تكاد السحب الرمادية تُخفي السماء..تتجمع مع بعضها البعض، تتكاثف، تتناطح، فتتقيأ أمطارا خيطا من السماء … أرمي بقطع السكر كليا في الفنجان. المقهى تمتلئ ككل مساء. أستنشق هواء مشحونا بدخان السجائر، أسعل قليلا، ثم أحتسي الفنجان دفعة واحدة وأغادر. أركن سيارتي السوداء، مسافة قصيرة أتوقف خلالها قرب صاحب الكشك. أومئ له بسبابتي كالمعتاد، فيتجه نحوي بسرعته المقصودة وابتسامته المألوفة. كان يرفع مظلة رثة فوق رأسه. يمنحني جريدة الأحداث الوطنية.. كانت مبللة قليلا بالمطر، أو بشيء آخر…؟؟ الأمطار الغزيرة تزداد شيئا فشيئا. أمد يدي مانحا إياه الدرهمين (ثمن الجريدة) فيأخذها من يدي -في شبه استعطاف- كمتسول، ثم يعود لمكانه مقشعرا. أطلع زجاج النافذة و أستأنف سيري…الشوارع المسفلتة تُحفر من جديد، دائما ما نسمع بأن شوارع مدننا قد أصبحت جاهزة في أي وقت ومكان.. ودائما ما تتبادر إلى أذهاننا بأن بلادنا في طور التقدم. لكن…؟؟
أتجه صوب أقرب مكتبة، لكي أشتري جديد أحد الأدباء. وما أن تقف سيارتي حتى أجدني قد اندسست داخل المكتبة، خشية من سقوط أيما قطرة تبلل ملابسي. كان الكتبي ينظف بضع كراسات مغبرة. منحني الكتاب، ثم أتمم عمله في نشاط بالغ. تحركت سيارتي…المارين من الأرصفة يختبئون تحت مظلاتهم كسلاحف برية. المقاهي ملئ بعباد الله. و في الجانب الآخر أطفال يرقصون تحت المطر، بينما الشارع يكاد ينفجر بالسيارات؛ والأمطار الأمطار…في الحقيقة أنا في حاجة لمظلة، لقضاء هذا الفصل كما كل المواطنين، فالغيث في المدينة -على ما يظهر- أصبح كشيء غير معتاد (الزلزال مثلا) يواجهه السكان بالمظلات…
أصل لمتجر تباع فيه المظلات. كان مكتظا بالزبناء، وكانوا يتهافتون للحصول على مظلة تقيهم من الأمطار الغزيرة. أنزاح تحت السقف منتظرا فراغ المتجر قليلا. حركة المارة بدأت تقل، وكل تحت مظلته. طفل ذو دراجة هوائية يسقط فجأة في بركة ماء قذرة؛ امتلأت ثيابه بماء وسخ، فجعل يبكي خشية من أمه ربما…؟؟ وآخر ينزلق فتصبح ملابسه موحلة، و…
– ما الخطب أخي…؟؟
يقول لي صاحب المتجر. فأستطرد:
– آ…أريد مظلة…
منحني واحدة أسود لونها. سحبتها من كيسها البلاستيكي. انبعثت منها رائحة كرائحة العجلات. وسرعان ما ضغطت على الزر، فإذا بها تتفتح فوق رأسي. أخطو فوق الرصيف بخطى وئيدة، وأنا أقبض بقضيبها الفولاذي منتشيا، أصغي لقطرات المطر وهي تتساقط فوقها دون أن تلمس جسدي. الشمس تأخرت عن الموعد، والليل يسدل ستاره. وفي غفلة مني أحس بجرس صاخب يطنطن أذني؛ أتذكر على إثره سيارتي التي لازالت قرب المتجر. أعود صوبها مسرعا، خطواتي تنزلق هنا وهناك. أصل، فألفي بمحاذاتها شرطيا ببذلته الرسمية.أستدرك الأمر:
– سيدي هذه سيارتي…
– سيارتك؟؟ أتعلم بأن وقوف السيارات في هذا المكان ممنوع…؟؟
– لكن سيدي…
يقاطعني بصوته الأجش:
– السيارة ستبقى في حوزتنا، وميعادنا غدا في مركز الشرطة…
عمر لحروشي