جلس قبالتها مدحوراً، تملى وجهها المستدير، شيء ما صاعق ومستفز في ملامح هذا الوجه، تقاسيمه مألوفة لديه أكثر من بقية كل الوجوه التي صادفها، يعرفها وتعرفه، بل إذا قُدر لها وله أن ينسيا كل الأسماء، فاسم وهيبة ومختار، تحديداً، يحرنان كحمارين تركب الذاكرة ظهريْهما.. ولأنها تعرف أنه يشتهي فمها كما هو مسطور في كتاب حبهما «ألف قبلة وقبلة وواحدة أخرى»، كانت تزم شفتيها بشهوة، تحركهما، كاشفة عن شنب، تبسم بمقاس، وبدون صوت كانت تتملاه هي الأخرى، عيناها تثرثران، لكن لا يُسمع صوتها، عيناه هو صامتتان.. في وادٍ سحيق كان يتداعى كصخرة امرئ القيس، تحطه الذكريات ليبكي بين يدي وهيبة التي أحبته وأخلصت له، ثم شاء-لا القدر- أن ينفصلا..
كان متأكداً بأنها تكلمه وهي تنظر إليه بصمت راهبة، حاول أن يفهم رسائل من شفتين مرسومة عليهما قبلاته، «لم يمت أثناءها، في الماضي، لذلك فهو الآن ليس أهلا للعيش بعدها»، وربما لأجل هذا هو هنا عندها.. يريد أن يسترد ما فضل من قبلات لم يعرف، عن صلف، كيف يصون رضابهما، وحين عجز عن فك شفرة الشفتين المتحركتين صرخ في وجهها بدون صوت:
– «أيتها الغانية، هاتِ ما عندك، ما عاد يهمني ما ستخبرينني به»..
تخلى مختار عن وهيبة بعد أن فشل حبهما، لتسقط وهيبة من عَلِ كتفاحة، لم تصعد بعدها أبداً، ظلت تحت، وهناك سكنت بيتاً لا يعرف الناس كيف فرع في اليوم الموالي، نظروا حولهم فوجدوه قائماً، داخله، حبست نفسها لمدة غير قصيرة، وبعد أن ظهرت للناس كانت قد غيرت جلدها، لم تكن هي تماماً، وبقدر ما طفح حسنها أكثر بقدر ما بات الناس يصدقونها كحذام اليمامة؛ بدأت القصة مع أول خروج لها من البيت حين صادفت، في أول ظهور لها، عانساً في طريقها، تفرست في عينيها ثم قالت لها بدون مقدمات:
– «هيئي نفسك، خلال أسبوع ستُزفين لعريسك»..
والعانس التي عمرت طويلا ولم تلق إليها بالاً، ستغير رأيها بعد أن ألفت نفسها في بيت زوج طالما حلمت به، وها هي تظفر به خلال أسبوع تماماً كما أخبرتها وهيبة… شاع الخبر.. تناقله الداني والقاصي، فصارت مشهورة بقارئة العيون، تفك طلاسم العيون الكاتمة، والأكثر حرصاً على عدم إظهار ما لا يلزم أن يظهر..
هو أمامها الآن يثقل رأسه، يا لصداع الرأس الذي يحمله، يمور كفرن، لم يقوَ على إيقاف ومضات الاسترجاع المنزاحة فيه، كان يغرق في هواجسه، ينظر إليها كمعتوه، ويغرق، ينظر وينظر، ويغرق، بعد حين سيصحو بحركة من يدها، هشت بها على وجهه..كان دائما يغرق في بحر تأملاته دون أن يجزم هل يحلم أم يعيش واقعاً؟..
إنه بين يديْ وهيبة، من يصدق هذه المفاجأة، لم يخامره شك أبداً بأنها هي، إنها هي وهيبة، اكتنزتْ لحماً وطبقت شحماً، هذا كل ما تغير فيها، بَيْد ما حيره هو عيناها، يقيناً ليستا مثل عيني وهيبة، برق خلب يشع منهما، يصرفه ويُضعف لا بصره بل بصيرته.. لكن ما الذي يجعله متأكداً وجازماً أنها وهيبة.. ألا يمكن أن تكون واحدة أخرى؟.. (يخلق من الشبه لا أربعين بل الملايين).. أم تراه يحلم كما يفعل السرناميون؟..ومثلهم كان يمشي، وبدل أن يدوس بقدميه على الأرض، كانت الذكريات ترفعه ثم تهوي به بين يدي وهيبة..من حبها تأذى، ولم ترحل إلا بعد أن أودعت قلبه جمر الغضا.
كلما أمعن النظر فيها يضعف بصره أكثر، وهذا ما يجعله لا يقر بشيء.. مرة يجزم بأنها وهيبة بشحمها ولحمها.. وأخرى ينفي.. إنها حيرة صادمة صامتة تقتله من الداخل مثل مسدس كاتم الصوت، يحس طلقاته، ولا يسمعها.. يرج صوتها في أذنيه، لا يسمع صداها غيره.. داخل سريرته فيض سؤال:
«يا إلاه السماوات، أيكون قدرك في صفي هذه المرة؟..»
كانت تهجم عليه الذكريات كجيش من النمل ينهش كيانه كله، تنسل التفاصيل والجزئيات على صفحات عينيها كلما تأملها.
تذكر بين يدي وهيبة كل صغيرة وكبيرة، خجولاً هذه المرة كان يرسل نظراته حين صحا، عيناها بصاصتان وهي تحدق في عينيه، كانت عيناه هو نمامتين (إذا لقيناهم نمت عيونهم، والعين تظهر ما في القلب أو تصف)، قالت له وقد التقت عيناهما:
– تغيرتَ سيدي، أصبحت مفلساً، تموت عشقاً في القمار..
ثم سكتت ولم تزد حرفاً واحداً، أزلامها يعرفون ما عليهم عمله بحركة من يدها حين ترغب في صرف زبون، نبهوه إلى أن دوره انتهى، عليه أن يفسح المجال للتالي.
خرج من عندها مذهولاً، حتى مشيته تغيرت، بدا كسكير شرب حتى الثمالة، وبدا يرى كل امرأة يصادفها وهيبة، تأمل قدميه، تَعَرّفهما، فما بالهما تدوسان على روحه بهذا الشكل.. جس نبض صدره، دقات قلبه رعد داخله، بيدين مرتجفتين تحسس جيوبه، وجدها ملأى بأوراق القمار، حمد الله لأنها لا تزال رابضة هناك في أمان، رفع رأسه، حرك يده طمعاً في نسيم عليل، وحدها ريح السّموم تلفحه، لم يكن داخل قمقم، ومع ذلك الاختناق جعله يلهث ككلب، في مثل حاله ماذا يفضل غير الهذيان:
«لقد كشفتني الغانية، كيف عرفت أني مقامر، ساحرة وقحبة أبداً أزلاً، كيف عرفت إدماني على القمار، حين افترقنا كنتُ مواطناً صالحاً، قطار القمار لم يدسني كحشرة إلا بعد أن أضعتها، ظل ليلي بدونها يفتقد بدره، وفي سبيل نوره، يشهد الله أني بحثت عنها كثيراً، وسألت عنها في كل مكان.. كانت سمعتها، أعترف، بيضاءَ تماماً، أنا من صيرها سوداء وقد لطخها سوءٌ أنا صانعه..»
كانت دوماً ساحرة بالنسبة إليه، اليوم سِحرها انقلب عليه، ومن يعرفها جيداً يجزم أنها تدرك بعض اليقين بالتجربة ليس إلا، وحتى حين تخبر زبناءها بأنصاف الحقائق، تفعل ذلك صدفة، تعرف جيداً كيف توصل شفرة ما تقول وهي تحدق فيمن يجلس قبالتها، تخدرهم، تسحرهم… كثيرون قالوا بأنهم يعرفون بأنها تكذب، ومع ذلك فحسنها الفتان الطافح يشفع لها حين تصادف بعض الحقائق، ويُجَمّل كل أكذوبة، وتُصدق تالياً.
قليلون يعرفون قصة وهيبة مع مختار، وهؤلاء على قلتهم أجمعوا أن هذه التي يقصدون لتقرأ في عيونهم لا يجمعهما سوى شبه كما هو الحال مع أيها الناس جميعاً.. وهيبة التي جلبت لهم العار نسوها تماماً، ومن يعرضون عندها عيونهم ليست هي، بل أنثى أخرى، بيتها محج الزوار الذين يرون الأشياء بعيون ليست في رؤوسهم، ولم يفطن أحد منهم قط أن أقصى ما تفعله هو أنها تنبههم لا كيف يرون، بل كيف يصح أن يروا ليس بعيون الآخرين، إنما بعيونهم..ولهذا السبب يجزم زبناؤها أنها لم تكن ساحرة..
لماذا يلجأ مختار إليها الآن، أية ريح تقوده إليها؟ ما همه الناس الآخرون، يذهبون أو لا يذهبون، يصدقون أنها هي أو لا يصدقون، هو مختلف عنهم، معذور إذا قصدها، بل مضطر ومدفوع لزيارتها، لها في قرارة نفسها اسم وشهرة (الاسم وهيبة، والشهرة حبيبته)، هذا مكتوب على جبينه لا جبينهم، لن ينكر، حتى لو فعل الآخرون، أنهما عاشا معاً قصة حب حارقة لم يُكتب لها السقف الواحد كما يقولون..
كان يبحث عنها ليكفر عن ذنوبه، رفض الزواج بها بعد أن وهبت له نفسها في يوم لم ينفع بعده صبر، ولا عقاقير، ولا مراهم، ولا تقلب الزمن كله، ضعفت يومها أمام نزوة كشفت عوراتهما معاً، سيقول لها بعد ذلك (لسنا لبعض)، وحين توسلت إليه أن يستر عرضها، قال لها: « لن أتزوج من تمنح نفسها بهذا الضعف..لا يشرفني أن تكون أمَ أطفالي امرأةٌ سهلة»..
كان رجلاً يترك امرأة غانية، كان قوياً، وكانت ضعيفة، كان كبيراً، وكانت صغيرة، أدار لها ظهره، بصق عليها ثم تركها كما يفعل الأبطال في أفلام الستينات، كان، مثل أفعى، ينفث سمه الذكوري المزيف، غدر بها، مضى كل في طريق، ثم نسيها تماماً، وبعد أن شاع خبر ظهور كاعب حسناء في المدينة تقرأ العيون وتسحر الناس بعينيها لم يكن يعرف أنها هي بلحمها وشحمها..
في الأول كانت بغيته، وهو المدمن على القمار، أن يقصدها، ويسأل عن حظه العاثر ليس في الحب إنما مع «الروليت»، وحين صعقته المفاجأة في لقائه الأول بها ظل يهيم ليل نهار مردداً اسم وهيبة.
«أَ إلى هذا الحد يتشابه الناس
أتكون وهيبة حقيقة؟»
أكثر من زيارتها، وخلال كل لقاء بها يخرج مخبولاً حائراً بين هي وليست هي، بدأ رأسه يثقل عليه، والحسناء بدأت تغتاظ من زياراته، لم تنهره مع ذلك، واجبها أن تقرأ في عيونه بعينين ليستا في رأسه اليابس، طريقة نظراته لها بدت، في كل جلسة علاج، مثل أصابع طويلة قارصة، شكت في عينيه، لم تكونا بريئتين، كانتا مثل عينيْ كوبرا، سم زعاف يهمي منهما ويسقي وجها ذكراً ليس رجلا..
وفي كل جلسة علاج حين تلتقي عيونهما يمارسان طقساً احتفالياً زائفاً، كلاهما يعرف الآخر، يبدوان غير مباليين مثل طفلين صغيرين وقد اتسخت أثوابهما الجديدة في آخر يوم العيد، لذلك قررت أن تضع حدا لهذا الفيلم الهندي.
النظرات تترك أثرها مثل الحريق، تعرف هذه الحقيقة جيداً باعتبارها قارئة عيون، لذلك في تصعيد درامي كما في الأفلام، قررت أن تجعل نظرتها الأخيرة له تترك أثراً..
قالت له:
«أنت تبيع نفسك للشيطان، ستدهسك الروليت يوماً، وتغرق في أوراق القمار، آخر ورقة منها مكتوب فيها تاريخ مماتك، ستوقعها امرأة اسمها وهيبة..»
لم تزد حرفاً واحداً، تحرك يدها، ثم يتدخل خدمها لفعل ما يلزم، كان يصرخ حين جروه كخروف، ازداد صراخه، سمعه كل من كان هناك ينتظر دوره، حين ألقوه في الخارج كان لا يزال يردد:
– «إنها هي، وهيبة، يا ناس، لا تصدقوها إنها وهيبة، إنها وهيبة.. وهيبة..
إحدى السيدات آلمها ما ترى وتسمع وقالت للجالسين تشرح وضعه:
«الزغبي»، الجنية التي تسكنه اسمها وهيبة.
ميمون حرش