ينفتح الفيلم الجديد للمخرج التونسي محمود بن محمود “فتوى” بعودة إبراهيم إلى تونس قادما إليها من فرنسا إثر وفاة ابنه الذي قَرَّرَ محققو الشرطة أنها ناتجة عن حادثة سير عادية. لكن إبراهيم لن يستسلم وسينخرط في تحقيق ذاتي مضاد سَيُؤدِّي به بداية إلى معرفة أن ابنه مروان تم استقطابه من طرف الحركات الإسلامية المتطرفة بعد أن كان رساما موهوبا وطالبا في مدرسة عليا للفنون. ومع تتالي الأحداث نعلم أن لانفصال إبراهيم عن زوجته السابقة أم مروان البرلمانية العلمانية والمناهضة الشرسة للفكر الإسلاموي المتشدد دور كبير في المسار الذي التجأ إليه إبنهما مروان كهروب من تفكك أُسرَوِي كان ضحيته الأولى.
اختار المخرج محمود بن محمود أن يجعل شخصيته الرئيسية إبراهيم في الوسط بين المتطرفين الدينيين من جهة وبين العلمانيين المُضَادِّين لهم من جهة أخرى، كونه مسلما بالعقيدة فقط وغير مُمَارس للطقوس الدينية، فهو لا يصلي ويشرب الخمر ويلعب القمار، لكنه في نفس الوقت يُصِرُّ على دفن ابنه على أُسُسِ ومبادئ الشريعة الإسلامية عكس أُمه التي قطعت نهائيا مع الدين وألَّفَت كتابا يفضح المُتشدِّدِين دينيا، كلَّفها فتوى تُبِيحُ دمها وتُعلنها كافرة ومرتدة على المَلَإ.
أهم شخصية في الفيلم هي شخصية إبراهيم المواطن العادي والذي يكتشف مع مرور أحداث الفيلم مَدَى بشاعة الأساليب التي يلتجأ إليها المتشددون الدينيون للوصول إلى الحكم والسيطرة على دواليب المجتمع والسلطة، فإذا كان في أول الأمر يَقبَلهم بتحفظ لأنه لم يكن يعلم كُنه إيديولوجيتهم وطبيعتها فإنه سيصل مع نهاية الفيلم إلى الحقيقة المُرَّة كونهم هم من قتلوا ابنه بعد تعاطفه مع أمه التي كانوا يحاولون تصفيتها جسديا وبعد محاولة تراجعه عن الانتماء إليهم.
كَمَا كثير من الأفلام العربية التي تتناول قضية التشُّدد الديني والحركات الإسلامية المتطرفة إلتجأ محمود بن محمود إلى تنميط شخوصه، ففي ناحية هنالك الجيدون وفي مقابلهم في المعسكر المضاد هنالك السَّيّؤون الأشرار المتشددون دينيا ، ولا لون رمادي بينهما، وهذا هو أسهل الحلول الدرامية فيما لو كان المخرج قد انتقل إلى مستوى آخر من الغوص النفسي في أعماقش الشخوص ودوافعها الاجتمناعية والنفسية لشاهدنا فيلما أفضل تظل فيه الشخصية إنسانا قبل كل شيء تتصارع في دواخله قوى الخير والشر وفي كل حالة ينتصر جانب منهما.
ورغم كل ذلك تظل شخصية إبراهيم الاستثناء في الفيلم بحيث نجد أنها شخصية إشكالية تؤمن لكنها ترفض الخضوع للاستقطاب من طرف الإسلامويين، فمثلا حينما سيسأله شيخهم هل تصلي يجيب بالنفي ويؤكد له أنه يشرب الخمر، فيطالبه الشيخ بالتوبة فيرفض قائلا أن أموره بينه وبين إِلَهِه وليس لأحد أن يتدخل بينه وبينه.
يبدو على العموم أن المخرجين المنتمين للمنطقة العربية من كل الأجيال لم يستطيعوا بعد وضع مسافة بينهم كمبدعين ينجزون أعمالا فنية وبين إيديولوجياتهم التي تطغى وتُعلِنُ عن نفسها بقوة في أفلامهم، خصوصا تلك التي يتناولون فيها ظاهرة التطرف الديني، بشكل تطغى عليه المباشرة والتي تتنافى مع العمل الفني الجيد. لكن رغم كل شيء يظل فيلم “فتوى” عملا محترما رغم طُغيان ظاهرة “الصوت العالي” في كثير من لحظاته.
عبد الكريم واكريم-خريبكة