طرقات البسطار العسكري الناجمة عن الخبط الصارم من القائد العسكري الواقف مخاطبا جنوده المغاوير تختلط بأصوات بالبنادق الصاعدة من الجبهة الجنوبية في المعركة الدائرة الآن بين معسكر ال”جمان” والمعسكر المقابل له على الضفة الأخرى.
“و إن طالت الحرب، و إن حصلوا على مساعدة من العملاء البعيدين، نحن لها، نحن لهذه الحرب ونحن رجالها، هذه الحرب حربنا، ونحن من كنا ننتظر هذه الساعة للصعود عليهم واسترداد عزتنا وكرامتنا، فلتحيا “جمان”، فلتحيا جماننا، وليسقط أعداء الحضارة ”
أكمل القائد العسكري حديثه وسط زئير جنوده الذين لم يتوانوا عن تأدية التحية له برفع بنادقهم إلى الأعلى وقلبها رأسا على عقب ثم ضرب أقدامهم بها ليثبتوا لقائدهم أنهم لن يتوانوا عن الإقدام في المعركة، وأن أقدامهم ثابتة في أرض المعركة، فلا هزيمة ولا استسلام، و إنما نصر بفضل أقدامهم المكسورة التي لن تتراجع خطوة واحدة.
لم يلبث المساء أن حل، كان ذلك إلى أن حان وقت عملية تبديل الجنود على الجبهات بالشفت الآخر الذي حضر خطاب القائد، والذي سيستلم الآن موطن أصدقائه على الجبهة.
– علي، هيا بنا، عاد الجنود، حان وقت الخروج.
– اذهب أنت، سألحق بكم فيما بعد.
– ما الأمر؟. سأله صديقه ذلك بعدما اقترب منه وتقرفص مخاطبا إيّاه واضعا يده على كتفه.
– لا شيء، لا شيء.
– علي، تخلّفت اليوم عن حضور خطاب القائد حتى آخر لحظة، وحين حضورك متأخرا إليه أخطأت ولم تقم بأداء القسم على عادتك، ما هو حالك؟
– انظر إلى قدمك، لماذا كسرتها؟
– إنه القسم يا رفيق، أقسمنا أن لا نخون أرضنا وقائدنا، وشهدت أرجلنا على ذلك.
– ولماذا أقسمتم؟
– إنه الواجب … وقبل أن يكمل حديثه قاطعه صديقه بقوله: أي واجب؟
– نداء الوطن وقائد الوطن.
– أي وطن هذا الذي تتحدث عنه.؟ الوطن الذي كنا نقطن فيه جوعى حفاة عراة بلا مأوى ولا ملبس، حر الصيف يقتلنا وننتظر برد الشتاء ليقينا ليأتي غارسا نصاله في أجسادنا، نفرّ من الثعالب حتى نلاقي الضباع.
– لا، ما هذا الحديث؟
– إنّها الحقيقة يا عزيزي، و الآن … والآن ماذا؟ حين قام أحد ما بالاعتداء على الوطن هممتم بجلبنا من قرانا لندافع لكم عنه، ليقذفوا بنا على أعدائهم.
– إنه الوطن يا علي، الوطن يا علي، ألا تعلم ما الوطن، ألا تعلم ماذا قال فيه الشعراء والحكماء.
– كلهم كذبة
– لا لم يكذبوا.
– كلهم عاشوا في رغد، في قصور وجنّات نعيم، وولدان مخلدين وحور عين … ألا تعلم أنّ حورهم نساؤنا وغلمانهم أولادنا وموائدهم لحومنا وعصائرهم دمنا.
– أنت لا تقاتل من أجلهم، أنت تقاتل للوطن ولقائد الوطن.
– أنا لا أقاتل من أجل أحد، من رآني البارحة عاريا سأراه اليوم حتى بلا كفن.
وهنا قاطع حديثهم صوت شاحنات نقل الجنود التي وصلت للتو، واجتمع الآخرون لتتم المبادلة بين الفريقين، وقد حضر علي ممسكا به صديقه شادّا على يده، فسلّم الجميع على بعضهم، وصعد علي وصديقه والجنود الآخرون ذاهبين في شاحنات صغيرة تقلّهم وسط البرد القارص الذي يحملهم مع أشياء كثيرة على الكفر والجحود بالطقس وحبات المطر التي تفتك برؤوسهم وشجرة التفاح التي صادفها علي عارية فضلا عن تراب أرضه المبلل بالمطر والذي تحول إلى مستنقع محاولا سحبهم و إسقاطهم سقطة فوق سقطة.
بان الشحوب والرفض القاطع لعلي لما يُفعل على أصدقائه، فحملوه على الحديث لاسيما وأن أغلبهم من أبناء قريته التي نسيها العالم، فاستجاب لرغبتهم، وكان ذلك وسط أجواء نوم لبنادقهم وكل رصاصة وأختها مختبئة في جوف البندقية ملتحفة دافئة، لتشعل النيران وليلتف الجميع حولها بعد أن أعاق المطر والبرد الشديد مسار المعركة عن الاستمرار حتى الصباح.
“عاشت جمان العظيمة، عاش السلطان العظيم لنا ولأمتنا الكبيرة، لن يحيدنا الوقت ولن تمنعنا الصعاب عن أن نمضي إلى الأفق بأمتنا العظيمة وبجمان العظيمة، في ظل هذا الوقت الصعيب ..”
وهنا قاطع القائد صوت بعيد يقول: “لقد اجتازوا الحدود، لقد اجتازوا الحدود”
خبط عظيم وبلبلة كبيرة حدثت دفعت بالجميع إلى الالتفات إلى الوراء لمعرفة ما يحصل، إلى أن حمل الجميع أسلحتهم متوجهين إلى الخارج ليلتقوا بجنود الجبهة الثانية وقد تخطوا الحدود والحواجز، ولينهمر وابل النيران والمدافع عليهم ليسقط الجميع قتلى.
تراجع القائد وحاشيته إلى الوراء ليستقلوا سياراتهم متوجهين إلى المعسكر الآخر حماية لأنفسهم، وفي الطريق أشار السائق الخاص به إلى مجموعة من الأفراد الذين كانوا مناوبين على الجبهة ليلة البارحة يقودهم علي وقد انسحبوا من مواقعهم، تاركين لافتة وضع عليها: خذوها، فهي مباركة عليكم، من لم يطعمني من لحمه لن أسقيه من دمي. من لم يهبني وجودي وكياني، لن أقدم له احترامي ودفاعي.
سفيان توفيق – الأردن