بجرأة لم يعهدها لدى كثير من نساء الشرق أقبلت نحوه كأنها سلطانة المماليك لتقف بهيبة أمامه وكأنه أحد رعاياها، اذ أوردتها السبل نحو محل عمله في مكتب صغير داخل مبنى قديم لأحدى الدوائر الحكومية في العاصمة بغداد، لقضاء أمر يخصها..
دوى صوت انفجار بعيد اهتزت له النوافذ وارتجت منه بعض الستائر لكنه لم يهز له جفن وهو يراقب ابتسامتها تختفي من ملامحها شيئا فشيئا، فلم يجري كعادته ليستفهم عن موقع الانفجار ويتقصى أنباؤه.. بل نهض هذه المرة كالمجنون من كرسيه ليشير اليها بالجلوس..
هل يجن الانسان من النظرة الاولى، وأية نظرة هذه التي تثير فيه كل هذا الجنون.. نظرة لجسد ممتلئ مفعم بالحيوية، ونهدين بارزين، ورائحة الأنوثة هذه تكفي لايقاظ غرائزه النائمة وتشده نحوها دون ان تحرك ساكنا لتحل عليه لعناتها..
لم يرغب ان يعرف سبب زيارتها كي يطيل من أمدها، بل حاول مماطلا الدخول حتى في مواضيع ليست ذا أهمية ليرتوي من سحر أنوثتها ويملأ كأسه الفارغ من العشق.
فتحدثا في كثير من الامور في لحظات تمضي غير آبهة بهما، بل وتأبى أن يقربا من كلمات العشق.. غير ان العشق ليس كلمات فحسب، ليطغى عليه شعور في كونها أجمل اللحظات..
في ثاني اطلالة لها عليه كانت كل الاسرار مكشوفة، وكل الاغوار مسبورة.. اذ لم تكن الرغبة في ان يراوغ اكثر من اجل الوصول اليها طالما لمس منها تجاوبا، فكانت اللمسة الاولى اسرع مما كان نفسه يتوقع..
لم تكن أقل منه انجذابا حين استسلمت له لتتذوق معه طعم تلك اللحظات.. فمن اجل انوثتها تأبى المرأة الاحتفاظ بعرشها لتتنازل عنه لمملوك يستطيع كسر ابوابها الموصدة، ويتسلل بين ثناياها لتصبح اخيرا كجارية له تبحث عن رضاه ليمسي مليكا لها..
جوى يكويه مع كل نفحة من انفاسها يعرف جيدا انه ليس بشئ يذكر امام الحرائق التي تمر بها بلاده والتي لم تمنعه من الشعور بنشوة الجوى اذ منحته رحيق العشق فضلا عن الامل والاطمئنان الذي يفتقده.. فالتوافق بين طرفين لايحتاج الى اكثر من كلمة طيبة وقلب صادق ليتنازل كل عن عرشه، فما بال من يتصارع من اجل عروش يمكن التنازل عنها..
لم يكن بحاجة الى تفخيخ الحواجز المؤدية الى قلبها بعبوات ناسفة كي يحصل على قبلة من شفتيها.. كما لم يكن بحاجة الى تشكيل ميليشيات لاقتحام مشاعرها والسيطرة عليها.. فها هو يملك عرشها حين شعرت بالامان قربه..
كانت فحسب تخفي عنه الكثير من ماضيها خوفا من مجهول تأبى الاقتراب منه، رغم انه كان ايضا يكره الخوض في ذلك الماضي الذي لم يكن يحمل سوى عذابات تصرخ في نفسها لتؤرقها حتى كادت تنسيها اللحظات الجميلة.. كما انه لا يملك سلطة على ماضيها.. لذا كان يحاول الابحار بين خلجات ذاتها المرهقة ليحتوي حاضرها ويتخيل لها مستقبلا لايحمل بين طياته مايعكر صفو القلوب ويؤرقها..
لم يتوقع ان تتأخر عن موعد لها معه، رغم انه لايعرف ان كانت معتادة على التأخر عن مواعيدها، فهو لم يقابلها سوى مرات قليلة، ربما ثلاث مرات فقط.. حاول الاتصال بها عدة مرات، وفي كل مرة كانت تخبره ان أعباء الحياة حالت بينها وبين لقائه، لكنها آتية لامحالة.. وهو ينتظر.. الهواجس تتحول الى وساوس توخز صدره، لكنه وجد لها مع نفسه عشرات الاعذار ليبعد الوساوس عن صدره.. غير ان شكا واحدا فحسب أوجس منه ان يدمر صرح أعذاره التي يمنّي النفس بها.. حتى اعتذرت هي اخيرا عن الحضور لتخلصه من دوامة الانتظار لكنها ادخلته في جحيم الشك الذي حاول ان يطرده من رأسه مستعيدا شريط اللحظات الجميلة التي قضياها معا، متأملا لحظات قادمة أجمل.
للمرة الخامسة.. والسابعة و.. تأخرت.. ولم يتحقق اللقاء الرابع، لابد ان يتدخل القدر ليعكر صفو اللحظات الجميلة.. الاعذار كثيرة والتبريرات اكثر حول اسباب تأخرها بل وعدم حضورها، فكان مجبرا على تصديقها ليبقى متربعا على عرشها.. لكنها في النهاية أعذار، ومايحمله مجرد قلب.. والقلب ليس محصنا من الشك مهما بلغ امتلاؤه بالعشق.. فهناك موت في الشوارع ودماء سالت بسبب شكوك وهواجس.. فكيف له ان يقتل ذلك الشك؟!.. وكيف له ان يتخلص من هواجسه لينجو بنفسه؟!..
كما ان غشاوة القلوب تعمي البصيرة لتحجب الحقيقة التي تمنع الدمار وتصد الموت وتنشر الحياة.. كل ماكان عليه فعله ان يبعد تلك الغشاوة ليكتشف ان ماكان يجول في صدره مجرد هواجس تنحر العشق على مذبح الشك.. اذ كانت اسباب غيابها مقنعة حين حل اللقاء الرابع بمجيئها ليرجع قلبه ينبض من جديد.. نبضات تدفع بالحياة نحو الامام.. ويكتشف ان اعذارها كانت حقيقة، وان كل ماكان يجول في خاطره كان مجرد هواجس..
جليل ابراهيم المندلاوي – مصر