أحسّت بمساحة وجع حادّة تقتحم صدرها فجأة. اغتصب الألم كلّ كيانها… وفكّرت أنّها بداية النّهاية المفاجئة التي قد ينتهي إليها أيّ كان. تحاملت على نفسها وجسدها ونزلت من السّرير… مشت… خطوات… بطيئة… متقطّعة… نزلت الدّرج… وتهاوت على أوّل كنبة اعترضتها في قاعة الجلوس…
التقطت عيناه مشهد جسدها الفارع وهو يتهاوى على الأريكة… لم يسبق له أن رآها متألّمة… اندهش لرؤيتها على تلك الحال غير أنّ
ساعدها على التّمدّد دون أن يسألها عمّا ألمّ بها… أحضر غطاء وضعه عليها… كانت مغمضة العينين… تسيل على خدّيها دموع مسترسلة… دون أن تتكلّم… واضعة يدها على مساحة الألم التي اجتاحت صدرها… أتراها النّهاية الأبديّة المفاجئة؟
جلس قربها وأمسك يدها اليمنى… بينما بقيت يدها اليسرى على مكمن الوجع… سألها بصوت يرتعش… «ماذا بك؟ أرجوك قولي وتماسكي… ما الذي يؤلمك؟»
لم تكن تقدر على الكلام… أشارت إلى صدرها… متمتمة بصوت متقطّع: «ألم… شديد… لم يسبق… أن… شعرت به…» ثمّ استسلمت للغياب…
ماذا لو فارقت الحياة في هذه اللّحظة… ماذا لو أنّ تلك الكلمات التي نطق بها لسانها ليخبر عن الوجع الذي اغتصبها… هي آخر ما سيُسمع منها…
ماذا لو سمعت ابنتها الخبر وهي بعيدة عنها…؟
ستحزن كثيرا… ستبكي ألما وحرقة… ستتذكّر كلماتها وحديثها وهي تحثّها على الزّواج بينما هي تتملّص من الفكرة متحجّجة بأن الوقت لا يزال مبكّرا… وتحاججها هي بأن الزّواج متأخّرا يمكن أن يسبّب الكثير من المشاكل الصّحيّة… وستذكر لها أمثلة عمّن عرفتهنّ في حياتها وقد تأخّر زواجهنّ وما عانين من أورام وآلام ناتجة عنها… تحاول جاهدة أن تقنعها بضرورة الزّواج في سنّ مناسبة لتقي نفسها وتحافظ على سلامتها… فتثور ابنتها رافضة الفكرة أصلا… محاولة إقناعها بأن لكلّ جيل عادات وقناعات تختلف عمّن سبقه… وأنّ الزّواج في جيلها بات آخر ما تفكر فيه الفتاة… إذ أنّ العمل والتفوّق فيه هو أولويّة قصوى بعد الدّراسة وطلب المعرفة لسنوات… فلا يبقى لها إلاّ أن تقبل بالأمر الواقع وتقول لها: «ها أنا قد نصحتك وأنت حرّة يا ابنتي». وينتهي بهما النّقاش دون أن تقتنع أيّ منهما برأي الأخرى… غير أنّهما تبقيان صديقتين في كلّ الحالات…
سوف تبكي ابنتها بحرقة وهي تتلقّى خبر رحيلها المفاجئ… وسوف تتمنّى لو أنّها سمعت كلامها وتزوّجت… كانت على الأقلّ ستدخل على قلبها الفرح وربّما ما كانت لتموت موتا مفاجئا… سوف تتألّم أكثر لأنّها يوم تتزوّج ستشعر بفقدها… حين يكون مكانها فارغا… سوف لن تجد من يشاركها فرحة عمرها بمكانة أمّها… لكنّها لا ترضى بذلك… سوف لن تموت قبل أن توصيها بأن تفرح حتّى في غيابها…
– إيّاك أن تحزني… الموت حقيقة لا مفرّ لنا منها… هو جزء من الحياة فلا تجعليه سببَ حزن لا ينتهي… أريدك أن تفرحي حتّى وإن غبت عنك… سأكون حاضرة بالغياب… روحي ترفرف فوقك فرحا لك وبكِ… سوف أشاركك السّعادة والسّرور وأنتشي لنشوتك وتلامس روحي روحك لتهنّئك… وسأكون أسعد الأمّهات وأنا أراك بلباس الفرحة الأبيض… فإيّاك أن تحزني يا صغيرتي المدلّلة…»
سوف يحزن ابنها الأكبر… لكنّه سيكون متماسكا أكثر… هو يعرف أنّ أمّه لا تحبّ الحزن… سوف يتذكّرها دوما وهي تقول ذلك… وسوف يشعر رغم ذلك بغيابها وستؤلمه الذّكرى… لكنّها ستحضر بالغياب لتربّت على كتفيه… سوف تحتضنه ساعة شعوره بالحزن وتسرّ في أذنه: «عرفتك مرِحا دائما… فكيف أراك اليوم حزينا؟» سوف يخبرها أنّه يفتقدها ويفتقد حديثها ورائحتها… سيخبرها أنّه يفتقد نصحها في لحظات حيرته حين كانت تضيق به الدّنيا… سوف تطمئنه وتقول له إنّها لم ولن تتخلّى عن احتضانه ونصحه ورعايته وإخوته مهما ابتعدت ومهما غابت… سوف يبتسم ساعتها وينهض للحياة وهو يشعر أنّ أمّه لم تفارقهم…
أمّا هو… ابنها الأصغر… فلن يبكيَ فراقها حتّى لو كان أبديّا… إنّه هنا بجانبها… يسمعها تخاطبه وتلحّ عليه ألاّ يحزن وألاّ يبكيَ موتها… سوف يتقبّل الأمر رغم حاجته إليها أكثر من بقيّة إخوته… سوف لن يبكي… سوف يدخل غرفتها بعد رحيلها كلّ يوم… سوف يمسك قارورة عطرها بين يديه ويقرّبها من وجهه… من أنفه… سوف يشتمّ عطرها فيشعر بوجودها… سوف يجلس في سريرها ويسترجع حواراته معها… تلك التي ما كانت لتنتهي إلاّ بفراق الموت هذا الذي لا نختاره… سوف يجلس كلّ صباح في مكانها الذي كانت تختاره لتجالس حاسوبها… سوف يقول: «هنا كانت تجلس… هنا كانت تعمل…» سوف يدخل المطبخ ليعدّ القهوة لنفسه ويقول: «هكذا كانت أمّي تعدّها لي: ملعقة بنّ واحدة… وملعقتين من السّكر… مع كثير من الحليب…»
ماذا لو أنّ زوجها عاد من العمل فوجدها قد غادرت دون أن تودّعه! سوف يجد جسدها باردا لا حياة فيه… سوف يجد ابنه الأصغر جالسا قربها دون كلام وقد غطّاها كما طلبت… سيسأله عمّا حدث… فلن يجيب… لن يستطيع أن يجيب… فلسانه قد تعقده الصّدمة… لن يبكي… لن يحزن… لكنّه لن يتكلّم…
ما كان كثير الكلام في حياتها… لكنّه سوف يذكر كلّ تفاصيلها… وسوف يصبح ذكرها على لسانه يوميّا… سوف يفسّر كلّ شيء كما كانت تفسّره… سوف يُذكّر أبناءه بكلّ ما كانت تقوله لهم… سوف يذكر كلّ شيء ويعمل به في غيابها أكثر ممّا كان في حضورها… فقد كانت الرّوح التي تسري في جسد الأسرة كلّها… فكيف يتخلّون عن ذكرها ويواصلون الحياة بدونها… ستبقى معهم حاضرة مهما غابت…
ماذا لو أنّ هذه الأزمة كانت عابرة… رغم حدّتها… هل تستفيق بعدها وتعود إلى الحياة وتعود الحياة إليها…؟
كانت تفكّر في كلّ ذلك وتستبعد العودة… كانت قد تخطّت حدود السّماء لتستقرّ بسلام في عمقها… مستسلمة لبرودة لا تنتهي… حين شعرت بوخز في جسدها… فتحت على إثره عينيها فوجدت نفسها في سريرها… والكلّ يحيط بها… زوجها… أبناؤها والطّبيب…
زهرة مراد – تونس