منذ أفلامه القصيرة الأولى برهن الفنان محمد هشام ركراكي (53 سنة) عن علو كعبه في الإخراج السينمائي، والدليل على ذلك الصدى الطيب والإيجابي جدا الذي خلفاه فيلماه الأخيران “نداء ترانغ” (2015) و”إيما” (2016) في أوساط النقاد والسينفيليين وعشاق السينما الرفيعة عموما، وكذا الجوائز العديدة التي حصداها هنا وهناك اعتبارا لعمقهما الإنساني وتمكن صاحبهما من أدوات التعبير بالصورة والصوت.
ليس غريبا إذن أن يتميز هشام ركراكي إبداعيا عن غيره من سينمائيي جيله، فهو غير متسرع مثل الكثيرين منهم. لقد آمن بالتكوين الأكاديمي الرصين وبالممارسة الميدانية، شأنه في ذلك شأن المبدع محمد مفتكر على سبيل المثال، وبعد دراسته للأدب الأنجليزي والمسرح المعاصر، أولا بالمغرب (جامعة ابن طفيل) وبعد ذلك بالمملكة المتحدة (جامعتي إسيكس و لانكاستر)، توجه سنة 1992 إلى السينما والسمعي البصري واشتغل في أعمال مغربية وأجنبية كمساعد في الإنتاج أول الأمر، الشيء الذي مكنه من الإنفتاح ميدانيا، طيلة عقدين من الزمان، على مختلف التخصصات السينمائية وأهله ليدخل مجالي الإنتاج والإخراج من بابهما الواسع عبر تنفيذ إنتاج أفلام تلفزيونية لفائدة قناة “دوزيم” (“القسم 8” من إخراج جمال بلمجدوب وبطولة فاطمة خير، نموذجا) وإخراج أفلامه القصيرة الأربعة ابتداء من سنة 2013: “ريكلاج ” (بالإشتراك مع إدريس كايدي) و”الراية” ثم “نداء ترانغ” و”إيما”، وصولا إلى أول أفلامه الروائية الطويلة “بطاقة خضراء”، الذي هو بصدد وضع اللمسات الأخيرة عليه.
نحن في المغرب في حاجة إلى مخرجين مبدعين لهم خلفية ثقافية صلبة وتجربة ميدانية معتبرة راكموها طيلة مسيرتهم الفنية، وهشام ركراكي واحد منهم، لأنه مثقف وفنان مرهف الإحساس استفاد من خبرات مبدعين عالميين كبار اشتغل إلى جانبهم أمثال مارتن سكورسيزي وريدلي سكوط وأوليفر سطون وغيرهم، وأصبح قادرا على العطاء بتميز كمدير إنتاج أو مخرج أو مؤطر بالمعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما بالرباط. عندما يتكلم هشام يحسن اختيار عباراته ويقنع المستمعين إليه بعمقها، كما يقنع مشاهدي أفلامه بجدتها وجودتها وصدقها وكونية مضامينها. إنه مبدع بكل ما في الكلمة من معنى، يسير ثابت الخطى على الطريق الصحيح، وبعد أفلامه القصيرة سيتحفنا لا محالة بأفلام طويلة مشرفة له ولنا كمغاربة . نتمنى له كامل التوفيق والنجاح.
بمناسبة عرض آخر أفلامه القصيرة “إيما” على منصة إلكترونية من طرف المركز السينمائي المغربي، طيلة الأسبوع الثاني من برنامج عروض حالة الطوارىء الصحية، من 21 إلى 28 يوليوز 2020، أجرينا معه الحوار التالي حول هذا الفيلم القصير:
لماذا اختيار “إيما” عنوانا للفيلم؟
صراحة لم تكن عناوين أفلامي القصيرة الثلاثة من اختياري، بل كانت من اختيار السيناريست المقتدر عمر قرطاح. فكما تعلم عزيزي أحمد، أنا خريج المدرسة الأنكلوساكسونية التي تؤمن بالثلاثي الذهبي: مخرج ومؤلف ومنتج. فتعاوني مع عمر كان مبنيا على هذا الأساس، لقد كنا نقضي وقتا أكثر خلال مرحلة التطوير والبحث، نطرح الأفكار، نحللها ونناقشها، وعندما تكتمل الرؤية وتختمر الفكرة يمر الأخ عمر إلى مرحلة الكتابة.
صورت الفيلم كليا بفضاءات فاس العتيقة، بطاقمين تقني وفني كل عناصرهما مغاربة وجلهم شباب، هل لهذا الاختيار علاقة باشتغالك سنة 1999 في فيلم “ياقوت” لجمال بلمجدوب، الذي صور هو أيضا بفاس؟ وهل هذا يعني أن الحاجة إلى تقنيين أجانب، خصوصا في الصورة والصوت، ليس أمرا ضروريا؟
صحيح أن اكتشافي لمدينة فاس سينمائيا كان مع صديقي جمال بلمجدوب، فأزقتها العتيقة ومعالمها التي تفوح تاريخا وحضارة بقيت ولا تزال عالقة في ذاكرتي ومحفورة في وجداني. فكيف لا تكون المدينة العالمة، المتعددة الثقافات، وخزانة القرويين، ذاكرة تراثنا العريق، فضاء لفيلم “إيما”؟
أما بخصوص الاشتغال مع فنيين شباب مكونين تكوينا أكاديميا فهو ميزة وفائدة، بل هو أفضلية. فلدينا حاليا مدراء تصوير من الطراز الكبير كعبد الرفيع العبديوي، وفي رأيي لا حاجة لنا اليوم للتقني الأجنبي.
رسالة الفيلم بليغة وذات عمق إنساني، مفادها أن الحب يذيب الخلافات الثقافية بين البشر، حسب ما جاء على لسان الأم، بطلة الفيلم، فهل هذا ما قصدت تبليغه من خلال اختيارك لقصة كتبها المبدع ماحي بنبين وحولها إلى سيناريو المبدع عمر قرطاح؟
الحب ديني وإيماني كما قال ابن عربي. فعندما يكون الحب كذلك، لن يبق هناك مكان آخر لإيديولوجيات الكره ورفض الآخر ورفض الاختلاف، وهذا ما طرحناه في فيلم “نداء ترانغ” كذلك.
من بين نقط القوة في الفيلم أداء الممثلين وعلى رأسهم الكبيرة فاطمة الركراكي والمتألق عبد اللطيف شوقي، فالأولى كان تشخيصها عفويا وصادقا والثاني تألق بشكل مدهش من خلال حركاته وقسمات وجهه ونظراته وصمته أيضا. في حين كان الفنان محمد الشوبي أكثر إقناعا في هذا الفيلم مقارنة مع بعض أعماله السابقة في السينما والتلفزيون. أما نبيل عاطف فقد كان مقبولا هو أيضا في تشخيصه لدوره في الفيلم. كيف جاء اختيارك لهؤلاء الممثلين الأربعة؟ وكيف كانت إدارتك لهم كمخرج؟
أنا أعطي اهتماما كبيرا للكاستينغ واهتم أكثر بالتفاصيل، فالسينما تلزمك بذلك. واختيار الفنانة القديرة فاطمة الركراكي وعبد اللطيف شوقي ومحمد الشوبي ونبيل عاطف لم يكن عبثا، فتفوقهم كمشخصين ومظاهرهم البدنية التي توافق شخصيات الفيلم كما تخيلتها، جعلتني لا أتردد في عرض الأدوار عليهم. أما بخصوص إدارتهم كممثلين فكيف لا يكون الأمر يسيرا وأنت تتعامل مع ممثلين مقتدرين ومحترفين بمعنى الكلمة؟
تحضر بقوة اللقطات المكبرة في الفيلم، فقد ركزت في بعض المشاهد على وجوه الأم وأبنائها الثلاثة، وخصوصا يوسف الإبن المفضل لديها، ما هي دواعي هذا الاختيار؟
اللقطة المكبرة هي لقطة المشاعر بامتياز، فأدنى التعابير تكشف مشاعر الشخصية للمشاهد.
يتميز فيلمك باقتصاد في الحوار، أي أنه ليس فيلما ثرثارا، كما عودتنا على ذلك أفلام أخرى، بل يترك لباقي عناصر التعبير كالصورة والموسيقى والغناء والديكور والماكياج والصمت وغير ذلك القيام بوظائفها بشكل متناغم. هل معنى هذا أنك ترفض السينما التي يطغى فيها الحوار على باقي عناصر التعبير الأخرى؟
السينما لغة في حد ذاتها وهي لا تحب الزيادات، علاوة على أن من خصوصيات الفيلم القصير التكثيف، أي الاعتماد على الصورة والصوت مع حوارات مؤثرة ورنانة.
الصمت أحيانا أبلغ تعبيرا من الكلام، وهذا ما لاحظناه في مشهد يوسف وهو ينظر إلى أمه شبه النائمة بعد كشفها لأبنائها الثلاثة عن سرها الدفين وطلبها أن تدفن بعد مماتها بمقبرة اليهود إلى جانب قبري والديها، ما هي المكانة التي يحتلها الصمت في أفلامك؟
يقول الكاتب المسرحي الإنجليزي هارولد بنتر:”أعتقد أننا نتواصل بشكل جيد للغاية، في صمتنا، فيما لا يقال…”. فالصمت أحيانا كثيرة يكون أقوى تأثيرا وأفضل تعبيرا.
أغنية النهاية “ما لقيت جهد باش نقاوم ولا حد يفهمني…”، بصوت نهيلة لحلاح، جد معبرة عن الحالة النفسية التي كان عليها يوسف، لأنه لم يفلح في إقناع أخويه بضرورة تنفيذ وصية والدتهم المتوفاة بدفنها إلى جانب قبور عائلتها اليهودية، وذلك لأن الأخ الأكبر فرض على أخويه مسألة الدفن بمقبرة المسلمين تفاديا للقيل والقال. هل أنت مع توظيف الغناء كعنصر من عناصر التعبير في السينما؟ ولماذا؟
طبعا أنا أحب توظيف الغناء في أفلامي خصوصا إذا كانت الأغاني مكتوبة وملحنة حصريا للفيلم، لكن يجب أن تكون الأغنية إضافة جمالية للمعنى ككل. فالسينما كما قلت من قبل، لا تحب الأشياء المجانية.
حدثا عن كاتب كلمات هذه الأغنية وملحنها وعن صاحبة الصوت الجميل التي أدتها…
كاتب الأغنية هو عمر قرطاح وملحنها هو زكريا النويح، ابن مدينة وجدة عاشقة الطرب الأصيل والموسيقى الراقية، وهو من قام باختيار الصوت الجميل نهيلة لحلاح لأداء الأغنية وكذلك الفرقة الموسيقية التي رافقتها.
ماذا عن مشاريعك الحالية والمستقبلية؟
أنا حاليا في طور إتمام فيلمي الروائي الطويل “بطاقة خضراء” (Green Card)، الذي سيتم عرضه في القاعات السينمائية الوطنية أواخر السنة الجارية أو بداية السنة المقبلة، هذا بالإضافة إلى اشتغالي على مشاريع أخرى لازالت قيد البحث والتطوير.
أجرى الحوار: أحمد سيجلماسي