إلى منطقة الشاوية، وتحديدا بني خلوق حيث يقام الملتقى الثقافي الثالث، حج عدد كبير من المثقفين والجامعيين ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات، من مدن مختلفة وأماكن متعددة، وأساتذة وطلبة وإعلاميين وممثلي وزارة الثقافة ورؤساء الجماعات والمنتخبين ورجال القانون، تلبية لنداء الثقافة بوسط موشوم بقدسية تفاصيله وأمكنته، وتوقا إلى استجلاء التراث الثقافي اللامادي للمنطقة، ونشدانا للحظة معرفية توثق ذاكرة ارتباط الإنسان بالأرض والمجال. ملتقى ثقافي نظمته الجماعة الترابية لبني خلوق بدائرة البروج بني مسكين بتنسيق مع المديرية الإقليمية للثقافة بسطات، بإشراف علمي لمختبر السرديات والخطابات الثقافية لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وبتعاون مع جامعة الحسن الأول بسطات والمجلس الجهوي لجهة الدار البيضاء سطات، يومه السبت 23 مارس 2019، ببني خلوق دائرة البروج بإقليم سطات، في موضوع: التراث الثقافي اللامادي بالشاوية، وعيا بأهمية التراث الذي يشكل هوية الشعوب وذاكرتها النابضة، ورمز حضارتها ومجدها.
كانت الجلسة الافتتاحية التي ترأسها أشغالها الأستاذ محمد معروف الدفالي، مخصصة لكلمات الفعاليات التي أشرفت على تنظيم الملتقى، حيث ألقت ممثلة المديرة الإقليمية للثقافة بجهة الدار البيضاء سطات السيدة حفيظة خيي، كلمتها التي أشادت فيها بمجهودات كل الفاعلين المشرفين على الملتقى والذين آثروا في هذه الدورة الاحتفاء بالموروث الثقافي للشاوية، وعدها خزانا ثقافيا، والتأكيد على إرساء توجه جديد ينشد التقدم والرقي المؤسس على البحث المعرفي والثقافي وصون الهوية.
بعد ذلك تناول الكلمة السيد عبد الرزاق الناجح رئيس جماعة بني خلوق الذي عبر فيها عن فخره بالملتقى الثقافي الثالث ضمن سلسلة تراث وأعلام الشاوية، والذي يعد استمرارا لأشغال الملتقيين الأول والثاني، مثمنا دور وزارة الثقافة في عزمها على إنشاء مركز ثقافي لجماعة بني خلوق، مشيرا إلى صدور الكتاب الثالث الموسوم بالتراث الثقافي اللامادي بالشاوية، مؤكدا استعداده الدائم لاحتضان جميع التظاهرات الثقافية في المنطقة، إيمانا منه بأهمية الثقافة في صون هوية الأمم والمجتمعات.
وفي كلمة ممثل جامعة الحسن الأول بسطات، أشار الأستاذ رياض فخري إلى أن الهدف الأسمى من هذا الملتقى هو نشر الثقافة والخروج من البروج العالية والجامعات إلى من تعنيه هذه الثقافة مباشرة، مشيدا بدور الجامعة في الانفتاح بأساتذتها وطلبتها.
أما كلمة ممثل جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، التي ألقاها الأستاذ عبد القادر كنكاي عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، فقد أكد فيها على أهمية التراث كمكون أساسي في الاستراتيجية المحلية والجهوية والوطنية، ودلالاته العميقة التي تمثل في الوعي بمكونات المجتمع المغربي ومقوماته، كما عبر عن رغبة كلية الآداب والعلوم الانسانية بنمسيك بالدار البيضاء الأكيدة في الانخراط في هذا المشروع التنموي، إيمانا بغنى المغرب العميق بتاريخه وثقافته، وألوانه وعاداته، هضابه وسهوله وجباله، معتقداته وطقوسه. وهذا جدير بالدراسة والعناية به والحفاظ عليه وتلقينه للأجيال الصاعدة.
بعد الافتتاح الرسمي للدورة الثالثة، انطلقت الجلسة العلمية الأولى التي ترأس أشغالها الأستاذ خالد سرتي، وأكد في كلمته على أهمية الملتقى ونوعيته وما يعبر عنه؛ ثم منح الكلمة للمتدخل الأول الأستاذ عبد السلام أمرير التي اختار لورقته عنوان: “تقنيات جرد التراث الثقافي اللامادي بالشاوية”، انطلق فيها من ثلاث أسئلة هي: لماذا نقوم بالجرد؟ من يقوم بهذا الجرد؟ ما هي الوسائل أو المناهج المتبعة لجرد التراث؟
وأجاب بأن الجامعة تتدخل في جرد التراث من زوايا مختلفة؛ الأنثروبولوجيا والجيولوجيا وحتى البيولوجيا من خلال أسماء التضاريس التي تحيل على التراث اللامادي، متوخية رصد مختلف مكونات العنصر الذي ينبغي جرده، بغية فهم ثقافة المغرب وحضارته وتقديم مقترحات للتنمية. كما أن الجماعات كذلك معنية بشكل مباشر من أجل إعداد برامج تنموية تتضمن معطيات اجتماعية واقتصادية وطبيعية، فالمونوغرافيا الكاملة يجب أن تضم عناصر التراث بكل مكوناته. أما الهدف من هذا الجرد فيتمثل في معرفة التراث اللامادي والمحافظة عليه إضافة إلى تثمينه وإدماجه في الحياة اليومية.
الورقة الثانية لعبد العاطي لحلو أستاذ معهد الآثار والتراث، الموسومة بالتراث الثقافي اللامادي بالشاوية بين البحث العلمي وآفاق التثمين، عرف فيها التراث الثقافي بكونه ما وصل إلينا من تراث أسلافنا نتيجة تطور أساليب العيش والتفكير بتناغم مع المجال وما تقدمه الطبيعة من إمكانيات العيش، وقسم عناصر التراث إلى الوظيفي والرمزي، والمادي وغير المادي. واعتبر المادي بدوره ينقسم إلى قسمين: ثابت غير منقول كالمنشآت العمرانية، ومنقول كالأدوات والحلي والمصنوعات. أما التراث اللامادي فيشمل اللغة والأمثال والتعابير وطرق التواصل وفنون الموسيقى والطبخ وأنماط العيش. وهذا النوع من التراث لم يتم الاهتمام به إلا في سنة 2003 من لدن منظمة اليونيسكو كتوجه جديد في إطار انفتاحها على الموروث الثقافي للشعوب، حيث بدأت الشعوب تعي ضرورة الحفاظ على تراثها الذي بدأ يتآكل أمام المنتوجات الحديثة.
من خلال طرح هذه العناصر، أشار الأستاذ عبد العاطي لحلو إلى ضرورة التفكير في العناصر الإجرائية واقترح إنجاز دراسات ميدانية من أجل إرساء قاعدة معطيات مفصلة، يشارك فيها الشباب والمجتمع المدني والجامعات وكل فئات المجتمع، وإنشاء متاحف، وأن يكون النموذج لقرية من الشاوية.
الورقة الثالثة قدمها الأستاذ التهامي الحبشي بعنوان: المتخيل والقدسي في التراث الشعبي، والتي تناول فيها بالدراسة طبيعة الغناء الشفهي الشعبي بمنطقة الشاوية، وجرد فيها جملة من الملاحظات مع بعض التعليقات؛ من بينها:
– إن الشاوية بترابها وكائناتها وامتداداتها تبدو مثل نص كثيف متشابك من العلامات والرموز التي ينبغي جمعها وتدوينها ثم إعادة توليفها وتفكيكها من أجل أن نحياها كنصوص؛
– الأغنية الشعبية شبكة من الرموز والعلامات التي تعبر عن قوة التاريخ والمجتمع في الأهزوجة التي تحيل على الهوية والقبيلة والسلالة، والمقدس والمدنس؛
– شعر العيطة أو (البروال الصوفي) أو (الساكن) يتغنى بأولياء الله الصالحين بحيث يعتمد على التلميح بدل التصريح، وهي مهارة نظمية تغترف من قيم الحياء والوقار حتى وإن أرادت التصريح بقيم الجمال؛
– غالبا ما يكون النص مجهول المؤلف، وحتى إن وجد فإنه يكون من الناس البسطاء الهامشيين وهم المزارعون والحرفيون الذين مارسوا شعرية التروبادور سابقا،
– يسمى هذا الغناء “سقوة ربانية” وهو ما يوحي بقدسية الغناء؛
– (قصيدة النجمة) التي تغنى بها العوني ولد البهلول وجلال الزرهوني في القرن السابع عشر تضمر الكثير من المعاني التي تتراوح بين الدين والدنيا.
في سياق القصيدة الزجلية الشاوية، ومعانيها الخصبة والمتنوعة، تقدمت الزجالة فتيحة المير بإلقاء قصيدتين زجليتين حملت إحداهما عنوان (التبوريدة) في تعبير عميق عن التراث الثقافي لمنطقة الشاوية، وعن المرأة الشاوية الشعبية الحاملة للمعاني والقيم.
فيما ذهبت الأستاذة أسماء الرفاعي التي وسمت ورقتها: “بحضور المرأة في الموروث الثقافي الشعبي بالشاوية”، أبرزت فيها حضور المرأة ومكانتها داخل المجتمع الشاوي، في الموروث الثقافي الشعبي، في محاولة منها لتغطية النقص المتحصل في المادة العلمية داخل كتابات المؤرخين. لقد كان للمرأة حضور قوي في عدة مجالات منها: السياسة، حيث أشارت الأستاذة إلى كتاب الدولة السعيدة للمؤرخ محمد بن عبد السلام الذي ذكر فيه أن عددا كبيرا من نساء وأولاد المولى إسماعيل، من أمهات شاويات، ويذكر اسم السيدة حليمة زوجة السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وهي بنت القائد عبد الله الرحماني عامله على الرباط والدار البيضاء وتامسنا. ويتحدث أيضا عن مصاهرة السلطان المولى سليمان للسيد الغازي بن المدني عامله على الشاوية.فقد كان للنساء الشاويات حضور وازن داخل البلاط السلطاني، أخذ شكل علاقات المصاهرة رغبة في تمتين الروابط القائمة بين مؤسسة السلطان والزعامات المحلية، غير أن التاريخ الرسمي كان مجحفا في حق هؤلاء النسوة جميعهن. كما كان للمرأة الشاوية حضور في التصوف النسائي بالشاوية، كالسيدة للا فاطنة لكحيل أو لكحيلة، حيث كانت تنتمي لصلحاء منطقة العلوة، وهي امرأة شريفة كانت تستشيرها القبيلة في أمورها السياسية، وبعد وفاتها قصد الناس ضريحها والزاوية المجاورة له للزيارة والتبرك. كما استطاعت المرأة الشاوية مقاومة المخزن بالفن، حيث وقفن في وجه القواد وبطشهم، وعلى رأسهن الشيخة الحاجة راضيا التي سجلت أسطوانة تمدح فيها اندحار المستعمر وهزيمته، وتشيد بعودة الملك محمد الخامس من المنفى.
من المجال الاجتماعي والفني، إلى المجال الطبيعي حيث خصصت مداخلة الأستاذة رابحة صالح المعنونة ب: “المنازل الفلاحية والدلالة المناخية”، ووقفت فيها على تعريف المنازل بعَدِّها حقول زمنية إلى جانب الأبراج والفصول. وتناولت فيها علاقة المنازل وما يحكى من أمثال شعبية لا تخلو من وقائع مطابقة للواقع، وأشارت إلى دلالاتها المتعددة منها: دلالة مناخية، دلالة تكمن في المناخ وتقسيم أوقات العمل، دلالة إيكولوجية بمعنى المنازل وتشير إلى أنواع المزروعات التي تتماشى مع كل منزلة، ودعت إلى الاشتغال في إطار مقاربة تشاركية استراتيجية للتغلب على العراقيل المتمثلة في آفة الجفاف.
وكانت آخر مداخلة هي التي قدمها الأستاذ مصطفى الميموني وعنوانها: “جوانب من التراث الثقافي الشعبي بالشاوية”، وقف فيها عند التراث الثقافي بعَدِّه المرآة التي تعكس الصورة الحقيقية لحياة مجتمع من المجتمعات، كونه يتضمن مجموعة واسعة من المأثورات والفنون الشعبية التي أبدعها الشعب من شعائر وطقوس ومراسيم، وما له من معتقدات، وما صدر عنه من عادات وتقاليد وأشكال ثقافية، تمثل تفاعله مع الكون وحكمته وإبداعاته المختلفة على مر العصور، ومن بين العادات الاجتماعية بقبيلة بني مسكين، ذكر الأستاذ الميموني عادات وطقوس الزواج وعادات الميلاد والختان ومراسيم الجنازة والاحتفال بعاشوراء وطلب الغيث (تاغنجا)، وبعض العادات الدينية التي تشمل المعتقدات والأولياء والصلحاء وليلة القدر وعيد المولد النبوي، وتعد هذه العناصر الثقافية بالمجال المسكيني استمرارا لعبق الماضي وملهما للمستقبل.
تلا هذه المداخلات تقديم كتاب لمحي الدين بن عربي “بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص”، قدمته محققته الأستاذة الشاعرة لطيفة المسكيني.
في ختام الجلسة الثقافية، تقدم عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء الأستاذ عبد القادر كنكاي بتسليم تذكار رمزي نيابة عن رئيس جامعة الحسن الثاني لرئيس المجلس الجماعي لجماعة بني خلوق عبد الحق الناجح عرفانا وتقديرا لدوره في الاهتمام بالثقافة ودورها في تنمية المجال القروي وصون هوية الإنسان المغربي.
متابعة: سارة الأحمر