صدر عن مؤسَّسة الثَّقافة بالمجَّان كتابٌ جديدٌ للأديب الدُّكتور إميل كَبا، يحملُ عنوانَ “قِراءات في ناجي نعمان”، وتزيِّنُ غلافَه لوحةٌ بريشة الفنَّان التشكيليّ جرَيج بوهارون. وهو يقعُ في 160 صفحة من الحجم الوسط، ويتضمَّنُ تحليلاً ونقدًا لأحد عشر كتابًا أدبيًّا لنعمان أدرجَها في سلسلة “حياةٌ أدبًا”، مع انتِقاء مُختاراتٍ من تلك الكُتُب، إلى قصائِدَ وتعليقاتٍ مختلِفةٍ لكَبا في نعمان، كتبَها منذ العام 2000 وحتَّى تاريخه.
وقد جرى التَّعريفُ بكتب نعمان بحَسَب تاريخ صُدورها، وكذا تَحليلُها ونَقدُها، فاختِيارُ مُنتَخَباتٍ منها، بدءًا بـ “الرَّسائل” الصَّادر في العام 1995، والمُتَضَمِّن “خمس وعِشرون” (1979) و”أنتِ الوطن” (1980)، وصولاً إلى “الفِكرُ مُهَروِلاً” الصَّادر في العام 2019، مُرورًا بـ “المُنعَتِق” (1997)، و”المُندَمِج” (1999)، و”الحالِم” (2001)، و”الألِفياء” (2002)، و”المُسالِم” (2005)، و”القاتِل” (2009)، و”المُتسامِح (2009)، و”العدَّاء” (2014)، و”بأَلَمٍ وذكاء قلب” (2016).
***
وممَّا كتبَه الدَّكتور إميل كَبا في أعمال نعمان تلك:
* أنَّ “الرَّسائِلُ” أوَّلَها يغلِبُ فيه مَنطقُ الخاطِرةِ مُنبثِقَةً من عنوانٍ مَشهَدٍ يُشكِّلُ النَّواةَ، نُطْفَةَ الحبِّ في القَول بأنواعه الكثيرة، عِشقًا ووطنيَّةً وغَيْرِيَّةً وانتِماءً غيرَ محدودٍ إلى حقائق العَيش، كحَتميَّةِ الموت وحركة الكائنِ عندَ شَفا النَّفسِ وتُخوم الآخَر، كلِّ آخَر، أولادًا وأقرانًا ومُحصِّلاتِ تجاربَ في الدِّين والله والزَّمان والمكان والخلود والعدم والاندِماج والألف الثَّالث وما بَعدَه.
أمَّا الأداءُ المُعتَمَدُ استِقدامًا للأَنوارِ الكاشفةِ الأبعادَ، فيتَرَجَّحُ بين الوَمْضِ الشِّعريِّ في كلِّ ما يَمُتُّ بِصِلةٍ إلى الوِجدانيَّات طالِعَةً من عُمق التَّجربة الحياتيَّة بهَدفِ التَّأثير، ومنَ الفِكر المُطَوِّفِ في سماء التَّعليل والذَّرائع الهادفة إلى الإقناع، خصوصًا في “مُستقبليَّات” حيث يتَنَكَّبُ السَّردُ انطلاقةَ الفانتازيا، ذاتِ الرُّؤيا الاستِباقيَّة للأحداث قبلَ وقوعها؛
* وأنَّ “المُنْعَتِقُ”، الكتابَ الثَّاني بأجزائِه الثَّلاثة: “العائِد”، و”الشَّريف”، ثمَّ “في الانعِتاق ومَفهومه”، يبدو كأنَّه تتمَّةٌ ما لـ “الرَّسائِل”، بل نظرةٌ من زاويةٍ أخرى إلى الوجود، أزالَ الكاتبُ من مُشاهداتِه عبرَها حدودَ الزَّمان والمكان، كحالِ سَيرورَةِ الحياةِ في الحُلم، يُظهرُها نُتَفًا من كلِّ شيءٍ وموقفٍ ومُؤَمَّل، مُضَمِّنًا سَرديَّاتِه في مُصَنَّفه مُناخَ الرَّسم التَّجريديِّ مع أنَّها وقائع، ما يُحتِّمُ على قارئه أخذَها كُلاًّ لا يتجزَّأ جامِعًا فلسفةَ كاتبها ومفهومَه للحياة.
أمَّا خاتمةُ الكتاب فبالأسلوبِ المباشر، وِقفَةَ مُعَلِّمٍ في كِرازة، مُوازِنًا بين الوافِد العِلميِّ مع التَّطوُّر التِّقانيِّ وثوابت الغَيْرِيَّة والأخلاق، استِحداثًا للانعِتاق من المادِّيَّةِ القاتلةِ هناءَ الإنسانِ وعافيةَ العيشِ السَّوِيّ؛
* وأنَّ “المُنْدَمِجُ”، الكتابَ الثَّالثَ في هذا المجلَّد، تتعَدَّدُ العناوينُ فيه حتَّى داخلَ أجزائه الثَّلاثة.
فـ “الصَّامِتُ” فاتحتُه حِواريَّاتٌ مُنطَلَقُها مُشاهداتٌ شائعةٌ في حياة الجَماعة، استِحضارًا لمُفارقات الغنى والفَقر، والقبحِ والجمال، والقوَّةِ والضَّعف، والجلاَّدِ والضَّحيَّة، والحسدِ والغبطة، وما وسِعَ الواقعُ الإنسانيُّ من ثُنائيَّاتٍ مُتَضادَّات.
وعلى مِثال الأوَّل: “الدَّيَّان” الجزءُ الثَّاني، لكنْ بمنحًى اتِّهاميٍّ أكثرَ وضوحًا في الزَّلاَّت، وأبلغَ تشهيرًا بالمُقتَرَفِ غيرِ الصَّالح؛
ومن ثَمَّ يدخلُ المؤلِّفُ عالَمَ أناهُ في جُزءٍ ثالثٍ هو “السَّائح”، بما يُعَدُّ في اعتِقادي خُلاصاتٍ عاطفيَّةً فكريَّةً في آن، وعُروضًا نهائيَّةً تُقدَّمُ للذَّات المُضطرِبَة في عالَم النَّاس فتَعرفُ سَلامها؛
* وأنَّ “الحالِمُ”، الكتابَ الرَّابعَ في هذه المجموعة بجُزْئَيْه: “الأخير”، و”الأوراق”، استِحضارٌ مُبكِرٌ لغَدِ الأرض وواقعِ الإنسان فيه، حيثُ الانتِصارُ لفكرةِ الطُّموح والمُثابرة في كَنَفِ الإيمان بالانعِتاق، لاندِماجٍ مُنقذٍ يَليه من ضِمن الحقيقة الواحدة، تَسَلُّحًا بالأَنسَنَة الَّتي من أجلها وُجدَ الإنسان.
وفي هذا الجُزء الأوَّل ترينُ السَّرديَّةُ أيضًا على المقاطع المرقَّمة، تسويقًا لما يراه الكاتب الحالةَ السُّميا الَّتي لا يليقُ بسواها الوجود، مُعيدًا قراءةَ الحياة من ناحية مُنتهاها، موتًا خالقًا يُذيبُ الفوارقَ بين البشر، ومُقدِّمًا كبديلٍ خلودَ الجمال والقِيَم بأيدي المائِتين قبلَ ارتحالهم.
وتعودُ في “الأوراق”، الجزءِ الثَّاني من هذا الكتاب، مُناخاتُ الخاطرة عبر “الوصيَّة” و”المقصِّرة” و”العار” و”الأناشيد” حيثُ مدَدٌ من الغِنائيَّة يواكبُ الفكرةَ الخُلقيَّة، فيُداني الكاتبُ ما اصطُلح على تسميته في التَّقويم النَّقديِّ “المقالة التَّعليميَّة الغِنائيَّة”، ذاتَ التَّوجُّه الشِّعريِّ المؤدِّب في الوِقفةِ الفنِّيَّة الواحدة؛
* أمَّا “الألِفياء”، الكتابُ الخامسُ في هذا المجلَّد، فتَفقيطٌ للوجود يَتَّبِعُ ألفبائيَّةَ أحرفِ الهجاء، في غوصٍ على خُيوره وشُروره، إنجازاتِه ومُرتقباتِه، دياناتِه ومُحَرَّماتِه، فنونِه ومُسطَّحاتِه، يقفُ “الناجي” إزاءَها كلِّها وِقفةَ الحائر بين أنْ يُقدِمَ مُواجهًا الانحرافَ، أو يُحجمَ اكتفاءً بأنْ يُناديَ بالأَنسنة، إلى يومَ استتبَّ له الأمرُ أمانًا وسلامًا بعودة الرُّوح الإنسانيَّة إلى الإنسان جالِبَةً له وللهِ النَّصر.
هي “المَلحَمَةُ” جزءًا أوَّلَ في هذا الكتاب، يليه “الرَّاحل” جزءًا ثانيًا بأداء “الرَّسائل”، الكتابِ الأوَّلِ، عناوينَ يَستقيها ناجي نَعمان من الكلمةِ الأولى في كلِّ لوحة، مُستَرسلاً في عالَم الميلوديا، تساوقَ أصواتٍ وصُورٍ بها الشِّعر، وشجًا جبرانيًّا كما في “النَّبيّ”، حيث دمعُ الفِراق يُؤاسيه الفرحُ بتَمام الرِّسالة.
وبعدَ هاتَين الباقتَين الاثنتَين، يتقدَّمُ “المُحاور” في ما يُشبهُ الرَّسائل الموجَّهة إلى هاماتٍ من التَّاريخ الإنسانيّ، عظماءَ فلسفةٍ وسياسةٍ وفنونٍ وآدابٍ ملأوا مضاميرَهم نجاحات، فحاكى ناجي نَعمان بطَوافه في عالَمهم أبا العلاء في “رسالة الغفران”، ودانتي في “المَلهاة الإلهيَّة”، بعدما أماطَ اللِثامَ عن جانبٍ من وجوه مُختاريه، مُفسحًا في المجال لنفسِه فتطبعُ على وجناتهم ألوانًا من أحلام رُؤاه؛
* وأنَّ “المُسالِمُ”، الكتابَ السَّادسَ في هذه المجموعة، ينهجُ في “السَّأَّال”، جُزئِه الأوَّل، نهجَه في “الرَّاحل” من الكتاب الخامس، ابتداءً بعنوانٍ هو الكلمة الأولى في خاطرة اللوحة، لكنْ بتكثيفِ صورٍ ومشاعرَ وازِنَة، إلى تَمادٍ في ملازمة الذَّات والإِكثار من التَّساؤل؛
و”الثُّلاثيَّة”، جُزؤه الثَّاني، بالشَّرع عينِه، “ثلاثيَّاتٌ” و”ثُنائيَّةٌ” و”الأُحاديَّة”، حيثُ لا انقِطاع للعنوان عن التَّركيب اللُغويِّ للفكرة المتأمَّلة، وختامُ كلامٍ على ربِّ الحياة ساكنًا الكونَ، والطَّريقُ إلى مُلاقاتِه ومعرفتِه أنسنةٌ تجمعُ ولا تُفرِّق؛
بعدَها “الشَّاعرُ” قِسمًا أخيرًا في أقاصيصَ يغلبُ عليها طابعُ الاستِذكار، وأقباسٌ من المُشاهدات اليوميَّة المحمَّلة بوافِر الإشارات والرُّموز، فيختلطُ فيها العامُّ بالذَّاتيِّ الخاصّ، في نزعةٍ إلى اصطِفاء الزُّهدِ في الدُّنيا، مُعتَقَدًا وأمجادًا ومُقتَنَياتٍ، مُكتفِيًا به غَناءً من دون سواه؛
* أمَّا الكتابُ السَّابعُ في هذا المجلَّد وعنوانُه “القاتِل” أو “لِحُبِّكِ سُلافَة” فمَسْرِواية، أو حواراتٌ مُمسرَحَةٌ في فصولٍ أربعة، يتجاورُ فيها الفصيح والمَحكيّ، في توجُّهٍ إلى خروجِ الحبِّ مُنتَصرًا على الأحقاد في المعارك النَّاشبة بين أبناء العشيرة الواحدة؛
* و”المُتسامِحُ”، كتابًا ثامنًا، وفيه “نهايةُ عشّ”، وهو سرديَّةٌ شعريَّة، لعلَّها تروي ضنًى شخصيًّا ألَمَّ بأفراد أسرة الكاتب، فجاء “المُتسامحُ” تنقيحًا لفكرة “القاتِل”، الكتابِ السَّابع، لكنْ بريشةِ الشِّعرِ الوامِئ وَمْئًا خاطفًا وحرارةِ البَثِّ في الخاطرة المتألِّمة.
* أمَّا “ألعدَّاء”، كتابًا تاسِعًا، فهو كتابُ الاختِلالات على صعيدَي العيشِ والحضارة، و”العدَّاءُ” فيه “عَدَّاءُ فِكرٍ وجسد” في سعيٍ لاقترانِ النَّتائج في واقع الرَّائي الحالِم الَّذي هو.. بأسباب، مِن طريق افتراضيَّاتٍ تمثِّلُ في النِّهاية تَوقَ الكاتب الجامِزِ بالحُلم في الزَّمنِ لحظةَ التَّفكُّر، وفي الوقتِ نفسِه مآخذَه على النَّسق المُرتَجِّ وغيرِ المعقول الَّذي تجري بموجبِه الحياة.
لكنْ.. إلامَ أَفْضى هذا الحَراك في خاتمة المَسعى؟
إلى اللاشيء، في الأرضِ الواحدةِ والسَّماءِ الواحدة، والمكانِ والزَّمانِ والحياةِ والموتِ تكرارًا عبرَ الأجساد، إلاَّ مِنْ قدَرِ اللهاث وراء قدمَين في هذا الدَّهر، ومحاولةِ الإنسانِ التَّوفيقَ بين ما يَعتقدُه من دواعي الحُرِّيَّة الَّتي يتمنَّى وما يَعترضُ تحقيقَه ذاتَه مِن موانعَ لدى الآخرين. وما الأسطرُ الأخيرةُ في الكتاب إلاَّ إشارةٌ إلى عبثيَّة الجهدِ بل ضياعِه.
“فالعدَّاءُ رَفرَفتْ روحُهُ فوق بيتِ طفولتِه في كيسمايو رضيعًا عند ثديِ أمِّه، وفي حِضْنها”، في طيٍّ للحُلم الشَّارحِ الواقعَ بالمُتَوَقِّع، بل إلغاءٍ لما بعدَ القبولِ بالحياة بسيطةً، بريئةً، تلقائيَّةً مُرتجلةً وحتَّى من غير تَفَكُّر. وإذا ما يدعو إليه العدَّاءُ تغليبٌ للخُلُقيَّةِ العارفةِ استحالةَ تغييرِ الكون، والاكتفاءُ بالتَّأثيرِ في المُحيطينَ بنا كي يصبحوا مُتخلِّين أنقياءَ “مثلَنا وأفضلَ منَّا”.
واللافتُ في حُكمٍ أخيرٍ على هذا العمل الجميل.. توشُّحُهُ بالحزن جَرَّاءَ ما تَستَبقيه الذَّاكرةُ من مَضْبَطةِ اتِّهامه العصرَ والحضارة، لكنَّهُ حزنٌ مُضيءٌ العيشَ بما يكشِفُ من أفراحٍ يزخَرُ بها عندَ حدودِ الإبكاء، وأبديَّةَ المواقعِ المفروضةِ على إنسانِه في مسيرتِه الرَّتيبة المكرَّرَة الَّتي لا تزول.
مَن قال: ليسَ في المعرفة اسْتِغناءٌ عن تَطلُّب، أو يقولُ مِنْ طريق سِواها المَعْبرُ المؤكَّدُ المُفضي إلى الرِّضا الوجوديِّ بالمُتاح منْ قسمةِ الحياة؟ مَن؟
* والكتابُ العاشِرُ، “بألَمٍ وذكاء قلب”، أفانينُ قَولٍ وضُروبُ أَوصافٍ انْمازَ بها التَّعبيرُ في هذا الكتاب، وطَبَعَتْ أدبَ ناجي نَعمان بجِدَّةٍ مأنوسةٍ لَم يَتَوَرَّعِ الكاتبُ في كُلِّها عن مُداناةِ المُفرداتِ والتَّعابير العامِّيَّةِ يُنْزِلُها على غِرارِ كُلِّ مُسْتَحْدَثٍ بين شَوْلَتَين، فيَزْدانَ أسلوبُه بما يُسَمِّيه الفرنسيُّ أناتول فْرانْس “الوضوح الأبيض”، ويُفصِحَ في النِّهاية عن النِّظام والحركةِ اللَذَين انْطَبَعَتْ بهما أفكارُه…
وإنَّ ما قالَهُ الكاتبُ ناجي نَعمان في كتابه شِرعةُ نظافةٍ كُتِبَتْ بالدَّمع المُبْتَسِم حينًا، وعلى الأكثرِ بسَوادِ المُقَلِ المَسْمولَةِ بالقَبائح. وهي مُجتَمَعاتُنا وحضارتُنا المُتَنَقِّلةُ عبرَ شُخوصنا على دواليبِ العَصر الذَّاهبِ انْحدارًا، حتَّى ما نَجِدُ بارِقَةَ أمَلٍ لإنقاذٍ بِسِوى العودةِ إلى الذَّاتِ الإنسانيَّةِ بغيةَ تَقويم أوَدِها، واسْتِرجاعِ بَكارةِ الخَلْق الشَّريفِ إليها.
ولَعَلَّ ذكاءَ القَلبِ، الَّذي يُبَشِّرُ به ناجي نَعمان، والشَّائعَ في ثَنايا كتاباتِه كُلِّها، يَلْتَقي وهذا الهدفَ البعيدَ المُستحيلَ المنشود، وما الاستحالةُ إلاَّ مِن أنَّ الحياةَ الإنسانيَّةَ، بنَسَق تأَرْجُحها بين خيرٍ وشرٍّ، مُعَلَّقَةُ الرَّغبةِ والاختِيار أبدًا بين جحيمٍ ونعيم، جَرَّاءَ وُقوفِ الإنسان في مَنزِلَةٍ بين مَنزِلَتَين: الغريزةِ والقَلب، الشَّيطانِ والمَلاك، النَّقصِ والكَمال، الخطيئةِ والتَّوبة.
لهذا السَّبب، كُلُّ إبراءٍ يَبْدَأُ مِن الإنسان الفَرد نفسِه، الخَلِيَّةِ الاجتِماعيَّةِ الأولى، كونَه أَهَمَّ مِن البشرِ جميعًا، فهو الَّذي صنعَهُ الله على مِثالِه وليس همْ في تَصَوُّرٍِ لأندريه جيد، أديبِ فرنسا، وبَعدُ، يُعْمَلُ على تَصييرِه خَلِيَّةً خُلقِيَّةً ناصِعَةً مُعافاةً تَنْتَقِلُ عَدواها منه إلى أقرانِه الأبعَدينَ قبلَ الأقربين. ويَقيني أنَّ ناجي نَعمان الكاتبَ، والشَّخصَ على مِثالِِه، في هذا الخَطِّ إنقاذًا للحضارة مِن بُؤسِها المُنْداحِ على سَعةِ المَظالمِ والشُّرور المُتفاقِمَةِ في هذا العصر.
إنْ دُنْيانا تَفْتَقِرُ إلى عقليَّةٍ أكثرَ من احتياجِها حالاتِ قَوْنَنَةٍ، إلى إصلاحٍ فِكريٍّ يَفْضُلُ إلى بعيدٍ كُلَّ إصلاحٍ ماديٍّ، كَيما تَسْتَرِدَّ شيئًا مِن فردوسِها الضَّائع وتَدْخُلَ زمنَ السَّعادة الحقيقيَّة. والكُتَّابُ، في الفوضى العارمة وتَأَكُّلِ الأنظمة والشَّرائع بشَتَّى التَّجاوزات، بمُستَطاعِهم اسْتحداثُ هذه العقليَّة وهذا الإصلاح، فهمُ الملوكُ والأمراءُ الحقيقيُّون، ويَمْتَلِكون القدرةَ على تحريكِ الرَّأي العامِّ، جاعلين منه السَّيِّدَ الوحيدَ وصاحبَ السَّطوة لتَغيير الأقدار.
وفي الانتِظار، وسطَ هذا الصِّراع الَّذي نَحياه، إنسانيَّةً وحضارةً، وفي رِبْقَة الشَّقاء البَشريِّ بمَعناهُ الوجوديِّ المُلْتَبِسِ، فلنُفَكِّرْ بالضَّوء لا بالأَمجاد، ولنُغَنِّهِ، فِعْلَ ناجي الكاتبِ والشَّخص، طريقةَ انْتِصار، وإذ نَفْعَلُ يَفْضُلُ غناؤُنا كلَّ غناءٍ لأنَّه السَّاطعُ برِضانا وصداهُ أبدًا هو النُّور.
إذًا، يا كاتبًا بالأَلَم، لِنُغَنِّ ونُبَشِّرْ بالأَمَلِ لا الخَشْيَة، فنَحْصُدَ الفرحَ، مُرْدِي الانفعالاتِ والضَّغائن، مُرَدِّدين معك ما يَقولُه مُحَيَّا كتابِك الباسمِ السَّاخر مِن غيرِ شَتيمة: ألحزنُ ليس أبدًا نبيلاً، وليسَ أبدًا جميلاً، وليس أبدًا لِيُفيد.
* أمَّا الكتابُ الحادي عشر والأخير، “الفكرُ مُهروِلاً”، فعَبَثٌ في حدِّه الأَدنى، كحصًى تُغمِّسُهُ في إبريزِ مِدادِك فيجِدُّ ويتذهَّب، وثُمالةُ عُمرٍ تُعَلُّها حتَّى ما “تُبقي في الكأسِ شَيَّا”، وما يَنْجو مِن “شَرِّ لسانِك” الطُّوباويِّ، في صَحْوةِ خُمارِهِ على الدُّنيا، ولو نأْمةٌ مِن حَسَفِ حذاءٍ في مكانٍ من أقاصي الأرض، أو تزاحمُ فِكَرٍ ومَرئِيَّاتٍ تتسابقُ إليكَ في أَدانيها… وإنَّ ما هَروَلْتَ به لَوزنةٌ أُخرى تُضيفُها إلى وزناتِك الكثيرة، بل سَجدةُ تَعَبُّدٍ لإيقونَةِ الحياة، تَسْتَشْفِعُها عند ربِّكَ ليَرأفَ – واذْكُرْني معك – فما يَسْهى عن أنَّا لَم نَمُرَّ في هذا الوجود حدثَينِ أَجوَفين تافهَين بلا معنى، بل حاولْنا جهدَنا، أنتَ وأنا، بالكتابةِ الَّتي هي صِنْوُ الخَلْق بَدْعِ الله، أنْ نَمحَضَهُ، هذا الوجودَ، أشرَفَ المعاني بلا مُقابل، وحتَّى بلا انتِظارِ عِرفان.
وأعجَبُ في الخِتام، وأظنُّكَ على الغِرار عَينِه، إذْ نسمَعُ في حضارةِ الرَّقم والوزنِ والمِشرَطِ والحاسوب الَّتي نَحيا، وبفَمِ عصرِنا الحديديِّ الكافِر هذا، مَنْ يسأل: وما حاجةُ الأرضِ بعدُ إلى أدبائِها وفنَّانيها وهي في طريقها إلى نَعيم؟!
***
ويخلصُ كَبا:
“حياةٌ أدبًا” عَوالِمُ افتِراضيَّة، ككُلِّ أدبٍ نبيلٍ يطمحُ إلى أنْ يُحاذيَ الحياةَ المُثلى، مُكثِّفًا خياراتِ إنسانِها، ومُقَوْنِنًا أحوالَه فيها بالقول الشَّريف غيرِ المُوارِب، فتكبُرُ مِساحةً، ليسَ من طريق الهَندسيَّاتِ وإنجازاتِ التَّجارب في المُختبرات وحَسْبُ، بل بوَساطةِ الخيال المُرتَعي نُسْغَ الحقائق من عالَم الحضور، ليُظِلَّ من بعدُ بقامتِه المُتساميةِ نَماءً أحقابَ الأزمنة الآتية، تمامًا كما في حال الرُّؤيويِّين، يَرتقبون بتوقُّعِ الحَدسِ أحداثَ الوجود قبل أُزوفِها.
ألا إنَّ الأديبَ الحقيقيَّ في جانبٍ من شخصيَّتِه، وناجي نَعمان على الغِرار، قارئُ مُستقبلاتٍ بالكلمات، على نور شمعةٍ تُوقدُها عُزلتُه، فيتكاثرُ كتابةً، وتَنداحُ بما يأتي رِئةُ الحضارة، وتتعاظمُ في الإِثرِ مِساحةً خريطةُ الوجود.
وفي عَودٍ على بدءٍ لِمَثْنى نظرةٍ إلى هذا العمل الكبير، لا يسعُنا إلاَّ التوقُّفُ عند نقطةٍ هامَّة في شخصيَّة ناجي نَعمان الكاتِب، موصوفًا في أوساط عارفيه بـ “مجنون الثَّقافة بالمَجَّان”، هو مَن نذرَ النَّفسَ فيتأخَّرُ في صالونِه الأدبيِّ ليَتقدَّمَه كلُّ مُزدانٍ بها ممَّنْ يستضيفُهم لتكريم. فالغَيريَّةُ، بنتُ الأنسنة والتَّخلِّي فرعٌ من فروع أَنْسالِها، شيءٌ من كهنوت الزُّهد الَّذي كرَّس له حياتَه في عالَمٍ باتَ فيه الفاسقُ هوَ المبشِّرَ بالعَفاف، والمُرائي الدَّجَّالُ حَرباءَةَ الوقوف عند الحدِّ الفاصل بينَ القَول الصَّادق ونقيضِه لِسَريعِ تَلَوُّنٍ عند الحاجة، وتفاقُمِ انفِصامٍ فاجِعٍ يرتَعُ فيه كلُّ مِرفَق ٍ من مَرافق الحياة، والفنُّ بشكلٍ خاصّ، بين الفكرةِ المُلتزمَةِ شرفَ المبادئ والقِيَم، وترجمتِها العمليَّةِ في دنيا النَّاس.
ناجي نَعمان الـ “حياةُ أدبًا” هو مَن أعرِفُ في أسرتِه وبيئتِه ومُجتمعه، أليفَ كلِّ مقامٍ نبيلٍ مُتمَنَّى، وعشيرَ المَطالعِ العُلا، فِكرًا ونظافةَ ريشةٍ وفضائل، وفي اللحظات الحاسمة من العمر طرازًا منَ النَّدرةِ بينَ الأدباء، فاعلاً ما يقولُ قبلَ التَّلفُّظِ به، مُقلِّصًا إلى بعيد المسافة الفاصلة بينَ النِّيَّة في القلب وتظهيرِها بأبهى حُلَّةٍ من البيان في المدى الإنسانيِّ العَميم.
إنَّه بهذا المعنى أَدبُه، وهذا.. بطُروحاتِه وأبعادِه ليس إلاَّ الفردوسَ الَّذي أفقدَتْهُ إيَّاه التِواءاتُ الحضارة ومَضلاَّتُ الإنسان.
كل كتاب جديد هو اضافة جميلة