– الصحافة أخلاق قبل أن تكون تحريرا للقول المكتوب في صيغة خبر أو تعليق. ومن يمارس الصحافة وجب عليه أن يكون صاحب ضمير، يحترم الناس، وبسعى إلى الحق والخير، ويستهدف تغيير المجتمع نحو الأفضل.
وللصحافة أخلاقيات مهنية تزيد من صلابة الكتابة الإعلامية الموجهة للرأي العام أو المحلي، ومن ثمة؛ كان الانحراف عن هذه الأخلاقيات عند الكتابة والنشر أو خيانتها، إيذانا باندلاع أزمة على أكثر من صعيد: أزمة مجتمع..وأزمة أخلاق.. وأزمة ضمير.. وأزمة تربية.. وأزمة تغيير.
وعندما نتحدث عن مهنة الصحافة، فإننا نتحدث عن مهنة تقوم على الخبر أساسا. ولا يمكن لنا أن نسمي هذه المهنة بـ«الصحافة» إذا كان دورها محددا في كتابة «أي شيء» لا يفيد الإخبار والإعلام.. أو محددا في الإعلان عن تنظيم مسابقاتغنائية، أو رياضية، أو في تصفية الحسابات الشخصية أو الحزبية أو السياسوية، أو في تبييض وجوه زعماء الفساد من مختلف الأنواع، وخاصة من السياسيين والمافيا وتجار الكيف والحشيش.
إن دور الصحافة محدَّدٌ في نشر الخبر أولا وأخيرا. أما ما يصاحب هذا الخبر من تعليق أو تفسير أو صورة أو تحليل، فإنه مقبولٌ ولا يُعتبر أساسيا إذا لم يَزِد من أهمية الخبر وقيمته وقوته.. إنها «اكسيسوارات» قد تنفع وقد لا تضر.
صحيح أن الصحافة تطورت بأشكالها وأجناسها وطرق عملها، وأصبحنا أمام صحافة أدبية ورياضية وفنية وعقارية وصحية ودبلوماسية وإشهارية وغيرها. لكن يبقى الخبر هو مُحرِّكها و«الحجة» التي تقوم بها وعليها شرعيتها. لذلك فإن الصحفي مطالب بالبحث عن الخبر والعمل على نشره منظوراً إلى قيمته وأهميته. وحتى إذا كان عاريا من الأهمية، فإن نشره بمختلف الوسائل الإعلامية لا يَخلُّ بدور الصحافة، ولا يخالف وظيفتها المهنية مادام شرطُ الإخبارِ متوفراً وقائماً. وعليه، فليس صحيحا أن يكون الخبرُ مطبوعا بالإثارة والغرابة والخروج عن المألوف، وإنما يكفي أن يكون خبراً عن واقعةٍ صحيحة، أو حدثٍ يقينيٍّ جديد. غير أن هذا لا يمنع من أن تعتمد بعض الصحافة على الخبر المثير، والغريب، والذي يبعث في نفس المتلقي علامات وأعراض الاهتمام أو الافتتان أو الدهشة أو الصدمة. وقديما كان للتعريف الذي أعطاه اللورد نورثكليف «إن الخبر هو الإثارة والخروج عن المألوف، فعندما يَعضُّ كلبٌ رجلا فليس هذا بخبر، ولكن عندما يعضُّ الرجل كلبا فهذا هو الخبرُ» سطوة كبرى وهيمنة شاملة على صحافة الغرب في أوربا وأمريكا، وظل شرطاً لنجاح الصحافة وانتصارها في حلبة المنافسة الإعلامية وطنيا ودوليا. ونعتقد أن هذا التعريف لم يلعب دوره في تخليق الممارسة الصحفية، بقدر ما أدى إلى تسابق محموم بين المؤسسات الإعلامية الضخمة في الغرب للوصول إلى عدد أكبر من الأخبار المثيرة والغريبة، أو في صناعتها واختلاقها من فراغ أو عدم، ضدا على الحقيقة، وفي تجاهل تام لأخلاقيات المهنة، ولأذواق المتلقين ورغباتهم وتطلعاتهم المجتمعية. أي أن هذا التعريف كان سببا في تحويل الأداء الإعلامي لمختلف وسائل الإعلام والاتصال إلى «مجزرة» كارثية لقيم الصدق والشفافية والموضوعية.
إن الخبر في العمل الصحفي ينبغي أن يقوم على الصدق أولا وأخيرا، ولا يَضرُّ بعد ذلك أن يتمَّ تحريره بلغة مشبعة بعناصر الإثارة والتشويق والتحفيز ورفع ضغط الدم إن كان ولا بدَّ. فالصدق هو الذي يرشح الخبر لنشره وتسويقه على الملإ، وليست الإثارة أو الغرابة أو الطرافة هي التي ستمنحه الأهمية وصلاحية النشر. وقد جاء في القرآن الكريم في الآية 6 من سورة الحجرات [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ].. وفي قراءة أخرى استبدلت كلمة «فَتَبَيَّنُوا» بكلمة «فَتَثَبَّتُوا»، مما يضعنا أمام شرطين أساسيين لقبول النبأ / الخبر وإلباسِه مظاهر القوة والأهمية والمصداقية؛ هما: التثبت بمعانيه العديدة كالتبَيُّن والتحري واستقصاء الأمر أولاً، وعدم العجلة في قبوله أو نشره وإذاعته بين الناس ثانياً. وإلا فإن الخبر الكاذب، أو الخاطئ، أو الذي تمت صياغته بعباراتٍوجملٍ ملتبسَة لا تحملُ سامعَها على معرفة الحقيقة أو الصحيح من الخبر، سيؤدي إلى أضرار جسيمة في المجتمع والدولة، وقد يكون سببا في الحرب، أو العنف، أو الخلاف والفرقة، أو ضياع حقوق الناس من أيتام وأرامل وضعفاء، أو يُمكِّنُ العدوَ من احتلال الأرض أو من الحصول على الموارد الطبيعية الثمينة والاستراتيجية.
والخبر يقبل الصدق والكذب، وقد ينقل من صاحبه مباشرة، أو ينقل عن غيره، ومهما كانت طبيعته، وأهميته، وقيمته، فإن معيار قبوله والعمل به هو: الصدق والتزام الحق فيه، ثم بعد ذلك تقاس أهميته بمدى فائدته على الفرد والجماعة. ولا خير في أخبار، وإِنْ كانت صحيحة، لا تراعي حق المجتمع والدولة في الاستقرار والأمن وانتشار الفضيلة والخير.