بمناسبة عرض فيلمه الوثائقي الطويل “رجاء بنت الملاح” على منصة “فيميو” الإلكترونية، من 14 إلى 21 يوليوز 2020، بمبادرة من المركز السينمائي المغربي، وذلك في إطار برنامج أفلام حالة الطوارئ الصحية، أجرينا حوارا مع المخرج والناقد السينمائي عبد الإله الجوهري حول جوانب مختلفة من هذا الفيلم.
فيما يلي نص الحوار:
فيلمك “رجاء بنت الملاح” يقدم للمتلقي بورتريها صادقا لفتاة/امرأة من نوع خاص، كيف جاءتك فكرة الاشتغال على هذا الموضوع؟
خلال حضوري لدورة 2003 من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، أي الدورة الثالثة، كان لي حظ مشاهدة الشريط الفرنسي “رجاء” للمخرج جاك دوايون، الذي شارك في المسابقة الرسمية، وحصلت بطلته نجاة بنسالم على جائزة أحسن ممثلة، الشيء الذي جعلني وقتها أنتبه لهذه الممثلة البسيطة والعميقة في نفس الآن، وأحاول أن استكنه عوالمها الفنية، لأكتشف أنها ممثلة بالفطرة، بمعنى لم يسبق لها التمثيل سواء في السينما أو التلفزيون أو المسرح، ومع ذلك تفوقت على نفسها وعلى غيرها من الممثلات العالميات اللواتي كن ينافسنها على جائزة أحسن دور نسائي بمراكش. بل الأكثر من ذلك أنها فازت من قبل، عن نفس الدور، بجائزة الأمل في مهرجان البندقية السينمائي. لكن ما دفعني لإنجاز فيلم عن مسارها ومعاناتها مع السينما ومحيطها، هو كوني اكتشفت بعد مرور سنة على التتويج أنها شبه مشردة، مدخولها الوحيد مصدره بيع السجائر بالتقسيط في ساحة جامع الفنا المراكشية، الشيء الذي صدمني وجعلني أطرح أسئلة على نفسي، وعلى الواقع الذي أعيش فيه، أسئلة من قبيل: كيف يمكن لشابة موهوبة، أبانت عن علو كعبها في التشخيص السينمائي، أن ينتهي بها المطاف شبه متشردة تعيش على مهنة رثة؟ ولماذا لم يهتم بها الوسط الفني المغربي، ولم يتم الدفع بموهبتها إلى الأمام؟ وأخيرا، كيف تعيش اليوم وهي تجر وراءها منجز سينمائي محترم؟
أسئلة دفعتني إلى الاتصال بها، ومحاولة الوقوف عن قرب على سر انطفاء النور بسرعة من حولها، وذلك من خلال زيارات ومقابلات ونقاشات مفتوحة معها، الشيء الذي جعلني أكتشف قساوة الواقع الذي أصبحت تعيش فيه بسبب “الشهرة” الكاذبة و”النجومية” القاتلة وظلم ذوي القربى بسبب فيلم لم يجلب لها سوى المتاعب، شهرة ونجومية وظلم حولوا حياتها لما يشبه الجحيم مع العائلة وساكنة الحي الذي تعيش فيه.
البعدان الوثائقي والروائي حاضران معا في فيلمك هذا، هل تؤمن بالفصل بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي؟
شخصيا لا أؤمن بمسألة الفصل بين الأجناس الإبداعية، لأنها جميعها تتكامل وتتكاثف من أجل خلق عوالم إبداعية، فكل شريط وثائقي هو في العمق روائي، وكل فيلم روائي هو امتداد بشكل من الأشكال للوثائقي. المهم في الممارسة السينمائية ألا نطرح أسئلة من هذا القبيل، بل نبدع ونترك أحاسيسنا ورؤانا الفنية تقودنا حيث مكامن الخلق.
قد يدعي بعض المخرجين أن أفلامهم الوثائقية، التي يصنعونها وفق رؤاهم الخاصة، وفية للجنس الذي تنتمي له، بمعنى أنها تسجيلية خالصة لا مجال فيها للخيال أو التخييل، إلا أن ذلك، في اعتقادي، من سابع المستحيلات، لأن مخرج الفيلم الوثائقي، وبمجرد وضع خطاطة سيناريستيكية لتصوير الفيلم، والاتفاق مع الشخصيات على التصوير، وتحديد الأماكن التي ستحتضن عمليات التصوير، ووضع تصور للمشاهد التي سيصورها وفق تقطيع فني دقيق، وقبلها وفق برنامج محدد، تجعله يقتحم، بشكل من الأشكال، مجال الروائية.
في فيلم “رجاء بنت الملاح”، وفي غيره من الأفلام الوثائقية التي قمت بإخراجها، لم أكن وفيا مائة بالمائة لمفهوم الوثائقية، بمعنى أن كثيرا من المشاهد تم الإعداد لها بعناية، من حيث زوايا التصوير، ودفع الشخصيات إلى اتخاذ سلوكيات معينة أو ترديد بعض الحوارات التي تصب في اتجاه تطوير الحدث. فمثلا في مشهد منع “نجاة” من دخول قصر المؤتمرات لحضور حفل تكريم السينما المصرية، طلبت منها أن تحاول الدخول دون التوفر على دعوة، وأنا أعرف مسبقا أنهم لن يسمحوا لها بالدخول، وأكدت عليها أن تتعنت في الرد على فعل المنع لكي نرى ماذا ستكون النتيجة، وبالفعل صورنا المشهد على هذا الأساس، لكن قوته جاءت من خلال دخول الممثل الفرنسي “باسكال غريغوري” على خط المواجهة بين “نجاة” والحراس، وهو دخول جاء عفويا، بمعنى لم يكن مخططا له من قبل، حيث لم نكن ندري أن “باسكال” سيحضر الحفل، وسيتصرف بتلك الطريقة التي شاهدها الجمهور، حيث أخذها معه على البساط الأحمر، رغم أنف اللجنة المنظمة والحراس الذين حاولوا منعها من الدخول. في هذا المشهد اختلط الروائي بالوثائقي وقدما لنا موقفا مؤثرا أعتبره من أقوى لحظات الشريط.
من خلال كاميرا المبدع فاضل اشويكة جعلتنا نسافر معك، ونحن نتتبع يوميات بطلة الفيلم نجاة بنسالم، في دروب وأزقة مدينة مراكش العتيقة وخصوصا ساحتها الشهيرة “جامع الفنا”، هل هذا التجوال يمكن اعتباره نوعا من التكريم السينمائي لهذه المدينة المعروفة عالميا على المستوى السياحي؟
مراكش مدينة المدن، وفضاء التراث والثقافة والعادات والتقاليد المغربية الأصيلة، اكتشفها سينمائيا كبار المخرجين العالميين عبر عشرات الأفلام، وقدموها في حلل مختلفة، تتوزع على خارطة سينمائية شاسعة، لكن السينما المغربية ظلت إلى حد كبير متخلفة عن الغوص في عوالمها الغنية، وأماكنها المسيجة بعبق التاريخ، وساكنتها المميزة بخفة الظل والبسمة التي لا تفارق وجوههم حتى في أحلك الظروف. صحيح أن هناك بعض المخرجين المغاربة الذين التفتوا لها ولألغازها، لكن يبقى ما أنجزوه لحد الساعة جد ضعيف، وبالتالي فهي بحاجة لعشرات الأفلام التي تنتصر لواقعها الحق، البعيد عن الفلكلرة أو التوظيف المباشر الفج.
شخصيا لي علاقة مميزة بهذه المدينة، ذلك أن أول فيلم سينمائي لي “كليك ودكليك” صورته ببعض شوارعها وأزقتها ودورها، وهي تجربة مهدت لي الطريق لتصوير الفيلم الوثائقي “الراقصة” عن شخصية مراكشية تحمل الكثير من علامات الفن والكد ومجابهة الواقع الذي لا يرحم، وهو واقع محافظ لا يتسامح مع الذكور الذين يختارون مهنا تبدو في عرف الساكنة أنها خارجة عن معايير الحشمة والوقار. لقد اكتشفت من خلال هذا الفيلم الفضاءات العميقة لمراكش، كما سمح لي بأن أنغرس أكثر وسط الأحياء الفقيرة وأن أتماهى معها وأنا أصور فيلم “رجاء بنت الملاح”. أفلام ثلاثة، إضافة لفيلمي الروائي الطويل “هلا مدريد.. فيسكا بارصا”، الذي صورت بعض المشاهد منه بمراكش، كانت بمثابة تحية لعاصمة تاريخية، تستحق أن تكون في مقدمة المدن السياحية العالمية، وأن تكون مفتوحة دائما وأبدا على كل وجوه الإبداع من خلال استثمار السمعة الطيبة التي أضحت تتوفر عليها في كتاب الخلق والإبداع.
السينما حاضرة بقوة في الفيلم، من خلال أجواء المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، أكبر مهرجان للسينما بالمغرب، وقاعة سينما كوليزي وأجواء تصوير أحد الأفلام الأجنبية بمراكش وشهادة الممثل الفرنسي باسكال غريغوري، شريك نجاة في بطولة فيلم “رجاء” للمخرج جاك دوايون، وأشياء أخرى… لماذا اخترت لفيلمك تقريبا نفس عنوان الفيلم الذي كان سبب سعادة نجاة وتعاستها في آن واحد؟
اخترت للفيلم عنوان “رجاء بنت الملاح”، على اعتبار أن بطلة الشريط، وبعد عرضه في القاعات السينمائية بمراكش، وخروج نسخ منه للأسواق على شكل أقراص مقرصنة، امتلكت شهرة كبيرة، بل أضحت حديث الشارع المراكشي وقتها، وأصبح سكان المدينة يعرفونها جيدا، لحد أنهم تناسوا اسمها الحقيقي “نجاة”، وأصبحوا ينادونها ب”رجاء” مستلهمين ذلك من عنوان الفيلم الفرنسي، والأكثر من ذلك أضافوا لها لقب “بنت الملاح”على اعتبار أنها تقطن في أحد الأحياء الأكثر شعبية بمراكش المسمى “الملاح”. لحد أنه يمكن لأي واحد أن يسأل عن “رجاء بنت الملاح” بمراكش فلن يجد عنتا في معرفة عنوان سكناها.
لقد وجدت في هذا العنوان ضالتي، حيث لم أسعى لتغييره أو البحث عن غيره، لأنه يحيل مباشرة على الفيلم الفرنسي، وبالتالي فالحمولة الفنية جرت وراءها صيت فيلم عالمي شهير، ثانيا هذا العنوان يجعل المتفرجين المغاربة، خاصة المراكشيين، لا يجدون أدنى عناء في البحث عن شخصية الفيلم أو البحث عن حكايتها، لأنهم يعرفونها ويعرفون قصتها، وبالتالي سيكون هناك عنصر التشويق لمعرفة ماذا يقدم الفيلم عن فتاة سارت بسيرتها الركبان وأضحت عنوانا للمعاناة وسوء الحظ. الأكثر من ذلك، وإمعانا في ألا أجعل الفيلم يبتعد عن الفيلم الفرنسي، مادام يتحرك في أجوائه وقصة بطلته، فقد اخترت ملصقا للفيلم يتقاطع مع ملصق الفيلم الفرنسي لحد التماهي، فبمجرد مشاهدته والتأمل فيه تعود بك الذاكرة مباشرة للفيلم الفرنسي.
تتخلل الفيلم بعض اللقطات التي تظهر فيها نجاة والدموع تنهمر من عينيها، خصوصا بعد إبعادها كل سنة من الدخول إلى القصر الذي تجري فيه أشغال المهرجان، وهذه اللقطات تترجم بصدق قمة “الحكرة” التي تشعر بها نجاة في وطنها، الذي لم يعترف بحصولها على جائزة أحسن ممثلة سنة 2003 بمهرجان مراكش وجائزة الأمل بمهرجان البندقية، فهل تكرار هذه اللقطات وغيرها يؤكد تعاطفك الإنساني اللامشروط معها وتبنيك لقضيتها؟
تعاطفي مع “نجاة بنسالم” بطلة فيلمي “رجاء بنت الملاح” كان وليد معرفتي بظروفها والتفاعل مع معاناتها، لأنها فتاة واجهت عنت الوقت وسوء الفهم. وبالتالي فتعاطفي معها هو تعاطف أي إنسان يحمل ذرة من الإحساس والإنسانية مع فنانة تعرضت لكثير من القيل والقال، كما تعرضت للتهميش رغم موهبتها الكبيرة. لهذا جاءت فكرة صنع فيلم عن حياتها، وقبل ذلك محاولة تقديم يد العون لها للخروج من دائرة الإحساس بالتهميش والحكرة، وجعلها تستعيد بعضا من الأمل في واقع مغربي لا يرحم، خاصة منه الواقع الفني الذي يتأسس على مفاهيم خاطئة في النظر للممثلة التي تقبل أن تلعب بعض الأدوار الجريئة وتتحمل بذلك مسؤولياتها في أن تكون فنانة كاملة غير منقوصة الموهبة والأدوار.
لحسن الحظ فيلمي استطاع أن يعيد “رجاء” (نجاة) إلى الواجهة، من خلال تسليط الضوء على معاناتها، وجعلها تعايش أجواء العروض السينمائية التي افتقدتها منذ توقف الفيلم الفرنسي “رجاء” عن التجول في المهرجانات. حيث شاركت إلى جانبي في تقديم الفيلم في العديد من المهرجانات المغربية والعربية، كما أن بعض المحسنين التفتوا لحالتها المادية وتكرم أحدهم بمنحها منزلا بالمدينة القديمة بمراكش، وهو المنزل الذي تقطن به لحد الساعة بعد أن كانت تعيش شبه متشردة دون مأوى محدد.
الفن قبل أن يكون فنا وإبداعا، هو علاقات إنسانية ورؤى فكرية لا تتعالى عن الواقع بل تستلهم منه قضاياه وتعمل على تحويلها لأعمال فنية قادرة على رج الأحاسيس البدائية، والمساهمة في التغيير نحو الحسن والأحسن وتوطيد العلاقات بين البشر ومحيطهم الاجتماعي والفني والفكري.
نجاة فتاة أمية فقيرة تنتمي إلى أسرة محافظة، تحب المغامرة والاعتماد على النفس، لكن ما يعيبه الآخرون عليها كونها شاركت في فيلم فرنسي به مشاهد ساخنة، ألا يرجع سبب معاناتها في نظرك إلى مزاجها وطبيعة شخصيتها غير العادية؟
صحيح أن “نجاة” أي “رجاء” صعبة الانقياد بمزاج خاص يعكس شخصيتها المتفردة وروحها المتمردة، تحب الحرية والعيش في جلبابها الخاص دون مساحيق ولا تتحمل النفاق والتمسح بالأعتاب أو طرق أبواب المنتجين والمخرجين. لهذا لم تستطع أن تواصل مسارها الفني، لكنها في العمق إنسانة طيبة متفهمة ومتعاونة. خلال التصوير اكتشفتها أكثر وتعرفت على جوانب خفية من حياتها وعمق مواهبها. فقد عاشت يتيمة وسط إخوة يعانون من ضنك العيش، ومع ذلك كانت دائما بإرادة قوية، وروح متوثبة، يظهر ذلك بوضوح في فيلمي، حيث شاهدنا كيف تتجاوب بشكل خلاق مع محيطها، وتجعل من كل لحظة فرصة للإبداع، وتحاول أن تتجاوز ما أمكن المعيقات المحيطة بها بكل الطرق. أما بالنسبة للمشاهد الجريئة في فيلم “جاك دوايون”، فيمكن أن يقال عنها أنها مشاهد جد عادية، لكن، وللأسف، بسبب غياب الثقافة السينمائية عند الجمهور المغربي جعل الكثير من الناس يحكمون عليها بأحكام قاسية، بل إن بعض أفراد عائلتها قاطعوها واتهموها اتهامات ظالمة. الجمهور عامة، بسبب الأمية البصرية، لا يفرق بين ما يشاهده على الشاشة وما يجري على أرض الواقع، وبالتالي يعتقد أن كل ما يراه في الفيلم هو الحقيقة، وأن المشاهد كانت حية وليست سينما في سينما.
تجاوب الكثيرون مع الفيلم وتعاطفوا مع بطلته، داخل المغرب وخارجه، والدليل على ذلك حصوله على عدة جوائز ومشاركته في مجموعة من المهرجانات السينمائية، ماذا يعني لك حصول الفيلم على جوائز؟
عموما لا تهمني الجوائز في حد ذاتها، وإن كنت أحس بالفرح والسعادة لما أحصل على إحداها، لأنها تؤكد على نجاح الفيلم ووصوله لقلب من يشاهده. لكن ما يهمني في الأصل، هو أن ينجح الفيلم في الانتصار لقيم الفن والإبداع، وأن يضيف للمشهد السينمائي فيلما جديدا، حاملا معاني الجمال التي تلامس شغاف القلوب، وتكرس فعل الخلق بكل صدق.
صحيح أن الفيلم حصل على أكثر من عشرين جائزة، في مهرجانات مغربية وعربية ودولية، وهي جوائز في المحصلة النهائية تتويج لفيلم صنعته بجهد وحب وتفاعل مع حياة فنانة استثنائية، وأكدت من خلاله أن ما يخرج من القلب يصل إلى القلب، وأن ما يصنع برؤية فنية واضحة أكيد أن يخلق الحدث وأن يترك وراءه الأثر. وهذا ما حدث مع فيلم “رجاء بنت الملاح” الذي أعتبره فيلما جماعيا صنعته بمعية فريق، أساسا مدير التصوير فاضل اشويكة ومهندس الصوت توفيق مكراز، يتقدمهم المنتج الصديق حميد باسكيط.
تم تصوير الفيلم على امتداد أكثر من عشر سنوات، ربما من 2003 إلى 2015، تغيرت خلالها نجاة من فتاة نحيفة إلى امرأة مكتنزة نوعا ما، وهذا يذكرنا إلى حد ما بفيلم “أشلاء” لحكيم بلعباس الذي صور لقطاته ومشاهده على امتداد عشرين سنة تقريبا، ما رأيك؟
ملاحظة في محلها، الفيلم صنع على فترة زمنية تناهز العشر سنوات، وهو في ذلك يشبه فيلم “أشلاء” لحكيم بلعباس وغيره من الأفلام التي صنعت بحب وتقدير للممارسة السينمائية الوثائقية. لأن صنع فيلم وثائقي يتطلب الإنصات لنبض الموضوع المعالج وترصد كل اللحظات المحيطة به، ومحاولة الانتظار لغاية الوصول للهدف المنشود المتمثل بالأساس في استكمال فصول الحكاية.
للأسف، هناك من يخلط بين الفيلم الوثائقي السينمائي، الذي يتأسس على رؤية فنية خاصة بالمخرج، والتي تتطلب منه الكثير من الوقت لكي تكتمل وتتحقق بكل أبعادها الفكرية والفنية والتقنية، لأنه مشروع مفتوح على كل الاحتمالات الإبداعية، قد يصل الفيلم لنهايته بعد سنة أو عشر سنوات، أو يظل معلقا لأجل غير مسمى، عكس الفيلم الوثائقي التلفزي الذي ينبني على خط تحريري واضح، ويخضع لرغبات الجهة المنتجة، ويتلاءم مع خطها التحريري المضبوط، وبالتالي ينجز في مدة زمنية محددة وفق دفتر التحملات.
لهذا انصح المخرجين الشباب الذين ينوون طرق ساحة الفيلم الوثائقي أن يتسلحوا بثقافة فكرية عميقة وفنية حقيقية، وأن يتمتعوا بروح ضبط النفس والانتظار، لغاية التمكن من الوصول للهدف المرسوم في الإحاطة بالموضوع من الزاوية المرسومة له.
فيلمك هذا هو استمرارية من نوع خاص لفيلمك السابق “الراقص (ة)”، ما الذي يجمع ويفرق بين الفيلمين؟
بين فيلم “الراقصة” و”رجاء بنت الملاح” خيط شفاف من الأحاسيس، والاشتغال على مواضيع لها علاقة بالفن، فعزيز، بطل فيلم “الراقصة”، فنان شعبي يواجه يوميا مشاكل الحياة وعدم تفهم الكثير من الناس لمهنته كراقص في ساحة عمومية، بينما “نجاة”، بطلة فيلم “رجاء بنت الملاح”، فهي ممثلة تغيرت حياتها رأسا على عقب بعد أن شاركت في فيلم سينمائي فرنسي. بمعنى أن نفس الرؤية يستند عليها الشريطين، وهي البقاء في دائرة الفن سينمائيا، والانتصار لمواضيع التهميش والمهمشين، ومحاولة تسليط الضوء على قضايا مسكوت عنها في ثقافتنا المغربية. لأن السينما في اعتقادي، تلعب الدور الأكبر اليوم في تسليط الضوء على الزوايا المعتمة في المجتمع، ولا تتأخر في مناصرة كل ما له علاقة بالفن والجمال، من خلال أفلام تساهم في بناء جسر من الجمال والكمال يمتد نحو أفق مفتوح على دوائر الحرية المشتهاة.
أجرى الحوار: أحمد سيجلماسي