في الغالب أترك يديّ سائبتين، ولا أرهنهما بعلبة التبغ، كما يفعل زميلي في المكتب، أو بالقلم المُطقطق كما يفعل رئيسي في العمل، أو بمفتاح السيارة الكبير، كما يفعل رب العمل.
أتركهما طليقتين، لا ساعة ولا خاتم ولا سوار، و لا حتّى مسبحة. يداي تعشقان الحرية و السيبان، وعندما ملّتا جو الحرية هذا، اكتسبتا عادة سيئة، سرعان ما تنهمكان فيها، بعد سريان عطالتهما القاتلة، في غفلة مني تسارعان إلى لوح الهاتف و تعيثان فيه تقليبا وشقلبة.
أسترق النظر إليهما، فأرى سبابة اليمنى تقود كتيبة التقليب . في غالب الأحيان تصعد إلى أعلى اللوح و أسفله، يمينه و شماله، في خفة لا تضاهيها فيها باقي الأصابع الأخرى.
ذاكرة الهاتف عندي مهرجان كبير من الناس والأرقام، يزيد على المائتي رقم، كلما تحسست جيبي أطمئن إلى الملأ من الناس، الذين أحتفظ بهم في ذاكرة الهاتف، و لا أحفظ أسماءهم في ذاكرتي.
استهوتني لعبة التشريق و التغريب، و رحت أقلب بدوري وسْط الحشد الكبير، لعلي أصادف أحدا، أعرفه و يعرفني.
المكان غاص، غاص جدا إلى درجة لا تطاق، بعضهم يُعرض عني و يصعّر لي رقمه، وبعضهم يحاذيني كأنه لا يراني ، أو كأنني غير مرئيّ. لم أستسلم لهذا الجفاء المبيّت، و قررت أن أمضي الأمر إلى آخره، فاستوقفت أحدهم، ظننت أني أعرفه.
ـ السيد “س” ؟
ـ نعم !
ـ هل أنت السي “س” الذي ….!
وقبل أن أتمم الملفوظ الثالث، أغلق هاتفه و انصرف.
خفّفت من وقع الصدمة و الاصطدام ، و رسمت على هاتفي ابتسامة ناشفة، أستغور ماء وجهي.
تطلعت إلى وجوه الحضور، أزن مكانتي ووجاهتي الاجتماعية، كنت على أتم ما يكون الاستعداد لأردّ تحية بأحرّ منها، أو أجيب على مكالمة ، أو حتى أرد على رسالة نصية قصيرة، كيفما كان مصدرها.
كان أخوف ما أخافه، أن لا يسمع أحد رنيني، أن أظل وحيدا معزولا خارج التغطية، كنت مُصرّا على أن يتعرف علي أحدهم ، واحد على الأقل، ثم جاء الفرج و رنّ هاتفي.
اقتربت مني سيدة في الثلاثين أو الأربعين ، لم أعد أُميّز، وجه زجاجي ملون صقيل، هاتف في اليد، مشدود بالسبابة والإبهام، و الفم حبة فراولة حمراء صغيرة، بدا الغنج واضحا.
دنت مني وغمرتني بعطرها الباذخ . كنت متأكدا أنني أعرفها، أو أنها تعرفني، وجه مألوف تحفظ الذاكرة رقمه. كنت واثقا من ذلك، وإلا فما الذي جاء بها إلى مهرجان معارفي.
ـ أرجوك ! هل تعيرني هاتفك؟ثوان ،بضع ثوان فقط ، تعرف ! خذلني الرصيد…
قالت جملتها الأخير ، بعد أن قسمت الفراولة نصفيين متساويين تماما.
عبد الحكيم برنوص