عرافة البلدة تجلس القرفصاء والنساء من حولها يشكلن دائرة شبيهة بعين كل واحدة منهن.. توزع نظراتها عليهن دون أن تبتسم، تتأمل الوجوه كأنها تراها لأول مرة.. وحين اطمأنت بأن العدد هو نفسه كما عدته في آخر اجتماع قالت:
«البلدة غيرت عاداتها، ولم تعد كعهدها السابق منذ أن وارينا شيخها التراب (قالت ذلك وهي تهيل حفنة من التراب على رأسها)، روح الشيخ لم تعد تحوم في البلدة، والأسد، لأول مرة، يخلو عرينه من العظام، والكلاب لم تعد وفية ولم تعد تحرس باب البلدة.. وأمنا الأرض حرنت فلم تقوَ على حضن أي نبتة في تربتها..لقد هجرتها النعمة وحرثتها اللعنة…
تنهدت واهتزت ثم أردفت: «وأما «الصخرة» التي في الوادي فقد تصدعت وشرخها في تصاعد مستمر.. إيه.. يا أيتها الصخرة المقدسة، أنت الآن وحيدة.. بالأمس كنتِ مرآتنا التي عكست أيامنا ديباجة خضراء.. واليوم، حين أصبح بعضنا يتأخر عنك، بتنا في وادٍ وأنت في وادٍ..والماء في وادينا ليس واحداً..أنت سمكة فيه تتبخترين.. ونحن.. آه.. ماذا نحن؟.. نحن جزء من المستنقع الذي نغوص فيه..»
أمسكت العرافة عن الكلام غير المباح ولم تدرِ أكانت تحدث نفسها أم كانت توجه تراتيلها لجموع النساء.. ثم مدت قدميها المتسختين لتنهال عليهما النساء متمسحات بالقبلات فيما هي تصدر صوتاً أشبه بشخير عنزة تُذبح في مسلخ.
العانس لا تحضر- عادة – اجتماع نساءٍ شبيهٍ بعرض كرنفال خاص بالدموع، انشغلت، بدلا عن ذلك، بكسر جرتها الوحيدة وأضربت عن الطعام ورفضت مشاركة النساء النحيب والبكاء..لقد آمنت بأن مُقلَهن، وإن كانت لا تذرف دموع تماسيح، فهي مجرد أوعية يسيل منها ماء ساخن.. وبالمقابل نساء البلدة يؤمن بأن العيون التي في الرؤوس، كل الرؤوس، لم تخلق إلا للتلصص والبكاء.. على الأقل هذا ما تسفر عليه اجتماعات عرافتهن.. لذلك اعتدن البكاء بلوعة وحرقة مصحوبتين بكلمات لا تكاد تبين فيها من الهذيان ما لم تقله سجاح التميمية، بعضهن لا يدرين أبداً لِمَ لا تسيل دموعُهن سوى من عين واحدة فيما الأخرى ضوء كاشف يرصد الذي يحدث هنا وهناك.. يا للغرابة! عينان في رأس واحد، لكن ليستا من بطن واحدة.. اليمنى تدمع، والثانية لا، وهما، في بعض الوجوه، مثل لغة من ينتظر ولغة من لا ينتظر في مدن لا تعترف بالقواعد؛ والعانس نكاية بهـن – وربما بها – أسدلت شعرها لأول مرة وجلست تحت أشعة الشمس تفتله ضفائر على شكل طاقين، الطاق الأول لفته أشروطة حول عنقها، والثاني قصته و أقسمت ألا تدعه يفرع من جديد حتى يكف أهل القرية عن مناداتها بالعانس ..
رجال البلدة تعودوا على غياب الزوجات كلما نادت العرافة ودقت الطبل إيذاناً بقرب اجتماع تقول عنه كل مرة بأنه «لأمر هام»، وكل من تتخلف من النساء تلحقها لوثة «الصخرة» التي في الوادي و التي يحرص الرجال، ليس على التبرك بها فحسب، إنما بتسلقها كما الأطفال الصغار ثم الجلوس فوقها كنَسانِس متربصة.. عادة يحصل هذا كلما دعت عرافتهم لاجتماع تقول عنه إنه مهم. ويبدو أن أهميته لا تكتمل إلا إذا خُتم بدموع تسيل مدراراً، لكن من عين واحدة.
الشاب (س) نصحهم و صرخ فيهم أكثر من مرة بأن ما يفعلون ليس مكتوباً في ربائد البلدان التي زارها، وأن هذا سيجلب العار لهم ولذرياتهم، ولن يمحو أثر ذلك سوى الأرض التي تركها الأجداد في أعناقهم.. وطالبهم، بدل التبرك بصخرة لا تُكوِّن بناء، بالتفكير في حرث الأرض اليباب وسقيها بالعرق لعلها تحضنهم وما يزرعون فيها؛كان المسكين يكرر، دون أن يتقرر، ما دأب على قوله وفعله:
«لو احتضنت تربة الأرض عرق أهلها لأنبتت وأثمرت كما في تراث البلدة».
قالوا له بحدة: «أنت لا زوج لك، ولا بيت، ولا نعاج،ولا دجاج..فمتى تعي أن هذا لا يعنيك فدعنا لمصيرنا.» أضافوا: «هل تاب العطر الفاغم على خدر امرأة خاطئة فنتوب.. تلك حياتنا فَأطرق رأسك عنا.»
وحين عيروه بأنْ لا زوج له فكر في عانس البلدة، و في الأرض وفي الكلب والأسد، وتمنى لو تعود الحال كما في الأيام الخوالي..تمنى لو يحرس بابَ البلدة كلبُها ويعود وفياً كما كان.. وتمنى لو تتزوج العانس.. وتمنى… وتمنى.. أشياء كثيرة تمناها، ولم يخرج من تمنيه غير الأسد:»لا بأس لو يخلو عرينه من العظام أو على الأقل تقِلّ» هكذا فكر.
في اليوم المعلوم لم تدق العرافة طبلها..ولم يُسمع لها صوت، فران على البلدة صمت رهيب.. رهيب… أعقبه حزن شديد أمض القلوب حين عثرت النساء على عرافتهم ميتة وقد أمسكت كفها الأيمن وبسطت الأيسر، أما قدماها اللتان كانتا تمشيان لا على روح البلدة بل على عقول من فيها، فقد شكلتا حرفاً من حروف أبجديات البلدة حار الأهالي في فكه… وحين حاولت النساء بسط الكف الأيمن راعَهُن هول ما رأين وسطه، ثم بدأن ينسحبن واحدة تلو الأخرى، وحرصت كل واحدة – وهي تخرج – على أن ترمي خلفها، دون أن تلتفت، شعرة منتوفة من رأسها، رأسٍ لا يرى النور إلا إذا شم رائحة الموت.. ولم تشأ أي منهن، بعد ذلك، كشف السر.
وظلت مع الجثمان أكبرهن سناً لفعل اللازم ،بدأته بجمع الشعرات ودسها في الكف الأيسر. أمرت بعد ذلك بغسل العرافة في الوادي حيث الصخرة.
الرجال خمنوا أشياء وأشياء.. وشاع في البلدة أن العرافة لم تمت، وأن الجثة ليست لها، إنما شُبهت لهم فقط.
قال أحدهم:
– الموت حق مؤجل ونهاية كل واحد ..والعرافة، أليست واردة مما ورد السابقون؟..
– بلى، يجيب بعضهم، لكن مستحيل أن تموت دون أن تمهد لمثل هذا الحدث..
آخرون جزموا أنها ماتت..نعم ماتت وبدون فلسفة، لكن ما حز في قلوبهم هو رحيلها دون أن تفي بوعد كانت قد قطعته بحيث تدعو إلى اجتماعها الأخير نساء البلدات الأخرى.. وهكذا تموت وفي نفسها بعض من أسرار كل اجتماع عقدته.. ماتت وفي كفها الأيسر سر البلدة التي غيرت عاداتها.
الشاب (س) سخر من بكاء النساء وحزنهن معتبراً عقولهن قد قُدّت من الصخرة التي في الوادي، كما سخر من عقول بعض الرجال التي اعتبرها مثل النباتات في القوارير، لا تكبر إلا بالحجم المتاح لها..هناك تتقزم حتى تذبل وتموت.
وحين شيعت جنازة العرافة قال الشاب للباكين من الحاضرين:
«وفروا دموعكم لأرضكم، وحين ينزف البكاء دموع عيونكم استعيروا عيون غيركم لتبكوا بها.. دموعكم تطهركم لا صخرتكم التي لا تُكَوِّن بناء، وحين تحضن أرضكم دموعَكم الطاهرة ثقوا أن البلدة ستعود لعاداتها..هذه وصيتي لكم.»
العانس أنهت بموت العرافة إضرابها عن الطعام ولم تكن لتنسى أن تجمع شعرها الذي أسدلته، وأهم من هذا كله أصبحت تقول ما يقول الشاب.. شيء ما بداخلها منحها طاقة للكلام المباح وغير المباح. هي نفس الطاقة التي أمدت غير الباكين من المشيعين قوة غريبة وملأت نفوسهم بهاء مُشِعًّا هُم في حاجة إليه.. نظرتهم للشاب – بعد ذلك – تغيرت ولأول مرة في تاريخ البلدة يُرى الشاب صحبة أحد من أقرانه.
إنها أيام ليست كالأيام تلك التي أصبحت تعيشها البلدة، إذ في اليوم الموالي من دفن العرافة يستفيق الأهل وإذا الدنيا ليست كما يعرفونها: الكلب يبسط ذراعيْه في وصيد البلدة يحرسها، والعانس طرق بابَها أكثر من خاطب واحد رفضتهم جميعاً. وليلة الدفن شاع في البلدة بأن روح شيخ البلدة عادت تحوم كما في كل ليلة، وآخر ظهور له سمعوه يقول وهو يدير ظهره للصخرة التي في الوادي:
«آن الأوان، لقد آن الأوان أن تترجل النساء من على الصهوات ويجرب الرجال عقد اجتماعاتهم بدلهن.. ولتكن «الصخرة» بداية كل البدايات».
ويجتمع الرجال فعلا (الرجال فقط. أول مرة يحصل ذلك في تاريخ البلدة)، وفي الاجتماع تعددت الآراء، كثر اللغط، وعلا الضجيج والعجيج واختلفوا فيما يجب فعله…
أطول يوم عاشته البلدة هو الذي تلا دفن العرافة، الأطفال أنفسهم ظلوا النهار كله وجزءً من الليل يتفرسون في صخرة القبيلة التي في الوادي، جفاهم النوم، باتوا يرقبون شبح شيخهم الميْت الذي قيل لهم بأنه ظهر في البلدة بعد انقضاء مراسيم التشييع، شكلوا دائرة كبيرة حول الصخرة، بدوا كأصنام صغيرة، وحدها رؤوسهم الصغيرة تتحرك بشكل آلي في كل الاتجاهات، كانت عيونهم تستطلع ضيفهم العزيز بالطلائع والرواد طمعاً في التبرك به، غالبوا نومهم لعل الشيخ يظهر وقد قيل لهم من يتبدى له شبحه يفز بمفتاح القرية السحري، أما الرجال فكأن على رؤوسهم الطير منذ أن أخبروا بأول اجتماع سيعقدونه بدل نسائهم اللواتي توارين عن الأنظار؛ لأن عرف القبيلة يقضي ألا ترى إحداهن الشمس بعد دفن العرافة إلا بعد مضي أسبوع كامل.
في أول أسبوع، وفي اليوم المحدد يجتمع الرجال، الأطفال أيضاً كانوا هناك باعتبارهم رجال الغد، وبسببهم كثر اللغط،والهرج والمرج، وبدت هامات بعض الرجال، في الاجتماع، مثل أعجاز نخل تزيدها طريقة جلوسهم الغريبة إثارة، أغلبهم تقوس ظهره أو جعله يتقوس عمداً لسبب ما، منهم من كان يرفع يديه إلى السماء كأنه يحمل شيئاً بينهما… آخرون كانوا ينكشون أنوفهم، أو يهشون الذباب، ومنهم من كان شارداً، سادراً في الذي سيحصل.. وحده الشاب (س) كان يبدو هادئاً، وبرباطة جأش تقدم الجمع، وقف حتى يراه الجميع، وصفق في يديه، ثم قال:
«إنها البداية يا رجال، أن نكون هنا، ومعاً، إنه أمر مهم».
عقب شاب آخر:
«لم نعهد هذا التلاحم سوى أمام قصعة من الكسكس أومن عصيدة.. طيب لماذا نجتمع بدونهما؟».
انطلقت ضحكات من كل الزوايا تلتها همهمات غير مفهومة تدعهما إشارات من أيادٍ ملوحة في الهواء تقترح شيئاً غير مفهوم، وبعد لأْي ران على الجمع هدوء حذر لكنه صاخب أشبه بحبل مفتول طوّق الأعناق نحو وجهة واحدة عرجت حيث يجلس شيخ بدين وأدرد، وحين جحظت العيون إليه انتفض كطائر خرافي بلله القَطر، أثوابه الفضفاضة حركها كجناحيْ فرناس فحملت حركتها ريحاً حموماً لفحت الوجوه الواجمة، بعضها نالت نصيبها من اللطم حين رقصت على محياها.. اهتز الشيخ واهتش، أشار إلى الشابيْن ثم قال بصوت أجش:
«يا ناس، الأول عابث والثاني عائث، فَلِمَ يتحدثان باسمنا».
/ …/
لم يحضر رجال القرية جميعهم، ومع ذلك بدا المكان غاصاً.. ولولا هذا الاجتماع لما جزم أحد بأن الشيخ منهم، بدا أغلبهم لا يعرف الآخر، والشيء الوحيد الذي يجمعهم هو الصخرة التي في الوادي، وهي ذاتها التي يجتمعون بسببها اليوم.
الصخرة صدت عنهم هجمات الأعداء مرات عدة، لكنها بالمقابل سدت عنهم منافذ نسمات هواء، وحالت دون أن تخترق مسام رؤوس قُدت من صخرة سكنت من الأهالي القلوب والأهداب، ظل أكثرهم لا يفكر سوى في تسلقها، يفعلون ذلك تباعاً، والعجيب أن كل فرقة من رجال القبيلة تعرف دورها وتنتظره كما المطر، وإذا جاء دور إحداها ينط الرجال فوق الصخرة ،ثم يبدأون في إطالة النظر إلى الأفق في انتظار الذي سيأتي ولا يأتي..
تكلم الشاب مرة أخرى وقال:
«نحن الذين يعرفنا الناس بأهل الصخرة لم نعد نفهم ما معنى أن يلصق بنا هذا اللقب، والحق أن عقولنا، وكيف نفكر لها نصيب من هذه الصخرة اللعينة».
نطق الشيخ البدين، وبدا حكيماً هذه المرة، وقال:
«تُعرف الأشياء بأضدادها عند أجدادكم العرب يا ناس»..
انتبه شباب القرية إلى ما يرمي إليه الشيخ، وعقدوا العزم على أن يكونوا من أهل الصخرة، لكن مجرد صخرة في الوادي فقط تسكن أرضهم لا عقولهم، ثم قالوا للشيخ:
«اقض ما أنت قاض، فلن تجد بيننا سوى راض».
تكلم الشاب بغضب، وتكلم الشيخ وأسهب، وأدلى الآخرون بدلوهم.. ورغم تضارب الآراء اتفقوا على تحرير وثيقة سموها «الصرخة»، جاء في بنودها:
– تسلق الرجال الصخرة محظور، محظور..
– الانشغال يجب أن ينصب ليس على أعلى الصخرة، إما بمعرفة ما تحتها.
– هزها يوماً بعد يوم، والعمل على تحريكها مرة بعد مرة.
– الأرض بدون الصخرة لنا، والبيت بدون الصخرة لنا، وليس منا من يغشنا أويخاصمنا.
وفي المساء حين عاد الرجال إلى دورهم حملوا البشرى، وزفوا لزوجاتهم بنود الاتفاق الذي خرج به الرجال من الاجتماع، وحدها عانس القرية خرقت القاعدة، هي أولا ضربت عرض الحائط بعرف القبيلة، وظلت تتحرك في القرية رغم الوفاة، وثانياً كانت معهم في الاجتماع متنكرة دون أن يحس بها أحد.
وحين انقضي أسبوع حداد نساء القرية، اجتمعن عند أكبرهن سنا، قالت حيزبون منهن:
«إذا لم يتسلق رجالنا الصخرة، هذا معناه أن يفكروا في ظهر يتسلقونه بدلا عنها، ولن يكون سوى لحمنا».
قالت أخرى مؤكدة:
«أن يتسلقوا الصخرة خير من أن يتسلقوا ظهورنا»
وحسمت الثالثة النقاش وقالت:
«رجل فوق الصخرة خير من عشرة تحتها أو حولها».
العانس لأول مرة تحضر اجتماع نساء القرية، شجعها على ذلك بنود اتفاق الرجال، جلست بينهن كما العروس، لم تنبس ببنت شفة، وعلى غير عادتها ظلت هادئة، وأمام لغو النساء فكرت في تاريخ البلدة، وفي الصخرة التي تجثم على صدور الكبار والصغار، والذي حيرها أكثر هو كيف أن الأهالي ظلوا ينوءون تحت ثقل صخرتهم، وكيف صبروا كل هذا الوقت دون أن يصدر عنهم رد فعل ما، وكيف تاهت عن أفواههم مجرد صرخة… ظلت سادرة، غارقة في بحر تأملاتها، و حتى إذا لاح في الأفق بوادر يوم زينة يرتقبه الأهالي، وحتى إذا تغيرت الذهنيات بعد إسفار الصبح عن القرية ستتخلص قائبة من قوب وإلى الأبد.
ولا زالت النساء بين عقد وحل وشزر وسحل إلى أن عقدن العزم على مقاطعة الأزواج، ومنعهم من دخول بيت الزوجية حتى يغيروا من بنود الاتفاق غير العادل، والتفكير في صياغة «مدونة جديدة للتعامل مع صخرة القبيلة».
ميمون حـرش