رأت سعاد الطود النور بين جبال الأطلس المتوسط، تحديدا بمدينة “يتزار” في خامس ماي سنة اثنين وخمسين وتسع مائة وألف، في يوم من أيام شعبان، من والديها المرحوم الحاج إدريس الطود و الحاجة مليكة الطود، اللذان هاجرا إلى ربوع جبال الأطلس لسببين، ضغط الاستعمارين الفرنسي والإسباني، على طلبة جامعة القرويين، الذين زاوج أغلبهم بين طلب العلم، وبين الكفاح ضد الطغاة المعمرين، متحصنِين ماديا و معنويا بجامعة القرويين العتيدة، و بكل الوسائل المتاحة لطلبة عُزَّل، إلا من سلاح الإيمان بحق الشعوب في الاستقلال وكرامة الإنسان.
هناك في يتزار أسس والدها معهدا بتنسيق مع الشرفاء اليَتزْريين المتنورين، وبدعم من المغفور له محمد الخامس رحمه الله، وقد اتفق المؤسسون على تسمية هذه المدرسة “معهد الفتح”، فكان للحمولة الإيجابية لهذا الاسم، أثر جيد على ساكنة يْتْزار بكل فئاتها العمرية و الإثنية.
قبيل استقلال المغرب مد الاستعمار يده إلى معهد الفتح، لِتُوصَد أبوابُه ولتصبح رسالتُه النبيلة في خبر كان. توقفت أنشطة المعهد وخبت الشعلة التي استمدها المناضلون من صمودٍ أسطوري عتيد، لم تكن معانيه تخفى عن ألباب المعمرين المعتدين. والغريب هو أنها خفيت عن الحس الوطني لذوي القربى من الشركاء في الوطنية. هكذا وجد الاستعمار ثغرة منها يُمِد الساحة المغربية المتنوعة الفسيفسائية، بنار تشوه جمالها لتجعل منها قَيظاً يُحرق الأخضر واليابس.
في غياب رب الأسرة سنة 1956 اضطرت هذه الأخيرة إلى أن تستعين بتلامذة المرحوم ومريديه لتتمكن من العودة إلى بلدة الأجداد “القصر الكبير”. حينها لم تكن سعاد الطود قد تجاوزت الرابعة من عمرها، ولم تكن قادرة على استيعاب التفاعلات السياسية وخلفياتها التي كانت وراء اختطاف الأب والعديد من أفراد العائلة، لكن دموع الأم أججت في أعماقها الحنين وحرقة أسئلة عمياء خرساء.
لقد أحدثت هذه الوقائع جرحا أدمى قلب الوالدة وقرح عيونها، وأجّج في نفس الطفلة سعاد، نارا من الحنين إلى الأب الغائب، لاسيما وأن أحدا لم يشرح لها الأسباب وخلفيات النضال و الصراع السياسيين. فكانت كلما اختلت بنفسها أخرجت صورة الوالد وطفقت تكلمه وكأنه حاضر أمامها روحا وجسدا. وكلما قامت جدتها للصلاة رافقتها بالدعاء لأبيها بالعودة إلى بيت العائلة.
عادت الحاجة مليكة الطود سنة 1956 بعد اختطاف زوجها، إلى بيت أبيها بالقصر الكبير حيث احتضنتها أمها. وقد بادر عم سعاد المرحوم عبد القادر الطود، طالبا من زوجة أخيه أن تسمح له بأن يتكفل برعاية سعاد في غياب أبيها، وافقت الأم على هذا العرض الجميل، فاصطحب العم الصغيرة، وسارع بتسجيلها بمدرسة عين قطيوط الابتدائية بالقسم الابتدائي الأول، أو ما كان يسمى حينئذٍ بالقسم التحضيري. كان العم عبد القادر الطود يشتغل معلما بنفس المؤسسة. لذلك وافقت والدة سعاد شاكرة للعم عبد القادر مبادرته واهتمامه بابنة أخيه.
في صيف سنة 1958 بعدما وصلتها رسالة من الحاج إدريس يخبرها فيها بأن الفرج آت، وأنه قد علم من مصدر موثوق به أن أوان الإفراج عنه قد هلت تباشيره، أسرعت الوالدة بالاتصال بالعم عبد القادر ليعيد الطفلة سعاد إليها معبرة عن أنها لم تعد تطيق البعد عن ابنتها البكر لا سيما وأن الحاج إدريس قد يعود إلى البيت قريبا، فكان لها ما أرادت في أكتوبر لذات السنة.
بعد عودة سعاد الطود إلى بيت العائلة، في أكتوبر 1959 كانت على موعد مع إجراءات التسجيل بمدرسة رأس الدائرة بالقصر الكبير، هناك حيث اصطف التلاميذ في صفوف متوازية وقام كل واحد من المعلمين المتواجدين بالمدرسة بإدخال صف للتلاميذ إلى قسم من الطابق الأرضي أو من الطابق العلوي. كانت مدرسة رأس الدائرة وهي من مخلفات الاستعمار الإسباني بالقصر الكبير، تثير الانتباه إلى جودة تصميمها الهندسي وإلى كل مكوناتها، من أقسام فسيحة ونوافذ واسعة عالية ومتعددة، تتيح الضوء والأكسجين لكل ركن من أركان قاعة الدرس. وهي تطل على ساحة يُؤثثها عدد غير قليل من أشجار الصنوبر. كانت مدرسة رأس الدائرة تشبه مدرسة عين قطيوط بطنجة إلى حد ما، بشكل جعل سعاد ترتاح في مقعدها الذي اختارته بالقسم في اليوم الأول، بقدر غير يسير من الثقة في النفس.
نادى كل معلم على أسماء التلاميذ المسطرةِ أسماؤُهم على اللائحة التي سُلمت له من طرف الإدارة، وطلب منهم الاصطفاف مثنى مثنى، ليقود تلامذته إلى القسم المخصص لهم، حيث وزعت الأقلام والأوراق على التلاميذ في الفصول، وطُلب من كل تلميذ أن يكتب اسمه الخاص والعائلي أعلى الورقة. ثم أخذ كل معلم من المعلمين في قسمه يملي الحروف على التلاميذ. تمت هذه العملية في جميع أقسام المؤسسة، ثم جمعت الأوراق وطُلِب من التلاميذ الانتظار. بعدها، نودي على كل تلميذ وتلميذة وتم توجيههم للالتحاق بالقسم الذي يلائم مستواهم الذي قدره المعلمون من خلال هذا الاختبار السريع.
هكذا كان من بين التلاميذ من وجهه المعلمون إلى القسم التحضيري، ومنهم من رأوا إلحاقه بالقسم الابتدائي الأول، أو بالمستويات الأعلى بالمدرسة الابتدائية. وقد كانت سعاد، ضمن التلميذات اللائي تم اختيارهن للالتحاق بالقسم الابتدائي الأول بناء على نتائج هذا الاختبار السريع الذي خضعت له مجموعات من التلاميذ الذين تراوحت أعمارهم فيما بين سِتّ سنوات وعشر سنوات.
أحست سعاد بغبطة لا توصف، لم يعترها الفتور إلا لما أخبرها عمها أنه سيصبح لها والدا حقيقيا، فبادرته بالقول: بعد عودة أبي سأذهب لأراه، ولن أفارقه أبدا. دمعت عينا العم ولم يُعقِّب.
عندما التحقت سعاد بالقسم، اندهشت عندما وجدته مختلطا ذكورا وإناثا، خلافا لما كان عليه الحال في مدرسة عين قطيوط للبنات بطنجة. كما أن الذكورَ كبارَ السِّنّ كانوا يمثلون الأغلبية ويتجاوز سنهم سبع سنوات بكثير. بل إن الصغيرة تصورت أنهم في عمر عمها.
في أكتوبر 1963 بعد نجاح سعاد في امتحان الالتحاق بالتعليم الإعدادي وجدت اسمها ضمن لائحة تلاميذ الملاحظة 1 وهو المستوى الدراسي الذي يوازي القسم الإعدادي الأول في يومنا هذا.
هكذا وقفت سعاد في صف التلاميذ المسجلين ضمن لائحة قسم الملاحظة1. لقد كانت هذه المرحلة من أجمل المراحل الدراسية لسعاد، إذ استفادت معرفيا خلالها بشكل كبير، نظرا لتنوع التلاميذ من حيث الجنس والسن، مما جعل التنافس يشتد بين الإناث والذكور وبين الكبار وصغار السن، كما كان لحنكة الأساتذة المغاربة والفرنسيين أثر إيجابي، فقد استطاعوا أن يجعلوا من أقسامهم ورشات يسود فيها التنافس في طلب المعرفة والتمرن على الإبداع في سن مبكرة، كل ذلك في ود متبادل بين التلاميذ، وفي مناخ تسوده المساواة.
لذلك كان هذا الالتحاق بالتعليم الثانوي محطة دراسية مفيدة ومؤثرة في حياة سعاد بشكل مبهر، لاسيما وأنّ الطاقم الإداري والتربوي بالثانوية المحمدية بالقصر الكبير، اهتم بإدراج حصة للمكتبة ضمن البرنامج الأسبوعي لكل المستويات الدراسية، وجعل لقسم الملاحظة 1، الحصة الأخيرة صباحا يوم السبت. وقد نجح الأساتذة في تحفيز كل التلاميذ على ارتياد المكتبة أسبوعيا لاختيار كتاب يقرأونه في غضون أسبوع واحد، مبدين اهتمامهم بما نقرأ. الشيء الذي جعل منا أطفالا يستعرضون في زهو ما قرأوه واستوعبوه من كتب خزانة المؤسسة. وكان الطاقم التربوي بالثانوية المحمدية يُصرُّ على ألا تقل أهمية حصة المكتبة عن باقي الحصص الأخرى كحصص الفرنسية أو الرياضيات أو دروس اللغة العربية والرياضة. لم تتغيب سعاد أبدا عن حصة المكتبة وكانت تلتهم كتابها أو روايتها في أقل من يومين على الأكثر لتقترض كتب رفيقاتها ورفاقها لأن التنافس كان على أَشُدِّه بين التلاميذ، لدرجة أن التلاميذ والتلميذات أسسوا تقاليد جميلة، كانتخابهم سنويا لرئيس النادي الثقافي للثانوية المحمدية من بين التلاميذ، وتأسيسهم للمجلة الحائطية التي كانت سعاد الطود من بين كتابها، وهي بعدُ في السلك الأول من التعليم الثانوي، والجدير بالذكر هو أن الإدارة التربوية لم تكن تحكم طوق الرقابة على التلاميذ وعلى أنشطتهم خلال النصف الثاني من يومي الأربعاء و السبت، وإنما كانت تركز على مراقبة أمن المؤسسة وعلى مراقبة سلوك التلاميذ عن بعد.
وقفت سعاد عند مفترق طرق التوجيه الدراسي، خلال السنة الدراسية 1967- 1968 حينما وجدت نفسها محتارة في اختيار الشعبة التي ستواصل فيها دراستها الثانوية، وقفت مترددة بين الشعبتين العلمية والأدبية، وبين أن تلبي رغبتها و نهمها المتنامي للنهل من مختلف موارد المعرفة، أو تواصل الدراسة في صف الشعبة الأدبية. لتجد نفسها في النهاية تختار، تحت وطأة رغبة جارفة شعبة العلوم التجريبية، رغم أنها كانت من عشاق الكتاب والشعر والرواية، رغم شغفها الملفت للانتباه بالمطالعة الحرة، الشيء الذي كان يجلب لها كثيرا من اللوم أحيانا والعقاب أحيانا أخرى من طرف وسطها الأسري، لإهمالها الواجبات المنزلية التي كانت تكلفها بها أمها، حيث أنها قضت فترة مراهقتها في المكتبة باحثة عن الجديد، من روايات ودواوين شعرية وكتب لمفكرين مشارقة ومغاربة، الشيء الذي جعل والدها يخشى عليها من الوقوع في مغبة إهمال دروسها فتضيع منها فرصة الانتقال إلى المرحلة الثانوية اللاحقة ..
هكذا كان تطلعها إلى كل ألوان المعرفة، وراء إقدامها على مغامرة اختيار الشعبة العلمية. يحدوها التوق والشوق إلى اكتشاف قوانين الفيزياء والكيمياء، والتعرف على أسرار الطبيعة في جسم الإنسان والحيوان وباقي الكائنات الضئيلة التي قد تؤثر في الحياة تأثيرا بالغا قد لا ينتبه إليه غيرُ عليمٍ.
مع أن جمود الرياضيات و طبيعتها الجافة الآلية كانت تجعلها تحس بأن العقل مع الرياضيات آلي منصاع لقهر القواعد، لم تندم سعاد لانحرافها عن خط الفكر والأدب الذي استهواها منذ بدايات طفولتها في المرحلة الابتدائية والإعدادية، المرحلة التي استطاعت خلالها أن تقرأ من مكتبة أبيها ومن مكتبة الثانوية المحمدية بالقصر الكبير كل ما طاب لها من أدب و تاريخ وشعر، لذلك رغم نيلها لشهادة الباكلوريا العلمية تطلعت من جديد إلى الفكر الفلسفي، مما جعلها تقصد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط لتسجل اسمها في لائحة شعبة الفلسفة و العلوم الإنسانية، في شهر أكتوبر سنة 1975 كي تنهل من معين المعرفة على أيدي مفكرين مغاربة أفذاذ كالدكتور محمد عابد الجابري، والدكتور محمد سبيلا و الدكتور أحمد السطاتي، والدكتور إبراهيم بوعلو، والدكتور سالم يفوت و الدكتور طه عبد الرحمن والدكتور محمد المصباحي و اللائحة طويلة.
ولقد جاء تعاطي سعاد الطود للكتابة الشعرية في فترة متأخرة، نتيجة طبيعية لشغفها بالأدب عموما وبالشعر بشكل خاص، وقد حدث ذلك بمحض الصدفة، حينما أسست صحبة نخبة من نساء القصر الكبير جمعية الأنوار النسوية للأعمال الاجتماعية والتربوية والثقافية سنة 1995 ، وحين انخرطت هذه الجمعية في تكتل جمعوي ضم جمعيات ثقافية مهتمة بالثقافة والأدب والإبداع، من بينها علاوة عن جمعية الأنوار النسوية للأعمال الاجتماعية والتربوية والثقافية، جمعية الامتداد الأدبية، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ومنتدى حقوق الإنسان لشمال المغرب، وغيرها من الجمعيات المحلية. وقد كانت هذه المحطة أساسية اكتشفت فيها سعاد إمكانيات قد تُؤهّلها لكتابة الشعر كما سبق لها في زمن مضى أن كتبت القصة القصيرة والمقالة. وقد شاركت سعاد الطود بإلقائها لبعض النصوص الشعرية في لقاءات نُظمت بالقصر الكبير وفي بعض مدن الشمال.
إلى يومنا هذا تحس سعاد بأنها لم تستطع أن تحقق شيئا يذكر في مسارها التكويني والمعرفي والإبداعي. وأن الطريق أمامها طويل وشاق، مع أن شمسها باتت على أطراف النخيل.
مؤخرا صدر لأستاذة سعاد الطود ديوانها الأول، “ظل غمامة”، وسيليه ديوان ثانٍ بعنوان “جل الغنيمة” ينتظر دوره ليعرف طريقه إلى المطبعة. وبينهما نصوص تتولد من رحم الحياة، قد ترى النور لاحقا إن شاء الله.
إنها الأستاذة سعاد الطود التي اهتمت بكل ما هو اجتماعي تربوي وثقافي للمراة وللمجتمع ككل، من خلال التفكير في تأسيس جمعية، وبدأت الفكرة تتبلور واندمجنا في هذه المبادرة التي رأت النور على صعيد المدينة وتجندت لها خيرة النساء، وانبثقت عنها فكرة اعطاء دروس محو الأمية، وكذا تعليمهن العمل الحرفي وتطوعنا في هدا الشأن وبدا العمل الجمعوي من وقتها يشغلنا كنساء المدينة، والأستاذة سعاد دائما تجدها ملمة بكل كبيرة وصغيرة وتستمع لك وتشرح مسارات العمل الجموي ومتطلباته، وكنا نعمل معها كخلية نحل لا تتعب، كانت دائما منصتة حنونة نعتبرها أختا وصديقة قبل ان تكون السيدة الرئيسة. لم نكن نحس بالفوارق بيننا، تجدها تعمل مع الفريق يدا بيد ، هذه هي سعاد الطود الطيبة الخلوقة والتي دائما تستقبلك بابتسامتها. كان دائما إحساسها بالآخر يدعمنا ويدفعنا إلى الأمام وللاستمرار أما عن الأديبة والشاعرة ما عساني أقول إنها بحر في احشائه درر، فهنيئاً لك ما قدمت وهنيئاً لك ما نلت.
من أي أبواب الثناء سأبدأ وبأي أبيات القصيد أعبر، ففي وجودك وبحضورك تعلمنا الكثير، انت كسحابة معطاءة سقت الأرض فاخضرت، دمت راقية. نحبك استاذة سعاد ونقدرك ونتمنى لك حياة سعيدة مع عائلتك الصغيرة والكبيرة.
أمينة بنونة