لم يتخيل يوما أنه سينزح مضطرا إلى المدينة المجاورة، وأنه سيترك خلفه ضيعته المعطاء التي ورثها عن أجداده. لقد صامت السماء ثلاث سنوات، شحت الآبار، جفت الأنهار، ونفقت الماشية … لم تعد العائلة تحتمل الوضع خصوصا بعد نزوح عدد من الجيران.
بإيعاز وإلحاح من الابن الأكبر قررت العائلة بيع ما تبقى لهم، والنزوح إلى المدينة بحثا عن لقمة العيش. بعد جهد جهيد وبحث عسير اكترى بيتا صفيحيا تآكلت جدرانه القزديرية وتقشر طلاؤه، بالكاد يلم النفوس الخمسة. ظل حبيس البيت لم يبرحه لأسبوع كامل، يُمضي يومه كباقي الأيام … ظل حبيس الذكريات، لم تغب الضيعة عن باله، كل شبر منها يذكره بحكاية أو موقف … لم يطاوعه قلبه المقفر الخروج ومواجهة ما تخفيه المدينة بكل تناقضاتها.
وبعد أن بلغ به الملل والعزلة حدودا جعلته يحسن بالاختناق والضجر، قرر أخيرا، أن يخرج بلباسه التقليدي الصوفي المعتاد إلى الأحياء المجاورة. غادر البيت غارقا في الكرب … غادر البيت ليسير بلا هدف. أحسن وكأنه يزور المدينة لأول مرة، ضاع بين الشوارع العريضة، تشده مخالب الإسفلت والضجر على قلبه يمزق ما تبقى في روحه … كلما ابتعد زاد ضجره وتثاقلت خطاه. لم يشعر يوما بالوحدة والاغتراب، حتى وإنْ غاب عنه الأهل والرفاق. جاب المدينة وتاه بين مرافقها وأزقتها، وبعد أن هدّه التعب جلس على الرصيف مهموما شاحب الوجه، شارد الذهن، وقد عادت به الذكريات من جديد إلى لحظات الفرح التي كانت تغمره خلال مواسم الحصاد، أو عند ولادة عجل أو شاة.
تذكر سحر المغيب الذي لا تحجبه الأسوار العالية، والعمارات الشاهقة. حنّ إلى حفيف الأشجار، صياح الديكة، رائحة التربة، خمائل شجرة التين المثقلة بثمارها السوداء، حيث كان يجلس متكئا على جذعها … تذكر سكان البلدة وهم يتقاسمون الأفراح والأتراح، يأتلفون كالأسرة الواحدة ترى في وجوههم الطيبوبة والبسمة على شفاههم والطيبة في الأفئة التي تحمل معها الدفء والحنان.
استأنف سيره على الجانب الآخر، كادت عربة تدهسه، وهو يخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، أعاده صوت المنبهات إلى واقعه المريره، ليلمح أمواجا من البشر يمضون سراعا، يأكلون واقفين، هواتفهم لا تفارق آذانهم أو تداعبها أناملهم في حركة أشبه ما يكون بالتسبيح. شده هذا المشهد الذي تحوّل فيه الإنسان إلى ما يشبه الآلة،
إنسان عقيم يحيا في مدينة، تخلع عن نفسها لون البياض لتلبس العبث والضياع،
مدينة تغير جلدها وتطرحه كل يوم بلا وداع،
مدينة تميت المشاعر، وتدفن كل إحساس بالمودة والرحمة.
مدينة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تسحق الأرواح …
وفي هذه اللحظة بالذات، تهلل وجهه، وانبسطت أساريره، وهو يسترجع ما قاله ذات يوم أعز أصدقائه عن المدينة: «في زحمة المدينة المنهمرة يغدو الإنسان كالآلة في أدائها ودقتها وسرعتها، إنسانا مجردا من العواطف والأحاسيس، يعيش في عتمة رغم الأضواء التي تحوّل سواد الليل وسكونه إلى نهار صاخب كاشف للعورات وفاضح للنفاق الآدمي المقيت…».
عبد الرحمان إكيدر