تمهيدٌ لابد منه:
تروم هذه المقالةُ المساهمةَ في الإجابة عن السؤال-الإشكالية: هل تعتبر القصةُ القصيرةُ جدّا جنسًا أدبيا أم لا؟، لذلك سيسعى صاحبُها، وهو يقرأ النص-موضوع الدراسة، إلى تبيُّن التقنياتِ التي أراد الكاتبُ رضوان السائحي تحديدَها في مجموعة عبد الله المتقي «الكرسي الأزرق» إنْ وُجِدَتْ، مقارنًا إيَّاها بدراساتٍ أخرى في ذات الموضوع (موضوع التجنيس). لأنَّ الهدفَ الذي يرمي إليه عنوانُ مقالتِنا، نعم، هو مساءلةُ المقال-موضوع الدراسة فيما ربط به صاحبُهُ نفسَه، وفي الوقت ذاته المشاركةُ في النقاش الدائر عن مسألةِ أدبيةِ القصة القصيرة جدًّا.
يتعالقُ مع الهدف المحدَّدِ سؤالُ المرجعيةِ، وهو ما دعانا إلى البحث عن مساهمةٍ أخرى لنفس الموضوع، ومن ثَـمَّ النظر في جِدَّةِ ما يطرحه رضوانُ السائحي، خاصّةً أنه لم يُورِد مرجعًا نقديًا واحدًا ضمن دراسته؛ ومعلومٌ أن هناك محاولاتٍ على قلَّتِها حاولت استخلاصَ ما يمكن أن يُشكِّلَ أرضيةً لنقاشٍ جادٍّ بخصوصِ أدبيةِ القصةِ القصيرة جدًّا. نستحضر من ذلك دراستيْن، وبهما سنقارن ما أقدم عليه كاتبُ المقال، هما:
– «شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا (قصص عبد الله المتقي ومصطفى الغتيري أنموذجًا)»3 لعبد الدّائم السلامي.
– «الماكروتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب»4 لعبد العاطي الزياني.
الأول كُتِبَ عن نفس المجموعة (الكرسي الأزرق)، بحثًا عن شعرية الواقع فيها، مقارنةً مع مجموعة (مظلة في قبر)5 لمصطفى الغتيري. أما الثاني فيشترك مع المقال-موضوع الدراسة ومع الكتاب الأول في أنه قَارَبَ القصةَ القصيرةَ جدًّا من جانب شرطَيْها التاريخي والجمالي (الماكروتخييل)؛ أيْ ما خوَّلَ لها إمكانيةَ التشكُّلِ في جنسٍ أدبيٍّ، دارسًا ذلك في نصِّ «زخة ويبتدئ الشتاء»6 لجمال بوطيب.
وَجَبَ أن يُفهَمَ من عَمَلِنا بهذه الإشاراتِ أنّه يقع في مجال المقارنة، ضمن موضوعٍ واحدٍ هو (تجنيس القصة القصيرة جدّا)، دعا إلى ذلك المقالُ-موضوعُ الدراسةِ، والانحرافاتُ المترتِّبَةُ عن سعيِ صاحبِهِ في بلورةِ تصوُّرٍ علميٍّ دقيقٍ، لأنه لم يستفد مِـمّا كُتِبَ في الموضوع، خاصةً أنَّ الكِتَابَيْن (وهما مجردُ مثَالَيْن) صدرا قبل المقال بفارق سنتَيْن (الكتاب الثاني)، وأربع سنوات (الكتاب الأول).
يتفرّعُ إذن عن السؤال المركزي سؤالان آخران، سنحاولُ الإجابةَ عنهما في المحورَيْن الآتِيَيْن:
- ما هي الانحرافات التي وقع فيها صاحبُ المقال موضوع الدراسة، وهو يبحث عن تقنيات الكتابة7 في القصة القصيرة جدًّا؟.
- كيف عالج الكتابان المحدَّدَان آنفًا سؤالَ تجنيسِ القصة القصيرة جدّا؟، وكيف بلورا تقنياتِ الكتابةِ فيها؟.
يتضح أنه عِوَضَ أن نعرضَ لتقنياتِ الكتابةِ في القصة ق ج بدايةً، ونُظهِرُ مدى التزام كاتبِ المقالِ بها من عدم ذلك، قَلَبْنَا الطريقةَ: نكشِفُ عن الانحرافاتِ أولا، لنأتي بعد ذلك على ذكر الإسهاماتِ النقديةِ التي قُدِّمَتْ في «تجنيس القصة ق ج»، ونَـخْلُصُ باستنتاجاتٍ سَتُبِينُ لنا أفْقَ مشروعيةِ الحديثِ عن جنسٍ قصصيٍّ، يسمى: «القصة ق ج».
أولا: تقنياتُ كتابةِ القصةِ القصيرةِ جدًّا في مقالِ رضوانِ السائحي.
نُسَجِّلُ بدايةً أنَّ المقالَ-موضوع الدراسة أعوزتْ صاحبَهُ الدقَّةُ المنهجيةُ، وانفلتتْ منه الذخيرةُ المعرفيةُ، وبغيابهما معًا غابتِ التقنياتُ المزمع تحديدُها، أو حضرتْ غيرَ دقيقةٍ ولا مرتبةٍ، مما أساء لشكل الحضور.
1-1: غيابُ الدِّقَّةِ المنهجيةِ وضَعْفُ الذخيرةِ المعرفيةِ.
يبدو منذ الإطلالة الأولى في المقال غيابُ العناوين الداخلية، علما أننا إزاء بحثٍ عن التقنيات، بصيغة الجمع؛ إذْ من المفروض أن تُفَرَّعَ إلى تقنيةٍ تلو أخرى، حتى يَكسِبَ المقالُ ترابطَهُ ووضوحَهُ. أكثر من ذلك لا يَفْهَمُ قارئُ المقال بزوغَ عنوانَيْ: (الشخصيات والعنوان) في الصفحة الثانية، دون تهيئ مسبَقٍ للحضور، بل دون ترقيمٍ يخضعان له، يُفَسِّرُ موقعَهما وتأخيرَهما.
يجعل كاتبُ المقال «القِصَرَ» أهـمَّ تقنيةٍ تتميَّزُ بها القصة ق ج. يترتَّبُ عن ذلك طرح سؤال الكم (هل الكم تقنية؟)، علمًا أنه مظهرٌ خارجي، والتقنيةُ صيغةٌ داخليةٌ، مُضمَرةٌ في الغالب، لا تعلن عن نفسها في الأغلب؛ كَأَنْ نقولَ: إن تيمة الحكي سمةٌ مميِّزةٌ للنص القصصي والروائي من دونهما من النصوص. وما ليس فيه حكي لا علاقة له بهما. الحكيُ إذن تقنيةٌ، وعلَّها التي كثُرَ الحديثُ عنها في جنس القصة ق ج أيضًا؛ إذْ وجَبَ توافرُها لنكون مع نصٍّ قصصي.
يضيفُ إلى سمة القِصَرِ (نفضِّلُ تسميتَها بالسمة بدلَ التقنية) تقنيةَ الخيالِ المكثَّفِ، ويراهُ إلى جانب الأسلوب القويّ خصِّيصَتَيْن تعتمد عليهما القصة ق ج، والحالُ أن الخيال كما الأسلوب لَـمِن مُـمَيِّزاتِ كُلِّ كتابةٍ إبداعيةٍ.
إنّ هذه البداية (بداية مقال الكاتب) كافية لتُعطي نظرةً عن غياب الدِّقَّةِ المنهجيةِ؛ إذْ كيف له أن يجعلَ من القِصَرِ تقنيةً، والحالُ أنَّهُ مظهَرٌ كمِّي، ومن الخيالِ والأسلوبِ سِـمَتَيْن مُـمَيِّزَتَيْن مُعْتَمَدَتَيْن في القصة ق ج، والحالُ أنهما من فصيلةِ التقنياتِ العامةِ، التي لا معنى لنصٍّ إبداعي إلا بها، مع استحضار أن القوة في الأسلوب تعني الكثير من الدّلالات: القوة-البساطة/ القوة-اللغة/ القوة-الوضوح/ القوة-الإبلاغ/ …
يُقدِّمُ الكاتبُ ما اعتبره سابقًا تقنياتٍ خاصةً بالقصةِ ق ج (القِصَر، الخيال المكثّف، الأسلوب القوي) على أساسٍ أنّها ثابتةٌ فيها، ولا تحتاج إلى بيانٍ أو تأكيدٍ أو مناقشةٍ؛ وهو ما قام به حيث لم يتوقف عندها، لينحُوَ طريقًا أخرى في (الكرسي الأزرق)، تُـمكِّنُهُ من العثور على غيرها، تُشَكِّلُ إضافةً لِمَا سبق، وأهمّ ما ركّز عليه في ذلك ما نَعَتَهُ بـ«النَّفَس الشعري». مرة أخرى يُطرَحُ السؤالُ السابقُ عينُهُ: هل النَّفَسُ الشعريُ تقنيةً؟، وإذا سلَّمنا (تجاوُزًا) أنه كذلك، هل يُـميِّزُ كتابةَ القصة ق ج، أم أنه أسلوبُ كتابةٍ في النصوص الجديدة؛ روائيةً كانت أم قصصيةً؛ قصيرةً أم قصيرةً جدًّا؟. والأغرَبُ أنّ مُسْتَنَدَ الكاتبِ في تأكيد حضور النّفَس الشعري هو النصُّ من جهة (وهذا وضعٌ طبيعي)، وكاتبُهُ من جهة أخرى (وهذا وضعٌ غير مفهوم؛ خاصةً أن الدراسةَ ليست نفسيةً بالدرجة الأولى). يقول، بعد أن حَسَمَ في أمر شعريةِ نصوص عبد الله المتقي: «ولا نستغرب هذا لأن الكاتب هو في نفس الوقت شاعرٌ؛ بمعنى أنه أكثر وعيًا بالمناطق المشتَرَكَةِ ما بين الشعر والسرد، وأكثر تحكُّمًا في الحبكة والبناء السردي»8، وهل يكفي أن يكتُبَ الكاتبُ قصائدَ ونصوصًا قصيرةً لنَحْكُمَ له بالفتح المبين، والقدرة على خلق لغةٍ برزخيةٍ يتقاطع فيها فنَّانان مختلفان: الشعر والنثر. صحيحٌ أن العصرَ الحديثَ عصرُ التداخلات الأجناسية؛ أيْ الحضور المشترك، لكن ليس بمعنى الذوبان أو ما أسماه الكاتب الطلاء الشعري. ثم إنه من غير المفهوم أن يقعَ الكاتبُ في هذا الخلط والربط في آنٍ بين (النَّفَسِ الشعري والخيال)، فالكاتبُ منذ بدايةِ تحليلِه للمجموعةِ وإقرارِهِ بما يعتبره تقنيةً شعريةً، وهو ينظرُ إلى ذلك في علاقةٍ بالخيال. يقول مثلا: «الاستعمال المكثّف لمفرداتٍ ذات معاني غنية بالإشارات والإيحاء، وكذا جموحها نحو الخيال»9.
سؤال يُعادُ طرحُهُ: إذا كان الخيالُ هو المقصود بالنّفَس الشعري، هل هناك كتابة قصصية (قصيرة أو ق ج) بدون خيال؟؛ عدا ما يُنْعَتُ بالقصةِ الواقعيةِ، وهذا النوعُ من الكتابةِ تُجُوِّزَ مع قصة السبعينيات إلى الآن.
النتيجة الأولى: لا يعدو القِصَرُ تقنيةً، ولا الخيالُ كما الأسلوبُ مِـمَّا يمكن أن تتمَيَّزَ بهما القصةُ ق ج، فكلُّ كتابةٍ إبداعيةٍ هي كتابةٌ تحتفي بالخيالِ وبالأسلوبِ القويِّ.
إنَّ ما يمكن اعتبارُهُ تقنيةً ضمن ما قام به الكاتبُ دراسةً لمجموعةِ «الكرسي الأزرق» هو «السخريةُ والتقابلُ»، والغريبُ أنه مـرَّ عليهما ببساطةٍ كبيرةٍ، دون أن يحدِّدَهما على ذلك الأساس، عِلْمًا أنهما مُطَّردتان في أكثر من نصٍّ داخل المجموعة، بل ومِـمَّا تتميَّزُ به الكتابةُ القصصيةُ ق ج. صحيحٌ أنهما توجدان في الكتابات الإبداعية الروائية والقصصية القصيرة، إلا أنهما في القصة ق ج تعكسان حضورًا مختلفًا. السخريةُ عميقةٌ وغيرُ مباشرة، والتقابلُ غيرُ واضحٍ، قد يكون طرفُهُ الأول في النص، والآخر في خارج النص، أو هما معًا داخلَهُ. ثم تقابلٌ بين أكثر من نصٍّ داخل المجموعة الواحدة، أو بين مجموعة وأخرى. كلُّ ذلك يجعل منه تقنيةً لها أوجُهٌ خاصّةٌ في القصة ق ج، لا تحضُرُ بمثلها في أجناسٍ أدبيةٍ أخرى. يقول صاحبُ المقال مُتَحَدِّثًا عن القصة ق ج «فهي تسخر من الواقع في قالبٍ طريفٍ تجسِّدُ الحزن والفرح والفقر والبؤسَ»10.
يتضح إذن كيف يشير إلى تنك التقنيتَيْن (السخرية والتقابل) عابرًا، لحظةَ حديثِهِ عن أنَّ القصةَ ق ج تعكس أحداثَ الواقع. كما يَعتبِر حضورَ الشخصياتِ تقنيةً، والحال أنَّ طبيعةَ الحضورِ هي ما يمكن أن يُحسَبَ كذلك؛ خاصَّةً في حالةِ التفرُّدِ بنوعٍ محدَّدٍ منه، ولو أنه استثمر ما أشار إليه بحضور ضميرَيْ: «الغائب المذكر والغائب المؤنث» في تقنية التقابل لَكَانَ أفيَدَ، ولأعطى لهذه التقنية حضورًا قويًّا ضن تقنيات الكتابة في القصة ق ج، التي لم تحضر واحدةٌ منها في مقاله.
إنّ صاحبَ المقال يتحدَّثُ عن الشخصياتِ الـمُسْتَثْمَرَةِ في نصوص المجموعة المدروسة، وكأنه يُقدِّمُ في ذلك جديدًا تمتاز به كتابةُ القصة ق ج، علمًا أن ذلك يَرِدُ في طرائق كتابة كثيرة، في النصوص السردية الإبداعية، فجميعُ الأجناس الإبداعية إمّا أنها تَسْتَثْمِرُ أسماءَ شخوصٍ معروفة؛ تاريخية، ثقافية، سياسية، أو تقترح أسماءَ أخرى. يتضمّنُ هذا السياقُ انحرافًا آخرَ، وهو أن الكاتبَ يحصِرُ الشخصياتِ في الشخوص الآدمية، مع العلم أنها أنواعٌ؛ منها الآدمي وغير الآدمي، ولنا في نصوصِ المجموعةِ أمثلةٌ للنوع الثاني كثيرةٌ لم يلتفت إليها الكاتبُ.
النتيجةُ الثانيةُ: يحصُلُ لدى الكاتبِ خلطٌ كبيرٌ وهو يتحدَّثُ عن الشخصياتِ داخل النص القصصي، ويعتبر حضورَها تقنيةً، بدل طبيعة الحضور، كما أن طريقةَ مناقشتِهِ لهذا الجانب فيها الكثيرُ من التداخلِ والارتباك. نفسُ الشيء وقع فيه إثر حديثِه عن العنوان؛ معتبرًا إيَّاهُ الذي يكثِّفُ النص (عتبة للولوج)، أو الذي يستفزُّ ويـُحَيِّرُ، يُـمَوِّهُ دون أن يُعلِنَ، وذانك نوعان لا تتميز بهما القصة ق ج وحدَها. فجميعُ النصوص (حتى غير الإبداعية) للعناوين فيها وظائفُ متعدِّدَةٌ؛ منها الإخباريةُ الإعلاميةُ والـمُـمَوِّهةُ الـمُحيِّرَةُ.
1-2: خلاصــة:
يَتَّضِحُ من خلال ما سَلَفَ أنَّنَا إزاء نصٍّ يفتقد لأدنى خصائصِ الكتابةِ المقاليةِ المحكمةِ؛ إنْ صياغةً أو موضوعًا، فالقارئُ معه لن يَنْعَمَ بمتعةٍ في الأسلوبِ، ولا بفائدةٍ في الموضوعِ. أكثر من ذلك سيعمِّقُ لديه فجوةَ عدمِ الفهم بجنسٍ جديدٍ قيلَ عنه أنّه غيرُ أدبي.
يرد المقالُ ليُؤكِّدَ على شيءٍ يخالفُ ما رهنَ نفسَهُ به في البداية/ العنوان. المقالُ أراد به صاحبُهُ أن ينتصرَ لأدبية القصة ق ج؛ فإذا به يُبَرهِنُ (من حيث لا يدري) عن غير ذلك. فكلُّ ما حاول تبيُّنَهُ في مجموعة «الكرسي الأزرق» لا يعدو أن يكونَ مجردَ إعادةٍ لخصائص كتابةٍ في أجناس عديدة، بل وبطريقةٍ أسوأ في محاولة استثمار ذلك.
ثانيًا: تقنياتُ كتابة القصة القصيرة جدًّا كما وردت في الكتابَيْن المحدَّدَيْن:
كما أسلفنا القول، لم نبتدئ بالتقنيات لنبرهن عن مدى تَـمَثُّلِ صاحبِ المقال لها أم لا، وذلك راجع إلى أمرَيْن:
– لأنَّ الذي يَهُمُّنا بالأساس هو المقال-موضوع الدراسة، في إطار نقده (نقد النقد). والموضوع الذي ينطوي عليه هو مجرد مثال ليس إلا.
– لأن الاهتداءَ إلى الكتابَيْن المحدَّدَين لم يكن غايةً في ذاته، حتى نبتدئ بهما، إنما حضرا عندنا، ارتباطًا بالسؤال الذي وجَّهَنَا في المقالِ كلِّهِ، سؤال التجنيس، وهما معًا تلك بُغيتُهُما.
أوّلُ إشارةٍ نسجِّلُها قبل قراءة موجزةٍ للكتابَيْن، هو أنَّ صاحبَ المقال استفاد منهما، ومن غيرهما، وذلك واضحٌ بشكلٍ جَلِيٍّ، سَتُعَبِّرُ عنه الفِقرات التالية، والسؤالُ لماذا عدمُ الإفصاحِ عن ذلك في الهوامش، خاصةً أنهما صدرا قبلَهُ (كما يُبَيِّنُ الهامشان 3و4 في هذا المقال). أما إذا ادَّعى صاحبُنا (افترضًا) عدم ذلك وهو ما سنفنِّدُهُ، فالدعوةُ غيرُ مبرَّرَة ولا مقبولة، لأنّ البحثَ العلميَّ يقتضي البناءَ على ما سبق، وبعد ذلك تقديمُ الإضافةِ، إلا أن الكاتبَ ما أضاف جديدًا، ولا حافظ على الموجود أصلا!.
2-1: شعرية الواقع في القصة القصيرة جدّا (قصص عبد الله المتقي ومصطفى الغتيري نموذجًا).
أوَّلُ ملاحظةٍ أن هذا الكتاب حَصَرَ دَائِرَتَهُ في تقنيةٍ كبرى واحدةٍ (شعرية الواقع)، ستتفرَّعُ إلى غيرها، عكس المقال، الذي ربط صاحبُهُ نفسَهُ بفضاءٍ أوسعَ (التقنيات). ولعلَّ ذلك ما جعله غيرَ مُـحْكَمٍ، مقابل ما ورد في الكتاب.
إنّ شعرية الواقع كما وردت في الكتاب، هي التي هيمنت على مقال صاحبنا، لكن بمسمى مختلف (الطلاء الشعري). والفرق واضح، ستتكفّل بتوضيحه الفِقرات التالية:
يعتبر عبد الدايم السلامي شعرية الواقع تلك المرتبطة بمسألة تشخيص المعيش اليومي، الذي يُعبَّرُ عنه بأشكال مختلفة، حصرها في التالي:
- تقنية التشخيص من جهة المرويات؛ من خلال:
أ- تشخيص الأفعال؛ ويتضمن (البنية العامة، وحكاية البداية/ بداية الحكاية، اليومي مشخَّصًا)؛
ب- الشخصيات؛ ويتضمن هذا العنصر (طبيعة الشخصيات، تنكير الشخصيات وتعريف المعنى)؛
ج- طبيعة المكان؛ ويتضمن (المكان التشكيلي، المكان التخييلي، المكان التأويلي)؛
د- الزمان؛ ويتضمن (طبيعة الزمان: الزمن الموجود والزمن المفقود)؛
تعليقٌ أوَّلٌ: تتلاءم هذه التقنياتُ، عِلْمًا أنَّ شكل حضورها يختلف من نوع لآخر، في كونها تمتاز بشعريةٍ داخل جنس القصة ق ج. ذلك أنها محدِّدَاتٌ يُلْحَظُ أنها لا تخرج عن مكوناتِ الواقع نفسه، وما تنفرد به في النصوص هو عملية التحوُّل. فلا تظل بذلك ماديةً واقعيةً كما نعرفها، ولا تكون خياليةً محضةً لا علاقة لها بالواقع.
أكثر من ذلك فحضورُها داخل النص القصصي القصير جدًّا يزيل عنها سمةَ التمايُز، فالأمكنةُ والأزمنةُ والشخصياتُ لا تتفاضل، ولا وجودَ للعام والرئيس أو الخاص والثانوي فيها، كلُّها تتفاعَلُ لتُقَدِّمَ صورةً عن واقعٍ معيشٍ مريرٍ.
- في باب واقع المعنى (أو تقنيات الخطاب) يدرس الكاتب:
أ- الراوي؛ ويشتمل على: (طبيعة الراوي، من الرؤية إلى الرؤيا/ من القراءة إلى الكتابة، حيادية الراوي/ ذاتية المروي)؛
ب- تقنية الوصف/ بنية الوصف؛
تعليقٌ ثانٍ: بعد أن تَتَبَّعَ الكاتبُ تقنيةَ تشخيصِ الواقع عبر إوالياتٍ محدَّدَةٍ، أكسبتِ النصَّ شعريةً مغايرةً، وبُعْدًا حَوَّلَ المألوفَ إلى غير مألوف، ينتقل إلى تشريح كينونةِ الراوي في القصةِ ق ج. ويُعلنُ عن طبيعةِ حضوره، وكيفيةِ ذلك، تمثيلًا بنصوصِ المجموعَتَيْن معًا. أمّا الوصفُ فيعتَبِرُهُ ما يُميِّز بقوةٍ النصَّيْن، وإنه لم يعد مجردَ «تقنية توقف الزمن لتقدِّمَ معارفَ جديدةً تُعضِّدُ السردَ وإنّما صار بدوره نوعًا من السَّرد داخل السَّرد، إذْ تَوَفَّرَ على أشراطِ البنيةِ من حيثُ اقتصارُهُ على محورٍ وحيدٍ للوصفِ، ما مكَّنه [هكذا] من تدقيق تفاصيل الموصوفات وزاد من شعريةِ معناها ومن حيثُ توفُّرُهُ على فواتحَ وخواتمَ تعلن عنه وتدلُّ على انتهائه»11.
2-2: الماكروتخييل في القصة القصيرة جدًّا بالمغرب.
إذا كان الكتابُ الأوَّلُ ناقَشَ خصائصَ وتقنياتِ الكتابةِ في المجموعةِ التي درسها صاحبُ المقال-موضوع دراستنا، فالكتابُ الثاني الذي سنبسُط القولَ فيه الآن نظر إلى التقنيات وهي متجسِّدَةٌ في مجموعةٍ أخرى «زخة ويبتدئ الشتاء» للقاص جمال بوطيب.
سعى الكاتبُ في هذه القراءةِ إلى محاولةِ التأسيسِ لِمَا قد يكونُ خِصِّيصَاتٍ كتابيةً في القصة ق ج، لذلك نراهُ يفتَتِحُها بإبراز هويتِها التاريخيةِ والأجناسيةِ، معتبرًا أنها تختلف بمقدارٍ مُـمتَدٍّ أو ضيِّقٍ عن القصة القصيرة، بالقدر نفسه أو أقرب للاختلاف الذي تسجلُهُ القصةُ عن الروايةِ. فهي أقدرُ بـ»اللعب الفني والمخصّب بجرعات فائقة من السجالات الفنية المتكاثرة قاد إلى اكتشافِـ[هَا]»12؛ إنها «إمكان سردي آخر يقيم بين الشعر والنثر، بين الحكاية واللقطة والمشهد والومضة (…)، تحمل في محكيها نزوعًا مؤكِّدًا شخصيةً مخالفةً لكل أنماط السرد من خلال اعتماد منحى خاص في استثمار تنامي الحدث أو تشظي الفضاءات أو تجريدها ذهنيًا لصالح حالة لا فكرة، والأحداث بربطها بصورة لا بمسارات»13.
اعتمدنا التحديدَ أعلاهُ على طولِهِ، لأنه يُكَثِّفُ الخصائصَ الفنيةَ والتقنياتِ الجماليةَ التي تَنْهَضُ عليهما الكتابةُ القصصيةُ القصيرة جدًّا. ذلك ما حاول تبيُّنَهُ في المجموعةِ المدروسةِ.
ينظر الكاتب إلى تقنيات كتابة القصة ق ج في مستوى نصيَّتِهَا؛ لأن مآزق الكثافة وتعاقب المفارِقات، والإيماءات كما الإشارات، وتراكم الإيحاءات، وجدل النقائض، واستبطان أورام الواقع، وأنسنة الحيوانات أو السخرية من واقع الحال14، لا يمكن أن تتراءى إلا بالقراءة تلو القراءة لنص مُنْفَلِتٍ، قصيرٍ حجمًا، كبيرٍ عمقًا ودلالةً.
تظهر الكثافةُ بقوةٍ في صياغةِ العناوين، وفي نسجِ التراكيبِ النصيةِ، فهي في العناوين مُجمِلَةٌ للنصوص، وفي النصِّ جامعةٌ لِمَا تشتَّتَ في الواقع. أما تقصُّدُها للإيماءات والإشارات ففي كونها توحي بدلالات خفية، لا تُعطِيكَهَا بسهولةٍ، مما يجعل القارئ مترامي الأطراف، مدفوعًا إلى استجماع كلِّ قواه للوصول إلى أقاصي الدلالة.
تشكّلُ المفارِقاتُ والنقائضُ من التقنياتِ الرئيسةِ في كتابة القصة ق ج؛ لذلك علاقةٌ بتواصُلِهَا مع الواقع الذي ازدانت فيه، فالصراعاتُ والحروبُ وسرعةُ الزمن وضِيقُ الفضاءِ دفَعَهَا لتكون مشحونةً بحرارةٍ لا تعبِّرُ عنها إلا موضوعات متناقضة وعوالم مفارِقَة.
بخصوص الإيحاء واستبطان أورام الواقع فيتداخلان مع أنسنةِ الحيواناتِ؛ كل ذلك لأجل السخرية من عالمٍ موبوءٍ، تعمّقتْ أمراضُهُ، واستحالَ شفاؤُها. لا نُؤَنْسِنُ الحيوانَ إلا بعد أن فقدَ الإنسانُ إنسانيتَهُ، بحثًا عن خلاصٍ، وبه أيضًا يمكننا أن نُعَوِّضَ الكائنَ الذي كُنَّاهُ، أو يجب أن نَكُونَهُ، أو نتمنى كونَهُ.
تعليقٌ ثالثٌ: نفهم من المحاولةِ الثانيةِ أن القصَّةَ ق ج في المُجْمَلِ، هي التي تُستَثْمَرُ فيها تقنياتٌ بينها من التداخلِ والتكاملِ ما به تتمايَزُ على حضورها متفردةً في نصوصٍ ضمن جنسٍ أدبيٍّ آخر. فالذي لا شك فيه أن الكاتبَ ركَّزَ على أشكالِ الحضورِ وطرائقِ استثمارِ تلك التقنياتِ، لا التقنيات في ذاتها، بألوانها المعروفة.
استنتاجات:
نستنتج ترتيبًا على النتيجتين: الأولى والثانية، والتعاليق الثلاثة ما يلي:
خلاف ما أقدم عليه صاحبُ المقال، فالكاتبان اللذان استدعينا كتابَيْهما، توفَّقَا إلى حدٍّ كبيرٍ في تقديم تقنياتٍ في كتابة القصة ق ج؛ مُطَبِّقَيْن ذلك على نصوصٍ شاهدةٍ، تختلف في حضورها عن الطريقة التي أورد بها صاحبُنا أمثلتَه وشواهدَهُ؛ عِلْمًا أنَّ النصَّ نفسَهُ اشتغل عليه صاحبُ الكتاب الأول.
يُلاحَظُ أنَّنَا أمَامَ تقنياتٍ واضحةِ التحديدِ، غيرِ ملتبِسَةٍ مع دلالاتِـهَا المعروفةِ في أجناسٍ كتابيةٍ أخرى. خلافَ ما قام به صاحبُنا؛ لأنه انطلق من الكتابيْن معًا، دون إشارة إلى ذلك. يظهر ذلك في:
– أنَّ الطلاء الشعري الذي قصَدَهُ، هو شعريةُ تشخيص الواقع عند السلامي؛ إلا أنه لم يتوفَّق في التعبير عن ذلك، واعتبَر جلَّ نصوصِ المجموعةِ إنما تتماسُّ مع فنِّ الشعرِ؛
– أنَّ تحديدَهُ للشخصياتِ ارتكز على ما قبلَهُ، مسيئًا استخدامَهُ، مركِّزًا على التسميةِ، بدل طبيعةِ وكيفيةِ الحضورِ.
– أنَّ حديثَهُ عن العنوان اجتزأ ما ورد عنه معرفةً ضمن الكتاب الثاني، فأساء استخدامَها، فاعتبر العناوينَ مجردَ عتبةٍ، وهي بذلك لا تختلف في شيء عن أيِّ شكل للعناوين، في أيِّ نصٍّ من النصوصِ.
أخيرًا نعتبر أن سوءَ استخدامِ المعرفةِ المتوفَّرةِ في شأنِ القصةِ ق ج، وعدمَ ترتيبِ ما اعتبرَهُ تقنياتٍ في منهجٍ واضحٍ، جعلاه يكتب مقالا مفكَّكًا، لا ينطوي على أيِّ معرفةٍ مضافةٍ.
المراجع المعتمدة:
1- جمال بوطيب: «زخة ويبتدئ الشتاء»، قصص قصيرة جدّا، منشورات اتحاد كتاب المغرب، سنة 2001م.
2- الزياني عبد العاطي: «الماكروتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب»، منشورات مقاربات، سلسلة بحوث المجلة، ط1، يناير2009م.
3- السائحي رضوان: «تقنيات القصة القصيرة جدا؛ «الكرسي الأزرق» لعبد الله المتقي نموذجًا»، مجلة طنجة الأدبية، ع34، أبريل 2011م.
4- السلامي عبد الدّائم: «شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا (قصص عبد الله المتقي ومصطفى الغتيري أنموذجًا)»، منشورات أجراس، ط1، سنة2007م.
5- الغتيري مصطفى: «مظلة في قبر»، قصص قصيرة جدا، منشورات القلم المغربي، سنة 2006م.
6- المتقي عبد الله: «الكرسي الأزرق»، قصص؛ منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، الدار البيضاء، الكتاب الخامس عشر، ط1، سنة 2005م.
هوامش:
-1 عبد الله المتقي: «الكرسي الأزرق»، قصص؛ منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، الدار البيضاء، الكتاب الخامس عشر، ط1، سنة 2005م.
-2 رضوان السائحي: «تقنيات القصة القصيرة جدا؛ «الكرسي الأزرق» لعبد الله المتقي نموذجًا»، مجلة طنجة الأدبية، ع34، أبريل 2011م، صص20-21.
-3 عبد الدّائم السلامي: «شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا (قصص عبد الله المتقي ومصطفى الغتيري أنموذجًا)»، منشورات أجراس، ط1، سنة2007م.
-4 عبد العاطي الزياني: «الماكروتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب»، منشورات مقاربات، سلسلة بحوث المجلة، ط1، يناير2009م.
-5 مصطفى الغتيري: «مظلة في قبر»، قصص قصيرة جدا، منشورات القلم المغربي، سنة 2006م.
-6 جمال بوطيب: «زخة ويبتدئ الشتاء»، قصص قصيرة جدّا، منشورات اتحاد كتاب المغرب، سنة 2001م.
-7 عنوان المقال الرئيس وردت فيه عبارات «تقنيات ق ق ج»، والحال أن صاحبَه يقصد «تقنيات الكتابة في ق ق ج»؛ إذِ التقنيةُ هي أسلوبٌ مرتبطٌ بالكتابةِ لا بشيء آخر. هذا ونشير بدءا من الآن أننا سنختصر ضمن أسطر بقية المقال كلمةَ القصيرة في حرف (ق)، وجدًّا في حرف (ج).
-8 رضوان السائحي: «تقنيات القصة القصيرة جدا؛ «الكرسي الأزرق» لعبد الله المتقي نموذجًا»، مرجع سابق، ص20.
-9 نفسُهُ.
-10 نفسُهُ، ص21.
-11 عبد الدايم السلامي: «شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا (قصص عبد الله المتقي ومصطفى الغتيري أنموذجًا)»، مرجع سابق، ص85.
-13 عبد العاطي الزياني: «الماكروتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب»،مرجع سابق، ص12.
-14 نفسه.
-15 نفسه، صفحات: 20-37.
محمد بوشيخة