أشرقت الشمس مرسلة أشعتها الذهبية على القرية المترامية بين قمم الجبال، خرج «جلول» من بيته الطيني؛ بحذائه البلاستيكي المثقوب من الأمام، وجلبابه الرمادي المرتق من الخلف والملطخ من الأمام ببقع الطعام والطين الأسود، ووجهه الذي يميل إلى سمرة خفيفة تعلوه بعض البثور وبعض النمش الخفيف، وشعره الأسود الكث والمتجعد..
سار يجر من خلفه وسط طريق غير معبد مغبر عنزته البنية الصغيرة قاصدا المرعى، وهو عبارة عن مرج يبعد بحوالي 3 كيلومترات عن القرية، كان يسير دون أن يكترث للحصى الذي يضايق قدميه والمتسرب إليهما من ثقب الحذاء، يستحضر في ذهنه كلام والده، وهو يقول بصوته الجهوري الأجش محذرا: «إياك أن تغفل عن العنزة، وإلا فإنك لن تحصل على ملابس جديدة تلك التي وعدتك بها إن اعتنيت بالعنزة، حتى تكبر، أتفهم إياك أن..»
قاطع مرور صبية صغار من أمامه قاصدين المدرسة حبل أفكاره، تفرسوا في هندامه العتيق والمتسخ، ومحياه الباهت، وتمتموا ببعض الكلمات، والتي لم يكترث لها البتة، وواصل سيره وبين الفينة والأخرى يلتفت إلى الوراء ليتأكد من أن العنزة لا تزال مشدودة قدمها إلى الحبل…
بعد ساعة تقريبا من السير، وصل المرعى، وكان قرص الشمس قد ارتفع وسط السماء بعض الشيء، ربط العنزة إلى وتد خشبي بعدما ضغطه إلى الأرض بواسطة قطعة حجر، وظل واقفا يحدق إلها وهي تلتهم بنهم العشب الطري المبلل بقطرات الطل…
ارتفع قرص الشمس في السماء، وارتفعت معه درجة الحرارة بعض الشيء، ترك العنزة تلتهم العشب، وخطا بضع خطوات في اتجاه شجرة التين الوارفة الظلال، جلس تحتها ليريح قديميه المتعبتين والمتورمتين من كثرة الحصا الذي تسرب إلى حذتئه، أزال الحذاء من قدميه، ثم اتكأ على العشب الأخضر وهو يحدق إلى زرقة السماء، تناهى إلى سمعه صوت والده مجددا وهو يحذره بينما كان يخطو عتبة باب المنزل: «إياك أن تغفو، ابق يقظا مستيقظا، الكلاب المتوحشة تطوف المراعي بحثا عن النعاج الفتية والعنزات الشهية، ابق متنبها»…
كان صوت والده يتردد في داخله ويجعل قلبه يخفق بشدة، أجال ببصره جهة المرعى، كانت العنزة لا تزال تلتهم العشب بشره، بدأت تغزو ذهنه بعض الصور الجميلة، رأى أن العنزة قد كبرت وولدت جديين صغيرين، رأى أنه يرتدي قميصا قصيرا جديدا كل الجدة، منمقا بمربعات ملونة، وسروال جينز أزرق رزقة غامقة، ويحتذي حذاء جلديا بني اللون، وأمه تبتسم في وجهه ابتسامة رضا وغبطة أما أبوه فكان ينوه بما قام به في سبيل رعاية العنزة….
لقد غلبه الوسن دون أن يعي، وسيطر عليه دون أية مقاومة، كما كان يحدث معه في كثير من الأحيان ذلك أنه يصحوا كل صباح باكرا، بل أبكر، بدا حلمه كأنه حقيقي، لم يتخيل بأنه يحلم شأنه شان كل أحلام الصباح، حينما يكون النوم لم يستول على الإنسان كل الاستيلاء…
حطت بعض طيور الدوري فوق الشجرة، وبدأت تصدر أصواتها المزعجة، وترفرف بين أوراقها، على إيقاع أصواتها المزعجة، فتح «جلول» جفنيه مرتاعا أشد الارتياع، فرك عينيه وحدق جهة المكان، خفق قلبه الصغير، وشعر بقشعريرة باردة تدب في جسده عندما لم يجد العنزة حيث تركها قبل لحظات..
طفق يحدث نفسه بصوت متهدج وشفتاه تختلجان وعيناه البنيتان تلتمعان: لقد تركتها هنا، أين ذهبت، ثم إنني لم أغفو سوى إغفاءة خفيفة..»
ثم استطرد وهو ينهض من مكانه وقد عاد إليه بعض الهدوء: «لابد أن تكون في الجوار فقط، إنها لن تتيه على كل حال»..
دار في المكان كله تقريبا دون طائل، لم يجد للعنزة الصغيرة أي أثر لا في نفس المكان ولا في الجوار. شرع يلطم خديه بكفه وقد طفرت دموع غزيرة من عينيه، نادى عليها بصوت عال، لكن صوته ارتد إليه، كان يرتعش ارتعاشا شديدا من قمة الرأس إلى أسفل القديمين، وبدأ ينتحب نحيبا شديدا من سمعه سيتألم لحاله، دار مرة أخرى حول المكان كله عله يقتفي أثرها، فتش في الخنادق وتحت الأشجار، لكن بدون جدوى، جلس القرفصاء دافنا وجهه في يديه، وصوت والده يتردد داخله قويا كهزيم الرعد: إياك أن تغفل عنها، وإلا لن ترتدي قط ملابس جديدة..»
أحس بحمى شديدة تسري في جسده الصغير، وسعل سعالا خفيفا، وطفق ينشج نجيشا متشنجا، بدأت بعض الصور تمور في مخيلته، قميص منمق بمربعات ملونة، سروال جينز، عنزة صغيرة، وجهه والده وهو يحذره، يد أمه وهي تربت على كتفه…في خضم تلك الصور، أغمي عليه…فتح عينيه، رأى وجه أمه جالسة أمامه، تحدق إلى جسده المرتعش، ورأى وجه أبيه متوجما ينظر إليه شزرا، تذكر العنزة، تذكر طيور الدوري، تذكر شجرة التين، ثم غاب عن الوعي مرة أخرى….
نسيت أن أقول بأنه في اللحظة التي كان نائما، مر من أمامه رجلان طويلان، كانا يقصدان السوق مشيا على الأقدام، ولما لمح الطفل نائما تحت شجرة التين، اتجها صوب العنزة، وفكا وثاقها، وكمما فمها، وأدخلاها في كيس من الخيش، وحملها معهما إلى السوق !!!!
عبد الوهاب أودير