عرف تصور وإعداد وإنتاج البرامج التلفزيونية تطورا كبيرا بالموازاة مع التطورات الصناعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خاصة في البلدان المتقدمة ذات التقاليد الإعلامية العريقة. وكانت الديمقراطية السياسية أساسا صلبا مكن الإعلام السمعي البصري من تجديد جسده بانتظام واختلاق أشكال ونماذج برامجية تستجيب لانتظارات جهور المشاهدين، وتواكب التغيرات الحاصلة على مختلف المستويات. كما ساهم في هذا التحول دخول أموال طائلة وانقضاض كبار المستثمرين على قطاع الإعلام لما فيه من أرباح يتم جنيها بفضل الإشهار والرعاية المقاولاتية لبعض البرامج والفقرات، إن لم يكن لأغلبيتها المطلقة.
ويجمع علماء اجتماع الإعلام الجماهيري والمتخصصون في البرمجة التلفزيونية على حصر الوظائف الأساسية لهذا الجهاز في الإخبار والتثقيف والترفيه. وعادة ما يتم وضع البرامج والفقرات في إحدى هذه الخانات / الوظائف خصوصا عندما يتعلق الأمر بقناة عامة مفتوحة أمام الجمهور العريض وتقوم بتقديم خدمة عمومية.لكن، سأحاول في ما يأتي الدفع بفكرة تكسير الحواجز التي كانت قائمة بين هذه الوظائف «المقدسة»: الإخبار، التثقيف أو التعليم، التسلية أو الترفيه (بحسب الترجمات من المصادر الغربية الإنجليزية بالدرجة الأولى).
فعلى الرغم من محافظة التلفزيونات الغربية على تصنيف برامجها حسب هذه الثلاثية الشهيرة، فإن النموذج النظري والعملي الذي صار يتحكم في إنتاج البرامج لم يعد يومن بالحدود الفاصلة بين تلك الوظائف، وإنما صار كل برنامج يضطلع في داخله بها جميعا إخبارا وتثقيفا وتسلية.
معالم سقوط الحدود
ومرد سقوط الحدود الفاصلة إلى اعتبارات عديدة، لعل من أبرزها:
1 ـ حصول تطور ملحوظ في اللغة التلفزيونية وفي علاقتها بجمهورها. ذلك أن الشروط التاريخية التي سن فيها التقسيم المذكور كانت محكومة باللغة الإذاعية وبالصحافة المكتوبة. لكن، شيئا فشيئا تبين أن بالإمكان ضرب العصافير الثلاثة ببرنامج واحد، من دون الحاجة إلى وضع حدود وهمية لا يعترف بها التلفزيون. كما يشير ذلك الى تغيير المفاهيم التقليدية المسندة والمؤطرة للصحافة التلفزيونية. وهذا ما يتطلب وقفات أخرى لاستجلاء المبادئ الجديدة لتلفزيون قرننا الحالي.
2 ـ عرفت المجتمعات الغربية تغييرا كبيرا وازاه ارتفاع نسب مشاهدة التلفزيون حتى صار في بعض الأحيان المصدر الأساسي للأخبار والتثقيف والتسلية. وهذا ما دفع القيمين على البرمجة التلفزيونية، والصحافيين و/أو المنتجين إلى اختلاق برامج مغايرة وتجريب أفكار أخرى قصد تلبية حاجات المشاهد إلى الإخبار والتثقيف والتسلية في آن. وهذا ما ساهم في ضمان وفاء فئات واسعة من الجمهور لتلك البرامج، لأنها تجد ضالتها فيها بشكل أو بآخر، ومن دون أن تنتظر بث برنامج ثقافي مثلا في منتصف الليل أو بعده.
3 ـ دفع الاهتمام الواسع بالبرامج الحوارية ونجاحها في استقطاب اهتمام المشاهدين إلى جعلها وسيلة أو دعامة لتصريف الأخبار والتثقيف والتسلية عبر تنويع الفقرات والإكثار من الضيوف والمحاورين والمزاوجة بين الطرائف والحياة الشخصية من جهة وطرح الأفكار والمواقف «الجادة» والمجادلة حول مشاكل وقضايا الشأن العام.
وعليه، أصبحت البرامج التلفزيونية لا تتردد في استضافة الفيلسوف والمغني والوزير والبرلماني والفكاهي والروائي، الخ جنبا إلى جنب، خلافا لما كان سائدا حتى بداية التسعينيات. كما لم تعد وظيفة الإخبار حكرا على نشرات الأخبار أو المجلات الإخبارية، ولم يعد التثقيف محصورا في البرامج الثقافية العادية التي تبث في أوقات متأخرة من الليل، ولم تعد التسلية/ الترفيه محتكرة من قبل برامج المسابقات أو البرامج الفنية – الغنائية الصرفة أو حتى المسلسلات والأفلام.
ففي البرنامج الواحد يحضر الإخبار الذي يتخذ شكل سرد سريع لبعض الأخبار من طرف المقدم أو روبورتاج قصير أو حوار مع أحد الضيوف، كما يحضر التثقيف من خلال فتح الحوار مع مؤلف كتاب ووجود صحافيين أو مؤلفين آخرين لمجادلته وإبراز نقط الضعف أو القوة فيه، وفي جو لا يخلو من المرح والضحك والاستفزاز المقصود الذي غالبا ما يشد انتباه المشاهدين، وبالتالي إلباس الأخبار والتثقيف لبوس التسلية لتسهيل مرورها وتسيير ملاءمتها مع خصوصية اللغة التلفزيونية. وبالإمكان بث مقاطع من أغنيات أو مشاهد من أشرطة سينمائية أو مواد من برنامج تلفزيوني سابق.
هيمنة الفرجة والترفيه
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا التغيير الذي حطم الجدار الفاصل بين الوظائف الثلاث مس بالأساس البرامج الترفيهية التي تبث في عطلة نهاية الأسبوع (مثال القنوات الفرنسية العمومية أو الخاصة)، وهذا ما يعد ثورة حقيقية في مفهوم البرنامج الترفيهي، وفي الخطاب التلفزيوني المعاصر الذي أصبح يعتبر الإثارة هي الأسلوب الذي يجب أن تؤدي به وظيفتي الإخبار والتثقيف. و لم تسلم من ذلك حتى النشرات الإخبارية (كلما كانت هناك أخبار مثيرة و/أو محركة للعواطف والأهواء الجماعية، كلما ضمنت القناة الرفع من نسب مشاهدتها: أحداث 11 شتنبر، تغطية جنازة ديانا، الحرب على العراق، تفضيل البث المباشر والمستمر للأحداث لحظة وقوعها كما هو شان القنوات الإخبارية بالدرجة الأولى…)، والبرامج الثقافية الجادة (حيث بدأت تهتم أكثر بالفضائح والمجادلات والخلافات والمواقف الفكرية المثيرة وتقديم الكتب التي من شأنها إبهار الجمهور أو دفعه لاتخاذ موقف -مع أو ضد- من مضامينها).
من ثمة، فإن هذا التحول بقدر ما يسهم في أداء الوظائف الثلاث بأشكال جديدة وقوالب تلفزيونية مرنة مفتوحة، بقدر ما يكشف عن انخراط الوسيط التلفزيوني في تحويل الإعلام إلى سلعة/ فرجة خاضعة لمنطق السوق الاشهارية ولأهواء ومصالح أصحاب راس المال. من هنا تبرز أهمية الكشف عن الأصول الإيديولوجية «غير التلفزيونية» التي تحكم التغيير الذي بسطت بعض معالمه وتمظهراته. وهذا ما سيكون موضوع مقال لاحق.
شكرا للباحث أحمد القصوار، على هذا التوسع في العلاقات بين أصناف المعارف المغايرة ومناهجها، إلى حد إسقاط الحدود بينها على مستوى الوصلات التليفزيونية التي تبني ذاك التواصل…والحقيقة أن هذا الجمع له ما له وعليه ما عليه..بحيث أن الإبداع على هذا الحال، هو من وحي الوصلات الإشهارية باعتبار ذلك هو ترويض سابق من و إلى التليفزيون، وفق المتعود عليه من طرف جمهور الفرجة التي لا تكلف الكثير المعقد، بين التلفزة والمتفرج…من هنا فالمنتوج يتخذ صبغة الممتنع/السهل الذي يتحول تبسيطا من العميق إلى السطحية، لأن جمهور المشاهدين يركن إلى المعرفة المسلية، بدل السهل/ الممتنع الذي يبنى على العمق، ويتطلب المعرفة المتخصصة التي لا يستطيعها الإنتاج التلفزي، الباحث عن جمهوره دوما…كل التحية