كلّما رجعت إلى البيت، أسارع إلى رمي فردتي الحذاء الثقيلتين بعيدا عني، أركلهما كيف جاء واتفق، أتملص وأتخلص منهما ومن حملهما الثقيل، أفعل ذلك حتى قبل أن أسلم على الأهل، وكأن رجلي ّ كانتا مربوطتين إلى طود عظيم.
الحركة الثانية العفوية تقودني إلى حيث توجد المائدة، لأكتشف ما وضعته الأم الطيبة هناك، من قليل الطعام، أرفع غطاء الثوب دهشا، كما يفك الطفل الصغير علبة لعبته الجديدة.
مسكينة هذه الأم، كانت لا تكف تخوّفني من الأكل خارج البيت، استهواني الأمر، فأصررت ألا آكل إلا من عمل يديها، فأصبح منظر المأكولات المعروضة أمام المحلات التي انتشرت بين الأحياء و الأزقة، يثير في نفسي الرعب والاشمئزاز.
و رغم أن هذه عادة سيئة في نظر أخواتي (أخواتي فقط)، فإن الوالدة تردد ذلك بكامل الفخر والاعتزاز، وكأنها تنذر الزوجة القادمة حتى قبل أن تكون …
قبل أن أضع اللقمة في فمي، لفتت انتباهي أيقونةٌ مضيئة على صفحة الحاسوب، تومض وميضا متقطعا، وبسبابة اليد اليسرى بدأت أقلب داخل علبة البريد …
و رغم أن الأهل منعوني منعا يكاد يقترب من التحريم و الزجر، من أن أضع الحاسوب و الطعام على خوان واحد، الحاسوب الذي جمعت ثمنه درهما درهما، و لم أرض إلا بواحد جديد، بعد حادث انسكاب كأس الشاي الشهير (فلأجله عقدت العائلة اجتماعا طارئا، وفتحوا لائحة إعانات، انتشلتني من الجنون والعطالة)، فإنني سرعان ما أخرق هذا الحظر، وهم ينعتوني بصاحب الرأس الصلدة المغلقة، ويتابعونني بنظرات هي مزيج من الحنق و الشفقة.
اختفى الشعور بالجوع، و بدل أن أنقر على لوح الطعام، دلفت إلى علبة الرسائل أبحث داخلها، أقلب ذات اليمين وذات اليسار، أقرأ هذه و أعرض عن تلك، حتى وجدت الرسالة الوامضة.
رسالة صغيرة داخل ظرف صغير، مكتوبة بخط وردي أو حنائيّ (لمَ لا يضيفون لون الحناء المخضب إلى قائمة الألوان!)، الغالب أنه خط فتاة. لأن الفتيات عموما يملن إلى ألوان الورد والدم، و منظر المرأة وهي تضع ” إكسسواراتها بالأسود، يثير في نفسي الإحباط و الضجر.
حاولت فض الظرف فلم أستطع، كأن الصمغ الذي وضعته صاحبته قد جلبته من اليمن، حاولت مرة ثانية أن أفضه بأنيابي فكدت أكسرها.
لقد كان من الورق المُقّوى برقم سري، رسالة البريد إذن موضوع عليها قفل من حديد، ولا مندوحة من مفتاح.
الأمر لا يحتمل مزيدا من الانتظار، فقد تذكرت مصدر الرسالة المقفلة.
كنت قد تركت طلبا دسما، على رفوف أحد المواقع المتخصصة في قرن الناس بعضهم ببعض ووثقهم بالميثاق الغليظ.
تركت عند هؤلاء الناس (قد يكون شخصا مفردا يربط الناس، وهو مستلق فوق سريرالنوم) طلبا ملونا، جيشته بكل ما أوتيت من صور و أبيات شعرية رقيقة، جلها مأخوذ من دواوين نزار الشاعر الكثيرة.
ولأنهم لبّوا طلبي، فإنهم لا محالة، توفقوا في العثور على الطلب المطلوب، المرأة المصقولة العوارض، التي ينبعث منها ريا المسك و القرنفل، تماما مثل صاحبة الملك الضليل، و التي إذا تكلمت، سبقتها غمازتاها، تصيبان العين والقلب، بالطبع لم أكتب هذا، على صفحة الطلب، وإنما احتفظت به في ذاكرتي المؤقتة، ثم سرعان ما رميت به في غيهب النسيان.
وبخطة جهنمية (لحد الآن لا أفهم، لمَ يربط الناس بين الخطط و جهنم، ولم أتوفق في إيجاد الرابط بينهما) رُحت أقلب داخل ثنايا رأسي عن كل الأرقام التي أحفظها، رقم الدار و الهاتف ورقم التعريف ورمز الحي واسم المدينة وتاريخ الميلاد واسم السيارة المحلوم بها، واسم زميلتي في الورش الصغير…جربت ذلك كله، لكنني لم أفلح، وفي كل مرة يخبرني أصحاب الموقع، أن كلمة السر غلط، أو أن أحدا ما يحاول اقتحام علبة رسائلي، للاستيلاء على الكنز المخبوء.
استدعيت كل ما في رأسي من أرقام و أسماء، أمزجها و أخلط بعضها ببعض، و في كل كرّة أركب مفتاحا جديدا، لعله يسعفني في الوصول إلى الأميرة المحبوسة في الداخل. قلبت الأرقام رأسا على عقب ، صففتها يمينا وشمالا، صنعت منها شفرة و سننا كأسنان المنشار، لعلي أنفذ إلى الداخل، حيث ترقد الطريدة.
رصفت الأصفار و الآحاد و الثواني وكل الأرقام الأخرى، عجنتها و مزجتها بالحروف اللاتينية والعربية و الرومانية، لكن كل خوارزمياتي و كل مقاليدي ذهبت بحلمي سدى، وبئت بفشل مريع.
و لأمر ما، اهتديت إلى فكرة غريبة، خففت من مصيبتي و هدأت من روعي، و لأمر ما، عرفت أن الحياة مع هذه المغاليق و المقاليد و الأقفال و الأسوجة و الحصون …لا تطاق. سنن و شفرات وبصمات للأصابع و أخرى للعينين، أسوجة من حديد و أخرى من الصواعق، و عرفت كذلك أن الناس يخفون كثيرا من الأشياء عن بعضهم البعض.
الإنسان كائن ينزع نحو العمق و العتمة و التواري و الاختفاء…الناس أقفال تمشي على الأرض.
عندما سكن الناس الكهوف، كانت هذه الكهوف والمغارات بلا أبواب، يشعل نارا ويتحلق حولها و على الجدار يرتسم ظله حيت ينام جاره الذي يشاركه “الغرفة” نفسها. بعد ذاك صنع لنفسه لباسا وغرفة، وبدأت غُربته تكبر و تزداد…
ولأتخلص من غربتي، ناديت أمي، وأغلقت الجهاز، وفتحت جميع نوافذ البيت…
عبد الحكيم برنوص