للمطلعين على الأدب الألماني، لا بد أنهم يتذكرون الرواية الشهيرة “الحمامة” للكاتب الألماني باتريك زوسكند، هذه الرواية تحكي قصة رجل خمسيني اسمه “جوناثان نويل” يعيش حياة رعب وذعر كبيرين، كان جوناثان جنديا في حرب الهند الصينية، اختفى والداه، وهاجرت أخته الوحيدة، بينما هربت زوجته رفقة عشيقها ليستقر به المطاف حارسا لبنك في باريس لمدة 30 سنة.
الغريب في الأمر أن جوناثان، قضى الثلاثين سنة هاته في رعب كبير، داخل غرفة صغيرة في فندق، طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران، فيها سرير وطاولة وكرسي، حياته مملة، ورتيبة تطبعها العزلة، دائما يعيش خائفا ومتشائما ومذعورا …والسبب هو الحمامة، حمامة وجدها ذات صباح قرب باب غرفته في الفندق.
وشكلت الحمامة رعبا هائلا وشبحا مخيفا لجوناثان، كل دقيقة وكل برهة وكل ساعة يتخيل أنه سيصاب بجلطة دماغية أو قلبية أو بانهيار عصبي ويفكر ألف مرة كيف سيخرج من باب الغرفة لعمله والحمامة رابضة قرب الباب…وحتى إن خرج فبشق الأنفس، بل بلغ به الأمر أحيانا أنه كان يقضي حاجته داخل غرفته خوفا من الذهاب إلى المرحاض الذي يوجد بممر خارج الغرفة..
هذا هو حالنا اليوم مع فيروس كورونا، ذعر وخوف كبيرين، لكن يا ليت هذا الفيروس كان حمامة، على الأقل كنا تخلصنا منها وخرجنا من بيوتنا وانتهى الأمر. العبرة من الرواية، هي أن الإنسان يجتاز فترات من حياته -خوفا من شيء ما- فيهتز توازنه النفسي والذهني، وتتدمر قدراته وطاقاته ويضعف كليا وهذا ما لا يريده الكاتب الألماني الذي يتهكم على ضعف بطله.
لكي ننتصر – وسننتصر- يجب أن نسحق الخوف والضعف اللذان يستبدان بنا في هذه الظروف العصيبة، ولنبق أقوياء في مواجهة هذا الفيروس، ويكفي أن نسترجع جوانب مختلفة من تاريخنا الكبير كي نكتشف أنه لا شيء يواتينا غير الشجاعة ولا يليق بنا غير القوة والصمود.
لقد تعرض بلدنا -كما غيره من المجتمعات البشرية- منذ العصور القديمة مرورا بالعصور الوسطى وحتى في الفترات الحديثة (خاصة القرن 18 و19 ) لأقوى وأقسى أنواع الأوبئة والأمراض : طاعون أسود وكوليرا وجذري وملاريا وتيفويد ومجاعة… خضع الناس خلالها للحجر الصحي ول “الكرنتينة” وفي وقت عز فيه الدواء واللقاح ، كان عزاء الناس الوحيد هو الصبر والتضرع والابتهال لله عز وجل.
نحن شعب لم يضعف أو يهتز يوما ما …سننتصر على هذا الفيروس إكراما لهذه الأرض التي تكره الفراغ : أرض تنبض حياة ولونا وعشقا ، ولا تعرف معنى للغياب، أرض يختلف ليلها عن نهارها وشتاؤها عن صيفها، ليل مطرز بحكايا الجدات الجميلة، وشتاء تغمرك بمطرها الذي يطهرك من شوائبك فتولد معه من جديد، ضجيج الأطفال في الأحياء والأزقة يحيي ما مضى بداخلك، رائحة الخبز المعجون بفرح الأمهات تعيدك لأصلك الأول، حلوى العيد ودفء الأجداد وشقاوة الأحفاد وتفاصيل العيد الكثيرة تجعلك متيما بهذه الأرض وأهلها حد الذوبان، أذان المساجد التي تبعث فيك قوى روحية دفينة ومطمئنة، المقاهي الممتلئة تشدك بعبقها الذي لا يقاوم، عبق منبعث من كؤوس الشاي وممزوج بثرثرة الجالسين، مما يمنحك امتدادا وفرحا لا حدود لهما، شعب كريم بالفطرة ومنذور للعشق والطيبة، يكفي أن تطلب عونا بسيطا فتجد ألف يد ممدودة إليك، شعب لا يعرف المستحيل، في الشدائد والأزمات تجده درعا أماميا كما اليوم وفي وقت الرخاء تجده راضيا مرضيا ، كتبت عن بطولاته قصصا تتحدى الزمان والمكان….سننتصر لا محالة ، لأن على هذه الأرض -أرض المغرب الجميلة- ما يستحق الحياة.
خديجة برعو