المخرج الشاب يونس ركاب، من مواليد الدار البيضاء يوم 7 أبريل 1975، راكم تجربة معتبرة على مستوى إخراج الأفلام السينمائية القصيرة والأعمال التلفزيونية المختلفة (أفلام، مسلسلات، سيتكومات…). يعتبر “الأوراق الميتة” (2015) باكورة أفلامه السينمائية الروائية الطويلة، وبمناسبة عرضه مؤخرا على منصة المركز السينمائي المغربي الإلكترونية في زمن الحجر الصحي أجرينا معه حوارا مركزا حول هذا الفيلم من جوانب مختلفة.
فيما يلي نص هذا الحوار:
جل أحداث الفيلم تجري بمدينة إفران وفضاءاتها الطبيعية الجميلة، لماذا تم اختيار هذه المدينة بالضبط لتصوير لقطات ومشاهد هذه الدراما النفسية ذات المسحة البوليسية؟
عند قراءتي الأولى للسيناريو أحسست بنوع من الهدوء يخيم على الأجواء، وكانت تنقصني أرضية مناسبة تجري فيها أحداث القصة، فلاحظت أن الديكور الوحيد في المغرب الذي يتميز بالهدوء ويصلح كفضاء لتصوير الفيلم هو مدينة إفران.. فسافرت أربع مرات إلى هذه المدينة الساحرة في مختلف فصول السنة وعاينت ما تزخر به من فضاءات مفتوحة وغير مفتوحة، وفي الأخير اخترت تصوير العديد من اللقطات والمشاهد بها أثناء فصل الخريف. فأجواء هذا الفصل وما يخيم عليه من حزن وسكينة إضافة إلى جمالية أوراق الأشجار المتساقطة على الأرض وغير ذلك كلها أمور تتناسب مع أجواء الفيلم. ولهذا اخترت أن تجري أحداث “الأوراق الميتة” بمدينة إفران.
في فيلمك السينمائي الروائي الطويل الأول هذا، يحضر القتل والدم والموت بكثرة، وهذا ثابت أساسي في جل أعمالك السينمائية السابقة (خصوصا الأفلام القصيرة)، هل من تفسير لهذا الأمر؟
أنا شخصيا لا أعرف بالضبط سبب ذلك.. هذا السؤال طرح علي كثيرا من طرف الصحافيين والنقاد السينمائيين.. في نظري المخرج إنسان عادي كباقي الناس والناقد السينمائي هو بمثابة طبيب أو محلل نفسي.. إذن أترك الكلمة لنقاد السينما لأنهم قادرون على شرح هذه المسألة، لكنني أعتقد أن الأمر فيه نوع من الصدفة لأنني من عشاق هذا النوع من الأفلام كمتفرج.
شخصت دور صحفي معروف، وكنت أول ضحية في الفيلم توجد مقتولة في غرفة نوم زهرة، هل تفضل دائما المشاركة كممثل في الأفلام التي تخرجها بنفسك؟
أنا لا أفضل أن أكون ممثلا في أعمالي، لكن بحكم أنني درست المسرح قبل أن أتوجه إلى السينما والسمعي البصري وأمارس الإخراج أشعر أن لدي رغبة في ممارسة التشخيص والوقوف على الخشبة أو أمام الكاميرا خاصة عندما أجد نفسي في دور ما أو شخصية ما. فإذا لم يكن الدور يناسبني لا أتطاول عليه.. رغبتي في المشاركة كممثل في أعمالي هي بمثابة نوع من التوقيع مثلي في ذلك مثل الكثير من المخرجين العالميين.. فهناك أولا عشق فن التشخيص، وثانيا قرب الشخصية التي أرغب في تقمصها مني.. من جهة أخرى هناك أفلام قصيرة عدة أخرجتها دون أن يكون لي أي دور فيها كممثل.
أداء الممثلين بشكل عام كان مقنعا، خصوصا بطلة الفيلم، فمنهم الشباب، كسناء بحاج وربيع القاطي وربيع بنجهيل وحسنة المومني ونبيل عاطف وغيرهم، والمخضرمين كنادية نيازي وعبد الرحيم الصمدي وحميد نجاح والراحل خالد الباكوري، كيف تم اختيارهم وإدارتهم من طرفك؟
تم اختيار الممثلين عبر كاستينغ احترافي، فقبل التصوير بأكثر من سنة كنت قد حسمت في اختيار ممثلي الأدوار الرئيسية كسناء بحاج وربيع القاطي وحسنة المومني والراحل خالد الباكوري، أما الباقون فقد تم اختيارهم أثناء الإعداد وقبل مباشرة التصوير.
أشكرك أولا لأنك أشرت إلى أن أداءهم في الفيلم كان جيدا، وهذا لم يتأتى إلا بعد جهد جهيد وعمل دؤوب.. لقد خصصت ثلاثة أسابيع تقريبا للتداريب مع الممثلين والممثلات قبل التصوير.. اجتمعنا في مركز الاجتماعات وقمنا بقراءة سيناريو الفيلم كله.. مشهدا مشهدا مع الممثلين الرئيسيين.. وأثناء تلك القراءة تم تغيير الكثير من مقاطع الحوارات الخاصة بكل ممثل أو ممثلة.. بعد ذلك شخصنا على الخشبة حوالي ثلثي مشاهد الفيلم. بفضل هذه التداريب إذن كان أداء الممثلين في المستوى الذي وصل إلى الناس.. بالنسبة لي لا تتم إدارة الممثلين في بلاطو التصوير بل قبل ذلك في تداريب الإعداد والإشتغال القبلي معهم، حيث أقترب منهم أكبر قدر ممكن بغية التعرف على شخصية كل ممثل على حدة وعلى خصوصياته وكيفية تعامله مع الآخرين في مواقف وحالات نفسية مختلفة مع الوقوف على نقط قوته وضعفه.. وأثناء التصوير يكون الممثل على دراية شبه تامة بما هو مطلوب منه في كل مشهد أو لقطة، حيث لا تبقى إلا مسألة “الدوزاج” أي القدر المرغوب فيه من الأحاسيس والحركات وغير ذلك من الأمور التعبيرية.
حضور عبد الكريم الدرقاوي وسعد الشرايبي ورشيد فكاك والراحل أحمد الصعري في الصف الأمامي لمشاهدة الفيلم المغربي “حلاق درب الفقراء” في إطار أنشطة نادي سينمائي، وإطلاق إسم “الركاب” على الشخصية التي أداها الفنان حميد نجاح، أحد الأبطال الأساسيين في فيلم “حلاق درب الفقراء”، هل هو نوع من التكريم للوالد محمد ركاب ولبعض رواد حركة الأندية السينمائية بالمغرب؟
هذا السؤال ليس محرجا في الحقيقة، لكنه يحرك فيّ كثيرا من المشاعر. أنا لا أزال أذكر المرة الأولى التي وضعت فيها قدماي على أرضية بلاطو تصوير فيلم “حلاق درب الفقراء”، حيث كان عمري آنذاك حوالي ست سنوات. ومن ثمة وجدت نفسي منجذبا بشكل عام إلى عالم السينما.. كنت أشاهد والدي وأسمعه وهو يقول “أكسيون” (حركة) أو “كوبي” (اقطع) أو يدير الممثلين ويوجههم، وظل ذلك راسخا في ذهني حيث لا زلت أذكر جيدا أجواء التصوير بدرب السلطان. بعد ذلك درست السمعي البصري والسينما وأخرجت أفلاما قصيرة وأعمالا تلفزيونية، لكن أول أفلامي السينمائية الروائية الطويلة لا يمكنني إنجازه دون تكريم من خلاله لوالدي الراحل محمد ركاب، فهذا أضعف الإيمان. لكن هذا التكريم لا ينبغي أن يتم بشكل مجاني مضاف إلى قصة الفيلم، وإلا فقد مصداقيته. ولهذا تمت مناقشة المسألة مع كتاب السيناريو واتفقنا على إدخال عنصر النادي السينمائي في أحداث قصة الفيلم. إذن تكريم محمد ركاب يعني تكريم كل ما كان يحيط به: أصدقاؤه، نوادي السينما، الأنشطة الثقافية والفنية التي انخرط فيها… لقد صورت لقطة من فيلم “حلاق درب الفقراء” لتبقى راسخة في التاريخ، كما صورت آلة العرض السينمائي (35 ملم) وسط القاعة وناديت على ثلة من أصدقاء والدي لم يتمكن من الحضور منهم لحظة التصوير إلا من سمحت لهم ظروفهم آنذاك بالمجيء كعبد الكريم الدرقاوي وسعد الشرايبي ورشيد فكاك والراحل أحمد الصعري.. ما قصدت قوله من خلال إدراج لقطة من فيلم والدي في فيلمي الطويل الأول أشياء كثيرة من بينها: نحن الشباب وجدنا طريق السينما معبدة، وجدنا الدعم والمهرجانات وأمور أخرى كثيرة، لكن ما لا ينبغي نسيانه هو أن السينمائيين المغاربة الأوائل (الجيل الأول والثاني والثالث) هم من عبدوا الطريق للأجيال اللاحقة بنضالهم المستميت. لقد اشتغلوا في ظروف صعبة من أجل استنبات فعل سينمائي وثقافي نجني ثماره اليوم، وكان بإمكانهم الهجرة إلى الخارج للبحث عن شروط أفضل لممارسة عشقهم للسينما لكنهم فضلوا البقاء ببلادهم والنضال من أجل تحسين شروط الممارسة السينمائية داخل المغرب.. إذن جيلنا عليه ألا ينساهم، فإذا كانت السينما المغربية قد بلغت الطابق الأول حاليا فالفضل كل الفضل يرجع إليهم في وضع أسس هذا الطابق الأول وبناء الطابق السفلي لعمارة السينما ببلادنا.
يبدو أن الفيلم خال إلى حد ما من الروح المغربية والخصوصية الثقافية، على مستويات المأكل والملبس والديكور…، وكأن شخصياته الرئيسية تنتمي إلى مجتمع غربي وليس عربي أمازيغي إسلامي. فباستثناء جانب من الحوار بالدارجة المغربية والفضاءات التي صور بها (الدار البيضاء وإفران) وسيارات الأمن الوطني وأمور أخرى، يخال المرء أنه يشاهد فيلما غير مغربي، خصوصا وأن الجنريك كله مكتوب بالفرنسية، أين إذن تتجلى الخصوصية المحلية في الفيلم؟
أتفق معك في جانب واحد فقط، وهو المتعلق بالجنريك المكتوب بالفرنسية وحدها. وأنا شخصيا أتحمل مسؤولية ذلك. كنت أود أن أنجز هذا الجنريك بالعربية لكن واجهتنا صعوبات على مستوى الإعلاميات، وبعد ذلك لم أعد أذكر ماذا وقع.. كان هذا سنة 2013، أما عندما كنا بصدد الاشتغال على المونطاج سنة 2014 لم أذكر ما حصل وتركنا الجنريك بالفرنسية وحدها.. وهذا خطأ أتحمل كامل المسؤولية فيه.
أما عن خلو الفيلم من الهوية المغربية، فلا أظن ذلك.. لماذا؟ ببساطة لأن المغرب يزخر بالشخصيات المتنوعة.. فبطلة الفيلم زهرة نجد الكثير من مثيلاتها داخل مجتمعنا.. فأكثر من مليون امرأة بالمغرب الحالي تعيش بنفس الطريقة التي عاشتها زهرة في فيلم “الأوراق الميتة” أي أنهن يعشن بحرية، يمارسن الرقص، يشربن كأسا من النبيذ في الليل، يتجولن خارج المنزل…إلخ…
أنا أقول بعكس ذلك، فالفيلم مغربي مائة بالمائة، لماذا؟ لأنه في المغرب نجد المسجد والحانة في نفس الحي.. فإذا كانت أحداث الفيلم تجري كلها في حانة، مثلا، فهذا لا يعني أنه فيلم غربي.. إنه فيلم مغربي.. إذن في المغرب نجد امرأة بالحجاب وأخرى عارية الرأس وثالثة بالميني جيب.. وهذا الاختلاف هو الذي يميز البلاد ويجعلها جميلة ويعطيها قيمة.. الدليل أننا نعيش في مناخ مجتمعي تطبعه الحرية نسبيا..
هناك أسئلة كثيرة جاءتني من صحافيين ونقاد مفادها أن الفيلم لا يعكس الهوية المغربية.. تبقى لكل واحد منا وجهة نظره في الموضوع.
حضور أفراد أسرة الركاب واضح في الفيلم، علي في إدارة التصوير، أنيسة في الإنتاج والتشخيص والملابس، مراد في الكهرباء، يونس في الإخراج والتشخيص والسيناريو والمونطاج، هل يمكن القول أن “الأوراق الميتة” فيلم عائلي؟
لم أخترهم لأنهم من أفراد عائلتي وإنما لكونهم من التقنيين السينمائيين المحترفين الذين يمكنني أن أستفيد من تجاربهم في الميدان.. فالمخرج هشام الجباري، على سبيل المثال، استعان بخبرة أخي علي ركاب في إدارة تصوير فيلمه السينمائي الروائي الطويل الأول وكانت النتيجة مشرفة للغاية. كما أن المخرج سعد الشرايبي يشتغل كثيرا مع أختي أنيسة ركاب، في حين اشتغل أخي مراد في العديد من الأفلام السينمائية وغيرها. إذن يشرفني الاشتغال معهم لأنهم تقنيون محترفون.
بالإضافة إلى المقاطع الموسيقية المناسبة، التي أمتعنا بها المبدع عادل عيسى ودورها التعبيري في بعض مشاهد الفيلم، لاحظت أنك حاولت الاحتفاء بمجموعة من الفنون كالرقص والموسيقى والتشكيل والسينما رغم حضور المأساة الاجتماعية والنفسية للبطلة، فما هي طبيعة العلاقة بين الفن والمعاناة في الفيلم؟
الأفلام التي أرغب في إنجازها هي التي تحبل بالمفارقات، وليس معنى هذا أن تناول المعاناة في الفيلم يفرض إظهار الفقر… لقد اخترت أن أضع أحداث القصة المأساوية في قالب فني، حيث نستمتع بمشاهدة لوحات تشكيلية والاستماع إلى مقاطع موسيقية وتتبع رقصات تعبيرية وغير ذلك… أظن أن الفن والفنانين يعانون ليس في المغرب فحسب وإنما في العالم كله، بما في ذلك ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية، التي ليس فيها فقط أفلام هوليود وإنما أيضا أفلام مستقلة لها قيمة أكبر ومع ذلك تظل مهمشة لأنها لا تدخل في نظام هوليود وأشياء أخرى.. أرى أن الفن هو الضحية الأولى في العالم كله أي أنه لم يأخذ حقه بعد من الاهتمام والتقدير.. لم أكن أشعر بهذا الأمر في البداية، لكن عندما انتهيت من إنجاز الفيلم اكتشفت ذلك.. أنا شخصيا لا أريد أن أصنع فيلما لكي أمرر رسالة ما، وإنما أرغب في أن تكون الأمور تلقائية.. فلإظهار الأمل، مثلا، لست من الذين يصورون الشخصية أمام البحر.. المخرج إنسان عادي، لكن الناقد السينمائي يمكنه التأويل والتحليل وإخراج أشياء قد لا تخطر حتى ببال المخرج نفسه.. ومعنى هذا أن الناقد هو بمثابة المحلل الذي بإمكانه أن يتوصل إلى كيفية تفكير المخرج انطلاقا من مقاربة أعماله الفنية.
أجرى الحوار: أحمد سيجلماسي.