذعها ورغم ذلك ظلت واقفة بكل كبرياء تصارع الزمان بجذورها المـــنغرسة داخـل الصخر.. إنها شجرة معمّرة، تحدت الصعوبات وقهرت الزمان وبقـيت شامخة حتى اليوم لتحكي لـــنا عن ماضي زاخر بالبــــطولات.. إنها المغرب بتاريخه وحضارته الممتدة عبر العـــصور.. إنه فيلم “أركـــــانة”.
من هنا ولهذه الأسباب أردت أن أتحدث عن بلدي بعشــق وحب وأحكي للمشــاهد، عـبر هذه الشجرة المباركة، عن عزيمة أجدادنا وكفاحهم ضد الاستبداد والظــــلم والاستعمار، ولأذكره بما تزخر به بلــدنا من نعم عــــلينا الحــــفاظ عليها.
لم تستسلم تامغارت لجبروت حمو واستغلاله لخيرات المنطقة وسكانها فقتلته ببندقية ظلت تحتفظ بها منذ استشهاد زوجها أمغار وهو يحارب المستعمر الفرنسي، وبذلك خلصت سكان القرية من هذا المستبد الذي يعوق تنميتها، هل في هذا احتفاء بدور المرأة في مناهضة الظلم والاستغلال، خصوصا وأن الراحلة فاطمة شبشوب هي كاتبة السيناريو بمشاركتكم؟
المرأة نصف المجتمع، هي الأم والأخت والزوجة والإبنة.. إذن كان من الإنصاف لهذه المرأة أن نشاركها في كل شيء، فعندما وضعت الخطوط العريضة للسيناريو لاحظت بأن شخصية تامغارت ستـــأخذ حـــيزا كبيرا في مشروع هذا الفيلم، وبما أنني أومن بالاختصاص وبالرأي الآخر كان من البـــديهي أن يــــــكون العنصر النسوي طرفا في الكتابة.
قبل هذا المشروع السينمائي سبق لي أن تعرفت على المرحومة فاطمة شبـشوب عـــــندما اقترحت عليها تصوير إحدى مسرحياتها لفائدة القناة الثانية، حينها كنت مسؤولا على خلية الدراما بهذه الــقناة البيضاوية.. رحبت فاطمة بالفكرة شريطة أن أكون أنا من يقوم بإخراجها التلفزيوني. وجدت في فاطمة آنذاك المرأة الثائرة والهادئة والمثقفة فاقترحت عليها فكرة الفيلم وبــدأنا في الاشتغال. لم يكن من السهل ولا من الصعب الاشـــتغــــال مع امــــرأة ذات شخصية قويـــة، إلا أنني كنت متيقنا من أن كل هذا سيكون في صالح الفيلم. وفعلا لم يخب ظني إذ كـــانت فاطمة رحمها الله تدافع عن المرأة بكل قوة وعزيمة وكان المنطق حاضرا ليفصل بيننا في حالة الاختلاف.. انتهت مرحلة كتابــة السيناريو وكان كل واحد منا راض على ما أنجزناه معا.. اتصـلت بالمرحومة ثـريا جـبران وعرضت عـــــليها السيناريو.. أمهلـــتني يومين قبل أن ترد علي، وعندما اتصلت بي لاحظت من خلال كلامها بأنها وجـــدت نفســـها في شخصية تامغارت، فلم أتـــــردد ولو لحظة واحدة في منحها هذا الدور.. بل مما زاد إعجابي بها أثــــناء الــتصوير هو الأشياء التي أضافتها من عندياتها كالوشم الذي في يـــديها والحلي الـــقديمة التي كانـــت تـــــــــتزين بها، وهي أشــياء ربما لم ينـــتبه إليها المشاهـــد.
وحتى أكون صريحا في إجابتي عن سؤالك أقول أن المرأة في نظري تنـــاهض الظلم والاستبداد، لكن بـــطريقتها الخاصة. إنها تعمل في صمت وبهدوء وغالبا ما تكون النتيجة أحسن بكـــثير مما لو تعاملنا بطريقة أخـرى مع هـــذه الجــــائحة.
لقد لا حــــــــــــظت هذا مرارا أثـــنـاء زياراتي المــتــــــــتالية لمنــــطقة إميــلشيل بالأطـــلس الــمتوسط، حيث شاهدت هناك امرأة مغربــية من طـــينة أخرى، هـــي الـــــــمرأة الصبور التي استـــطاعت بذكائــها ومهارتها الحرفية وتفانيها في خدمة أسرتها أن تـــفــــرض وجــودها داخل المجـــتمع وأن تـــثور ضد الظـــــلم بكل أنواعه وأشكاله، وذلك لأنها استــطاعت بمهارتها أن تـــــكون مستقلة ماديا ومــعنويا عن كل شيء من شأنه أن يكــبل يديها ويجــــعلها عاجزة عن قول كلمة الحـــــــق.
ثلة من المشاركين في فيلم “أركانة” يتوسطهم مخرج الفيلم.
لاحظت تفاوتا في أداء الممثلين، فبعضهم كان تشخيصه تلقائيا ومقنعا مثل فاطمة تحيحيت ومحمد مروازي وأسماء الحضرمي وعبد الرحيم المنياري والراحلون ثريا جبران وعمر شنبوط وعبد القادر لطفي، والبعض الآخر كان أداؤهم إما نمطيا (حالة بنعيسى الجيراري) أو لم تكن الأدوار المسندة إليهم مناسبة لشكلهم وطريقة تشخيصهم، كيف تفسرون هذا التفاوت؟
يتكون المجتمع من أشخاص لكل واحد منهم شخصية مــعينة بمحاســنها وسلبياتها.. ما أردت قوله هنا هو أن الإنــــسان يمكنه أن يغـــير الكثير من الأشياء في حياته ومساره المهنــي وغـــيره، فالعمل بتفاني وحب وأخذ الأمور بـــــجدية غالبا ما يعطي النتيجة المطلوبة، وعكس ذلك يــؤدي إلى الفشل وعــدم تحقيق الرقي والازدهار.. هناك من يــكد ويجتهد ليصل إلى مبــتغاه، وهــناك من لا يـــبالي ويترك الأمور تسير سيرها العادي..
في فـيـلم “أركــــــانة” كانت الأدوار متنوعة بتنوع الشخصيات، وهذا مقصود لكي نسلط الضوء على عينة كبيرة من مجتمعنا، فشخصية تامغارت مثلا لها وزنها في الـــقرية واخــتيارها كــــان من المــفروض أن يكــون اختيارا سليما لأنها تعتبر ركيزة الـــفيلم، لــذلك لم يكن اخـــتيار المرحومة ثــريا جبران لمجرد كونها إسما معروفا بل لكونها ممثلة مقتدرة تجر وراءها تاريخا زاخرا بالعطاءات والتفاني في العمل. فاخـــتيار الممــثل الرمز يعطي الشرعية للفــيـلم ويجــعل مشاركة بــــــــاقي الممثـــلين مشاركة مبـــنية على الثـــقة والـــتفـــاني.
عندما كنت أدرس السينما تـعرفت على شخص بلجيكي كان عمره آنذاك 40 ســـنة، كان حينها يدرس الطب وهو حاصل على دكتوراه في الفـــيزياء، قال لي ذات يوم وبالحرف: ليس هناك معجزة للنجاح في الحياة إلا العمل. وهذا الأخير نراه هنا جــليا في دور تامغارت.
لقد كانت ثــــريا رحمها الله مهـــووسة بدورها، حيث اشــــتغلت على شخصية تامــغارت وأكملت تركيبتها النفسية والاجتماعية باجتــــهادها الخاص. ولكي يكون التوازن سليما كان من الضروري إضافة دور آخـر في مستوى شخصية تامغارت، من هنا جــاء دور حمو الذي شخصه المرحوم حميدو بن مسعود. فهذا الاختيار لم يكن عــــفويا بل كان مـــدروسا وذلك لأن حميدو يعتبر من الممثلين الكبــار الذين اشتغــلوا في أوروبا وأمريكا وبإمكانه أن يرفع من قــيمة الفيلم، بحكم تجربته الطويلة، ويخـــلق في نفس الوقت توازنا جيدا بين شخصــــية المستبد حمو والمناضـــــلة تامـــغارت.
أما الأدوار الأخرى فهي تختلف باخـــتلاف الشخصيات، إذ لكل شخصية خصوصيتها. فيونس ميكري، على سبيل المثال، شخص دور الثائر الذي لم يســتطع مــواجهة الواقــع ففضل الهروب منه، أما محمود ميــكري فتقمص دور شخصية بسيطة ومسالمة غادرت المدينة وفضلت العيش في القرية للتمتع بسكونها ولهذا لم يتطلب أداؤها حــوارا قويا أو تعـــاملا خاصا مع الكاميرا. لكل دور من الأدوار، في نظري، معنى خاص. فحسن فلان وبنعيسى الجيراري قاما بدورين أساسيين جدا لأنهما كانا يمثلان شريحة من المجتمع تعيش على الفتات وتمارس التملق، لهذا كان من البديهي أن تتسم شخصيتهما في الفيلم بالسذاجة وأن يتعاملان بعنف وصلابة مع الآخرين وبتفان وخوف مع حمو.
وأخيرا يبــقى المجهود الفردي للممثل أكبر بكــثير من إدارة المخرج له، لأن المـــمثل ليس من المفروض عـليه أن يتكلم مباشرة بعد إشارة المخرج، لكـــن عليه أن يشخص دوره أولا بصمت، وهذا الصمت إذا كان معبرا وصادقا فمعنى هذا أن وراءه مجهود جبار وتفاني في العمل سيكون لهما تأثير إيجابي على المتلقي.
تقنيا أمتعنا الفيلم بلقطات جميلة كانت وراءها كاميرا مدير التصوير لوكا لوباريني، كما استمتعنا بمقاطع موسيقية من وضع الفنان يونس ميكري، الذي حضر أيضا في الفيلم كممثل رفقة أخيه محمود ميكري، وبأغاني أمازيغية بصوت الفنانة فاطمة تيحيحيت وغيرها، كيف تم اختيار هذه الأغاني والمقاطع الموسيقية؟
الموســيقى أداة تــــــكمـــيلية، فـــإذا كــانت الصورة المتحركة بلقــطاتـــها المختلفة الأنواع والأحجام وبجمالياتها المتنوعة تشكل لغة متكاملة تمكننا من فهم مضامين الأفلام السينمائية، فالمــوسيقى تــأتي في الأخــير لتحسين شروط التلقي.
إذن الموســـيقى هي أداة مـــن أدوات التعبير الســيـنمائي، ولــهذا نـــجد معــظم كــتاب الســينــــــــاريو يدمــــجون كيــفـــية استعــــمالها في نصوصهم، بحـــيث نطلع بـــوضوح على الأحــداث التي يتضمنها المشــهد إلى جـــانب الـــــــنوع أو الأســلوب الموســــيقي الــذي يـــمكن توظيفه. فهــذه التـــوضيحات تساعـــد المخرج في طريقــــة تــعامله مع كل مشـــهد وفي نفــس الوقت تعـــطينا فـــكرة عــن تسلسل لقطاته التي نــقوم بتـــصويرها.
أما عن فيلم” أركانة ” فقد لعبت مشاركة الفنان الموسيـقي يونس ميكري فيه دورا إيجابيا، بحيث شكلت الحـــفلات والأعراس التي احتفت بقـــدومنا إلى المنطقة فرصة إلهام لنا جميعا، إذ قام الصــديق يـــونس بتسجيل مجموعة من المقاطع الموسيقية بالموازاة مع تصوير الفيلم.
إن حضور الــفنان يونس ميكري أثـنـــاء تصوير لقطات ومشاهد الفيلم ونقاشنا الطويل حول كيفية استعمال هذا النوع من الموسيقى ساهما في إغناء مخـيلة هـــذا الفــنــان المبدع، الشيء الذي أعطانا موسيقى مغربية تزخر بالشاعرية والإحساس. وإلى جانب هذا ساهمت الفنانة الأمازيغية فاطمة تيحيحيت، وهي إبنة المنطقة، بغناء من نوع خاص نذكر منه الأغاني الشعبية حبيسة جدران البيوت. وبهذا أضاف صوتها بصمة خاصة لبعض المشاهد وتحقق انسجام بين الغناء والموسيقى والديكورات داخل الفيلم.
الموسيقى في نظري هي لصيقة بكتــابة الســيناريو، فلا يمكــن لنا أن نكتب سيناريو دون أن نـــفكر في استعمال أدوات الــــلغة السينمائية كاملة.
شاركت إبنتك ماجدولين وإبنك ياسر، وهما طفلان، في تشخيص دورين في الفيلم، وكان أداؤهما أكثر تلقائية من بعض الممثلين المحترفين، هل إشراكهما في التشخيص هو نوع من التوثيق لهما بالصورة والصوت أم لهما ميولات فنية؟
لقد ذكرت من قبل بأنني أومن بالاختصاص ولا أتطفل على المهن رغم أنني وبكل تواضع أتقن بعضها جيدا، لهذا تراني في بعض الأحيان قاسيا في قراراتي وخاصة أثناء التصوير.
لم يســــبق لي يوما أن منحت ممـــثلا دورا لا يستحقه، فقط لأنه تربطني به صداقة أو غاية أخرى. فالكاستينغ هو نصف نجاح العمل وهو فـــرصة فريدة لاختيار أجود الممثلين والممثلات، وذلك لأن المغامرة مع مـــمثــــلين غير أكـــفاء هي بمثابة انـــتحار وفـــشل مسبق للمشروع السينمـــائي. لهذا، فـــأنا حريص على أن يــكون تـــعاملي مع ممثـــلين محترفـــــين.
لم يــــكن هذا هو أول ظـــهور لماجدولين وياسر على الشاشــــة، لــــقد سبق لهما أن شـــاركا في مجموعـــة من أفـــلامي التلفزيونية وعمرهما لا يتجاوز ثلاث سنـوات، وفي سن السابعة أصبحا متمـــــكنان من بعض الأدوات التي تـــخول لهما تشخيص بعض الأدوار الثانــوية في أعــمال درامية، بحـيث أصبحا يعـــرفان ما معنى الكاميرات المتعددة الزوايا في تصوير السيتكوم، وما هي المونو كاميرا أثنــاء تصوير فيلم، وكيفية التعامل مع زاوية واحدة أو زوايا متعــددة، وأين تــوجد زوايـــا الإضاءة والممر الذي يـــجب أن يسلكانه حتى تكون الصورة واضحة، وأين يـــقــفان حتي يمــكن لملتقط الصوت (البرشمان) أن يلــتقط صوتهما بســــهولة… وإلى جانب هذا فهما يعرفان جيدا ما معنى “راكور” الملابس أو الماكياج… إلى غــير ذلك من ألأمور التقنية.
لم يـــكن اختياري لهما عبثا، مرة أخرى، بل كان اختيارا صائبا، لأنني كنت واثــقا من كونهما سيؤديان دوريهما بكل تفان، بحـــيث لا أرى فيهما أبنائي. لم أقم بإقحامهما في الفيلم بشكل مجاني، بل كنت أشـــد قسوة في تعاملي معهما كمخرج لأنهـــما أبنائي، زيــــادة على هـــذا لم يكن بالإمكان التعامل مع أطفال آخرين لسنا متيقنين من مستوى أدائهم رغم إجراء الكاســـــتينغ، فـــفي أغـــــــــلب الأحــــيان نــجد أنفـــسنا أمام مفـــاجــآت غيـــــر سارة تجعـــلــــنا نادمـــين على ما اتخذنــاه من قـــرار.
ليس بالضرورة أن يكون ابن البط عوام، لكن المخرج عليه أن يــكون صادقا مع نـــفسه ومتيقنا من اخـــــــتياره.
اشتغلت في التلفزيون لمدة ليست بالقصيرة قبل إقدامك على إخراج “أركانة”، وهو أول فيلم سينمائي روائي طويل لك، ما هي دواعي هذا الإنتقال من التلفزيون إلى السينما؟
الكثيرون من الناس لا يعرفون بأنني انتقلت من السينما إلى التلفزيون ولـــيس العكس، حــيث أن دراســــــتي الأكاديمية كانت سينمائية في البداية، فأنا خريج المدرسة العليا للسينما ببروكسيل، عاصمة بلــجيكا.
أما التــــحاقي بالقناة الثانــية (2M) غداة انطلاقتها سنة 1989 فقد أضاف الكثير إلى تجربتي، بحيث انتقلت من العمل بالـمونو كاميرا (الكاميرا الواحدة) إلى العمل بمجموعـــة من الكامـــيرات ومن زوايا مختلفة في نفس الوقت. وهذه التقنية الجديدة مخالفة لما تعودت عليه في السينما. فالبرامج التلفزيونية المبـاشرة أو المسجلة لــها طرق إخراجــية مغايــرة، وذلك لأن السينما تحتاج إلى وقت وتــأمل أكثر في حين أن العبارة المتداولة في التــلفزيون هي:”لا وقت للضياع”، بسبب أن التلفزيون هو أكبر مستهلك للصور، لدى علينا أن ننتج في وقـــت وجــيز أكبر عدد من الصور.
المخرج، عند إنجاز الــبرامج التلفزيونية، هو الذي يمـــرر الصور أو اللقــــطات التي ســــــيشاهــــــدها المتلقي على شاشة التـــلفزيون، لهذا ينبغي أن تكون لديه القدرة اللازمة على استـــــيــعاب مجموعة من اللقطات الآتية من مختلف الكاميرات وتمريرها بسرعة فائقة إلى المتلقي. فاختيار الـــصور أو اللقطات واحــدة تــــلو الأخـــرى لم يكن عبثيا أبدا وذلك لأن هذا الترتيب يحمل في طياته لـــغة سينمائية يتمكن المتلقي من فك شفراتها. لقد جعلتني هــــــذه التقنيات الجــــديدة أفكر جيدا، خصوصا وأني لاحظت بــأن زوايا الكاميرات في برامجـــنا تكاد تــــكون واحــــــدة، وبــــأن كل الــلقطات تــتشــابه فيما بينها وليس لـها تأثــــير سيميولوجي على الــــــلغة السينمائــــــية. وعليه، استغرق تفـــــــكيري في الأمر عدة أسابـــــــيع إلى أن اختمرت في ذهني فـــكرة إدخـــال بـــــعض التعديــــلات من بيـنها إبــــعاد زوايا الكامـــيرات ومنح كل كاميرا خصـــوصيتها، هذا زيادة على إدخال تقنيات الكـادراج السينمــائي في إنجاز هذه البرامج.
لقد كانت القناة الثانية في بدايتــــها آنذاك، وكان الطموح كبيرا، الشيء الذي فرض علي العودة إلى صفوف الــدراسة لكي أتمكن من فـــهم خصوصيات المـــــــتلقي لبرامج الشاشة الصغيرة وتملك الأدوات اللازمة للقيام بالتغييرات المشار إليها أعلاه. وفعلا، التحقت بالمعهد الوطني للسمعي البصري بباريس وحصلت على دبــــلوم في الإخراج الـــتلفزي.
كل هــذه الأمور والتجارب المتواضعة جعلتني مؤهلا لإدخال مجموعــة من التقنيات السيميولوجية على البرامج المباشرة التي كنت أقـــوم بـــإخراجها، وهي اليوم في ملك الجميع، وبعودة إلى الوراء أي إلى لحظة بداية القناة الثانية سنلاحظ هذا التغيير الجذري الذي حصل، وسنـــرى كـــذلك بأن البرامـــج الحوارية التي كنت أضطلع بإخراجــــها فيها لمـــسة سينمائية تتمثل في وجود لامـــــورس والكاميرا الـــمتحركة وغنى اللقطـــــــات وديناميكيتها وأســــلوب التسلسل الدرامي… لم يكن إذن إخراجي لتلك البرامج تلفزيا بل سينمائيا، ولعل هذا الأسلوب في التعامل مع زوايا التصوير ومع الحدث أو الموضوع المنــاقش في البرامج الـــمباشرة وغيرها هــو الذي دفعني إلى التفكير جــيدا في إدخال الدراما إلى القـــناة الثانية.
ورغم قلة الإمكانيات في ذلك الوقت استطـعنا أن ننـــــــجز أول عــمل درامي وهو برنامج “وقائع”، الذي يعتبر مـــزيجا بيـــن الدراما والـوثـــائقي، وحسب علمي لم يكن هـــناك برنامج مماثـــل له في القـــــنوات التلـيـــــفزيونية الغربية، بــــــــل كان هناك برنامج قضائي يشبهه عنوانه “أدخـلوا المـــــتهم” كان يبـــــــث على القناة الفرنسية “تي في 1″، وهو برنامج يـرتكز على الحكي فـــقط من تنشيط الصحفي الكبير “بيير بالمــار”. إلا أن الجـــــديد في برنامجنا هــــــذا يتمثل في التركيز على التشخيص وإعادة بناء الأحــداث. لقد لقي برنامج “وقائع” إقــــبالا كبيرا لدى الجـــمهور، لأنه كـــان شـــيقا ومــثيرا، ومن نتائج هذا النجاح اتصال الصديقين عبد الإله الحمدوشي (الروائي والسيناريست المعروف) والراحل ميلود حمدوشي (الملقب بكولومبو) هاتفيا بي، حيث تبادلنا أطراف الحديث حول البرنامج وفي النهاية اقترحا علي الدخول معهما في مشروع سلسلة من الأفلام البوليسية. رحبت بالفكرة، بحكم أن الراحل ميلود كاتب وضابط شرطة معروف بتفانيه في عمله وحاصل على شهادة دكتوراه في علم الإجرام، وبحكم أن عبد الإله في رصيده مجموعة من الروايات البوليسية وغيرها. تمخض عن اللقاء بيننا الإشتغال على رواية بوليسية أثمر فيما بعد إنجاز أول فيلم بوليسي مغربي بعنوان “الحوت الأعمى”، الذي يعد أول فيلم بوليسي بمعايير دولية في العالم العربي، حسب الكاتب الأمريكي الدكتور جوناتن سمولن.
بعد كل هذه التجارب التلفزيونية المتواضعة كان لابد من العودة إلى السينما، مجال دراستي الأكاديمية الأولى، لأن حنيني إليها كان حاضرا بقوة في وجداني.
أجرى الحوار وقدم له: أحمد سيجلماسي.