جلس (جلون) على حجر وسط “فدادين” المرحوم والده غارقا في دنيا التأملات، لقد رحل أبوه وغصة في قلبه على أن أفنى عمره في الإنفاق على دراسة ابنه الوحيد (جلون) في مدارس العاصمة وجامعاتها دون أن يحصل الأخير سوى على أكوام من الشهادات التي طاف بها على إدارات ومؤسسات بلده السعيد، وكان يُقال له دائما: (اُترك العنوان ورقم الهاتف وسنتصل بك قريبا)، وأحيانا يقولون له ـ ويكون كلامهم صادقا هذه المرة ـ (إن تخصصك ليس له مكان عندنا).. هل تُراهم قرأوا البؤس والفقر على محياه في الوقت الذي ينقض فيه الأوغاد على المناصب بقدرة قادر؟!
وها هو الشاب أصبح اليوم يقضي أيامه في أرض الوالد الذي نبت الشوك على قبره كأنما خرج من جثة تحترق ألما وحسرة، لقد نمت حشائش كالإبر منبعثة من ركام ما بداخل القبر.
أصبح (جلون) مهووسا بالحشرات يجمعها ويدسها في علب الأدوية المعدنية وفي صناديق خشبية، وأحيانا يُرى يغرز عودا في بيت النمل، وحين يصبح العود مكسوا بأسراب النمل المتسلق ويقترب من يد الشاب يحمله باتجاه عش نمل آخر مختلف اللون والشكل ويضرب العود بالأرض، فيتساقط النمل الأول على الثاني وتبدا المعرك الطاحنة، ويرقب (جلون) الوضع بشغف واهتمام، ويشرع في تدوين ملاحظاته واستنتاجاته على مذكرة ورق لا تفارقه، وأحيانا أخرى كان (جلون) يحمل معه الضفادع والسلاحف والقنافذ إلى بيته، ويضع سحلية على رأسه أو كتفه وهو يدندن، وفي الطريق يقطف ثمرة من هذه الشجرة، وفاكهة من تلك الناحية مما تنبت أرضه، ويلتهم ذلك ككائن نباتي يقتصر معيشه على ذلك، ثم يمر على بئر البيت القديم، فيدلي الحبل ويسحبه إليه سحبا، ثم يصب الماء من الدلو في إناء معدني، ويشرب جرعات على عجل، ثم يغلق الباب عليه..
أصبح أهالي بلدة (الخربانة) ينظرون إلى الشاب (جلون) بريبة واستغراب ثم بشفقة تحولت إلى اتهامات مبطنة بالجنون، وأرجعوا ذلك إلى خيبته في العثور على عمل مناسب بعد سنوات دراسية طويلة، وربما موت الوالد أثر عليه، كما لم يغفلوا تأثير ما يقرأه من كتب لا تفارقه منذ طفولته وصباه، ومع مرور الزمن وانعزال الشاب صارت تهمة الجنون شائعة بين أهالي البلدة، فهم يرقبون حركات (جلون) وكيف يكلم نفسه أحيانا بصوت مرتفع، ويتأملون حركات يديه، وكيف أنه إلى هذه السن ما زال يصطاد الطيور والفراشات بل وحتى الثعابين، وبدأ أهالي (الخربانة) يحذرون أبناءهم من الاقتراب من المجنون (جلون).
تمر بضعة سنوات وتحل بالبلدة وفود أجنبية بعد أخبار متداولة عن اكتشاف مصادر للطاقة بـ (الخربانة)، فمن قائل إنه البترول، وقائل إنه الغاز أو الفوسفات، وجاء أشخاص زرق العيون شُقر الشعر، وأقاموا على عَجَل بناء تم تركيبه في طرف (الخربانة) في نصف يوم، وجاؤوا بآلات حفر ومناظير ووسائل قياس، وتناثرت الأحاديث عن بحبوحة السعادة والنعيم الذي ينتظر أن يعم (الخربانة) وأهلها، وأن اسمها سيتغير ليتناسب مع الوضع المستقبلي الجديد، وكان الوفد الأجنبي يرأسه شابان وشابة ومعهم مترجم أسمر اللون لا يفارقهم في تنقلاتهم، فهو وسيلة تفاهمهم مع الأهالي وهو الذي يقضي كل طلباتهم، وحاجياتهم، إلى أن كان يوم سألوا فيه عن شخص متعلم وسط بلدة (الخربانة)، لكن الأهالي ذكروا للمترجم أن المتعلم الوحيد هنا هو المجنون (جلون)، ونقل المترجم بأمانة قصة المجنون للأجانب الذين بدا بريق الفضول والاهتمام في أعينهم، فطلبوا مقابلة (جلون)، وتعجب الناس من الأمر، وكان المترجم ينوي فعلا الذهاب للعاصمة لقضاء بعض أغراضه وكان محتاجا لمن يساعده من أهالي البلدة ممن يعرف تفاصيل عاداتها وخصوصياتها ويكون متعلما ينوب عنه في غيابه، لأن مقام الأجانب ربما يطول على ما يبدو، وتوجه الأجانب الثلاثة برفقة المترجم نحو بيت (جلون)، كان الجميع يترقب ما سيسفر عنه هذا اللقاء، لكن الأيام اللاحقة ستكشف لهم عن تجاذب غير عادي بين هؤلاء اتجاه (جلون) الذي ما عاد يُرى إلا بصحبة الأجانب زرق العيون شقر الشعر، خاصة بعد سفر المترجم..
كان أهل (الخربانة) ينتظرون على أحر من الجمر استخراج ثروات بلدتهم التي فتك بها البؤس والفقر، كانوا يحلمون بالثروة تنهال عليهم من قاع الأرض، وتجعلهم يرتاحون من عناء حرث الأرض وزرعها وهمّ الحصاد ونقل المحاصيل والذهاب للأسواق البعيدة من أجل التبضع والبيع والشراء.. لكنهم أصبحوا ذات صباح ليجدوا أن بيت الأجانب تم تفكيكه، وأن الآلات اختفت، والأحلام تسربت، حتى المجنون (جلون) اختفى فجأة، وكأنما رحل مع الراحلين، وقيل بعدها “إن الكنز الذي جاء من أجله الأجانب كان هو (جلون) وإنه عوضهم عن مصادر الطاقة الموعودة”، بينما زعم آخرون ـ بعد شهور على الحادثة ـ أنهم شاهدوا المجنون (جلون) على شاشة التلفاز برفقة احد الأجانب يتحدث ويرطن بلغة الفرنجة.. بينما ردد أحد كبار السن:
ـ يا ويلك يا بلدة (الخربانة)..! سيبقى حالك خرابا ما دام زهرة شبابك يسرقه الأجانب، وقد كان بيننا نحن العميان وكنا نتهمه بالجنون..!
ويشهد تاريخ البلدة أن بنيانا كان يقطنه (جلون) بقي فارغا من الآدميين، يتوجس أن يقترب منه أهالي بلدة (الخربانة) كبارها وصغارها مخافة أن تنتقل إليهم عدوى الجنون، بينما ما زال البؤس والجهل والشكوى ملح وطعام أيامهم.. لكن الذي لم ينتبه إليه أهالي البلدة هو قبر والد (جلون) الذي اكتسى حلة خضراء وأصبح يانعا مشرقا بعد أن كانت الأشواك الغبراء تكسوه لسنوات طوال..!
المصطفى سالمي