صدرت حديثاً عن منشورات المتوسط بإيطاليا، الرواية الأولى للكاتبة الإماراتية صالحة عبيد، حملت عنوان “لعلَّها مزحة”. حيثُ تتقاطع في الرواية شخصيتان رئيستان، «مسلّم» العجوز المصاب بخدش غامض، و«ميرة» جارته في حي تكاد فيه كل البيوت أن تكون بيتاً واحداً، والتي تحاول أن تفك غموض خدشه. من هنا تذهب تلك الشخوص في رحلة زمانية ومكانية، تستقصي أحوال المكان والإنسان الإماراتيين وتحولاتهما في فترة زمنية تمتد منذ ثلاثينيات القرن العشرين وصولاً إلى الألفية الثالثة.
تعبر كلُّ شخصية من الشخوص الرئيسة، في مضمونها، عن شكل جيل من جيلين متقابلين، عاشا في تلك الفترة وتماسّا معاً على الرغم من التغير الشمولي في مستوى الآمال والأفكار لكل منهما.
جاء الكتاب في 224 صفحة من القطع الوسط.
هناك جيل ثقافي جديد في الإمارات يشتغل على مشروعه الأدبي بهدوء، مستعينا بوعيه وبقراءاته وبتأملاته الشخصية. الكاتبة الإماراتية صالحة عبيد واحدة من هذه التجارب التي تمتلك صوتها الخاص.
زكي الصدير – صحيفة العرب اللندنية
تعد الكاتبة صالحة عبيد حسن من الأسماء الجديدة، وتتميز قصتها بنزوعها إلى الابتكار، والجدة، من خلال لغة خاصة، تشكل علامتها الفارقة، وتعد أحد معالم قصص الكاتبة عموماً، وهو ما بدا في مجموعتها القصصية الأولى زهايمر.
إبراهيم اليوسف – صحيفة الخليج الإماراتية
من الرواية:
باب التهشيم
الشارقة 1982
يتقابلان الآن .. ويشعر بأن الفارق بينهما في الروح أضحى ضئيلاً، يشعر أيضاً بأنه يشبهه، ويودّ لو أنه يستطيع أن يمدّ له يده بالمغفرة، لكن تلك الحواجز نفسها بقيت بينهما، ملامح والده “إبراهيم” الضبابية، ضحكة أمّه “خديّة”، غمّازة “نجلاء” وأصوات الصغار .. يتحشرج صوت “هلال” في طلبه لرشفة ماء .. ويقابله هو بالجمود .. يكرّر “هلال” طلبه .. ثمّ يصمت في إنهاك .. يصمتان معاً .. يعود “هلال” ليهذي بعيداً عن الماء .. يسأل عن “بادما” أو “بدور” .. و”أحمد” .. يحاول أن ينتصب بجسده، لكي يواصل بحثه البائس عنهما، لكنه يتهاوى .. يراقب التهاوي في وجوم .. يعود “هلال” مرّة أخرى إلى استجداء الماء .. يرفع هو الكوب المعدني المليء بالماء ببطء، يحاول أن يقرّبه من الشَّفَتَيْن اليابسَتَيْن دون يلمسهما .. يرتفع “هلال” من تهاويه في محاولة بائسة، ليرشف ما اقترب، يرتجف مستجدياً بنظرته، لكنه يتجاهل النظرة، يُبعد الماء بغتة، يعيده إلى جانبه، يحاول “هلال” أن يرفع يده، لكنها تخذله كبقية جسده، شعر بأنه يستطيع الآن أن يعاقبه كما اشتهى طويلاً، ماذا لو أنه يتركه يجفّ؟! معاكساً الطريقة التي قَتَلَ “هلال” بها والده .. الجفاف عكس الغرق، ستكون نهاية عادلة .. دخلت “جواهر” للغرفة مقاطعة .. انتبهت للحشرجة ومعناها ..
– ألا تسمع بأنه يريد ماءً، يا “مسلّم”؟
– لقد كنتُ شارداً.
قابلتْ إجابته بنظرة شكّ وهي تقرّب الماء من شَفَتَي “هلال” الذي ارتشف الماء في وهن .. تعيد تسجية جسده الهزيل الذي لم يعد فيه ما يشي بالحياة، جلدٌ رقيقٌ داكنٌ وخشن، ملتصقٌ بعظامٍ هشّة، هذا ما جاؤوا لهم به، بعد أن وصلهم نبأ أن “هلال” .. هناك في تلك الأراضي البعيدة، يطوف في شوارع “بومباي” كالمجنون .. بحثاً عن “بادما” و”إبراهيم الصغير” .. “بادما” الصبية الصغيرة الفاتنة، التي سلبت قلبه فوراً .. بعد واقعة الحريق وسفره إلى الهند مع “بو سند”، هناك، كانت تمرّ يومياً مع الفتيات أمام البيت الصغير الذي قطنه “هلال” كمسكن ومكتبٍ معاً، يقوم فيه بشؤون “بو سند” في ترتيب ما يلزم لنقل بضائع بلاد التوابلِ إلى الخليج، عرفها كصبيّة بعينَيْن عسليَّتَيْن، وروح حلوة .. تكشفها ضحكتها التي تصدح بين الرفيقات، راقبها “هلال” منذ صدفته الأولى بها، تعلّم اللغة الأوردية في تمجيدٍ لنبرتها التي جعلت من تلك اللغة كقطعة من السّكّر بين شَفَتَيْن رفيعَتَيْن تخفي صفّاً من الأسنان الصغيرة التي تشعّ كل ما ضحكت، لتمنح تلك السحنة الحنطية بريقاً إضافياً .. كان يشعر بأنه يوازيها في العمر، كلّما مرّت به .. بأنهُ يتحرّر من ثقل أعوامه التي قاربت الأربعين، فتاةُ السادسة عشرة، تعيدهُ معها مراهقاً .. تُشعل فيه ما أشعلتْه غمّازة “نجلاء” قبل سنوات .. يتعمّد أن يخرج، ليتقاطع مع مرورها .. وأن يقف ليتبادل الأحاديث مع كل مَنْ قد يتقاطعون مع الطريق، لكي لا يتكشّف لها أمر مراقبته والتّتبّع، حتّى كان أن جاء حديثه الأوّل معها، جذبتْها عيناه الغائرتان ورائحة التبع وذلك الهزال الداكن، شيءٌ ما فيه، أشعل فيها الشفقة العطوفة الممتزجة بشعور غريب آخر .. ظنّتْه حبّاً .. لأن الفتيات بقينَ يتهامسنَ بأن اهتمامها الغريب به والفضول هو شيءٌ من الحبّ، فكان أن جرت الأمور سريعاً .. لقاءٌ مع والدها الذي اشترط مهراً كبيراً، سدده “هلال” في حبور من ما كان يتقاضاه من إكراميّات “بو سند” الكثيرة، التي كثّفها له بعد أن بقي قائماً بالأعمال معه وحيداً نتيجة لسفر بكْره “سند” إلى القاهرة، فيما اشترطت هي أن لا تذهب معه إلى تلك البلاد الساحلية البعيدة، تريدُ أن تبقى هنا بالقرب من والدها الوحيد والأشقّاء الصغار بعد وفاة والدتها قبل سنوات طويلة، شعر “هلال” بأن شرطها هذا .. يحرّره نهائياً من ذلك الرابط الهزيل بالوطن المفترض، لماذا يعود؟! .. ألذكرى الحريق؟ لقيدِ الفقرِ الأزلي؟ .. لمَنْ بقي ليُذكّره بهزاله القديم؟ بحبال “جابر”؟ بصفعة “إبراهيم”؟ وبجسده المتفجّر؟ شعر بأن “بادما” تعيد تأثيث عالمه من جديد .. بضحكتها الفاقعة وهذا الجسد الطّريّ اليافع، وعلى سبيل تأكيد فكرة التأثيث هذه، كان أن أسمى صغيرهما الأوّل الذي جاء بـ “إبراهيم” .. لقد أعاد “إبراهيم” للحياة من جديد في تصوّره، أراده أن يكبر هنا، بعيداً عن الموت، مَحميّاً بالوفرة والألوان .. على اليابسة، بعيداً عن الأعماق الغادرة .. بجسد صحيح وحَيّ، جسد لن تنفجر رئتاه كبالون، لن يسمح بذلك، كان يتذكّر “مسلّم” بين حينٍ وآخر، وينساه في غالب الأحيان، تخلّى عن غيظه القديم، خصوصاً بعد أن جاء “إبراهيم الصغير”، أمّا بالنسبة إلى “بادما”، فقد كان الأمر مختلفاً .. لأن الفضول الوهّاج بهذا الكهل الداكن، راح يفترُ يوماً بعد آخر، ذوى نزقها الطفولي، وأصبح استفهاماً عمّا فعلتْه بنفسها، ما الذي تفعله هنا، في هذا المنزل مع هذا الغريب الذي يتمتم بكلمات لا تفهمها في غالب وقته؟ راحت تنفر من هزاله، ومن صوته ورائحة التبغ، ولمّا جاء “إبراهيمُ” الصغير، أدركت الاختلاف الفادح بين الفضول والحبّ الصادق .. بين الشغف والشفقة .. وقرّرتْ بعد شهرها الأوّل من ولادة هذه الصغير، بأنها ستنتظرأن يُتمّ عامَهُ الرابع قبل أن يختفيا معاً .. وكان أن حدث ذلك في يومٍ كان فيه “هلال” عائداً إلى البيت الصغير الذي اكتراه بعيداً بعض الشي عن المكان الذي كان يعمل فيه، ويعيش سابقاً، فإذا به يدرك الفاجعة، ذلك الاختفاء المباغت لـ “بدور” كما أسماها بعد الزواج، وللصغير، اجتاحتْه العتمة، خرج من فوره إلى الأب الذي أفجعه ما أفجع “هلال” .. فَمَنْ لـ”بادما” غيرهم؟ أهمل “هلال” عمله مع “بوسند” الذي كان هو الآخر موشكاً على أن يصفّي أعماله، ويعود بشكل نهائي إلى الشارقة بعد فاجعة ابنه، راح يجوب الطُّرُقات بحثاً عن “بدور” و”إبراهيم”، سافر بين المُدُن، انغمس في التّنوّع المريع على تلك الأرض، فتّش في طبقاتهم، وتعلّم من اللغات ما قد يُعينه على البحث في بلد غزارة الألسنة هذا، تمرّ السنوات كالقطارات السريعة، تحمل ما تحمل من الملامح والألوان دون أن يجدها .. سقط مريضاً في بيته المعتم، بين الحمّى والهذيان، حاول مرّة أن يتجاوز هذا السقوط بأن خرج في نوبة بحث مهتاجٍ أخيرة .. فكان أن وجده وجهٌ مألوفٌ من الوجوه القديمة الذي استنكر عليه هذه الحال التي وصل لها، عاد به إلى الشارقة، باحثاً عن “مسلّم” الذي يعرف أنه آخر مَنْ تبقّى له من دمه .. “مسلّم” الذي كان بدوره قد أثّث حياةً جديدة معتاداً على ذلك الخدش. انتقل إلى أحد الأحياء الجديدة التي راحت تتناثر بعيداً عن الساحل، أحبّ هذه الفكرة، فكان لهُ بيتٌ مُنح له بعد أن أنهى خدماته الشرطية نتيجة لما أصاب عينه، تجاوز غصّة الدم .. تزوّج “جواهر” فور طلاقه من “علياء” التي بمجرّد زواجه منها شعرت “عائشة ” أمها بأنه بات في وسعها أن ترتاح أخيراً على هذه الصغيرة التي وُلدت لأبٍ اعترف بها متأخّراً .. متأخّراً جدّاً على أخوةٍ، لن يتقبّلوا أبداً بينهم “بنت الهندية” التي لم يشفع لها أنها كانت المطبّبة المعتمدة في الحَيّ، لما تعرفه من مهارات أولى كانت قد تعلّمتْها في بلادها .. الأمر الذي ساعدها هنا على كسب الرزق اليسير، ممّا تعوده من بيوتٍ، لتخفّف من آلام مرضاهم .. تركوا لهم ذلك البيت القديم مستأثرين بحصّة الميراث الضخمة، البيت الذي باعتْه بعد سنوات من زواج ابنتها عن طريق “مسلّم” تاركةً بدورها قبل وفاتها له ولجواهر ما مكّنه من شراء محلٍّ صغير في سوق الجبيل للخضار والفواكه، يبيع له ما تيسّر فيه من الأصناف والأشكال الملوّنة التي راحت تستورد بكثافة في أزمنة الازدهار التي بدأت آثارها تظهر من حولهم .. في شوارع مسفلته، ومبانٍ أخذت تكبر شيئاً فشيئاً .. وأسواق تبيع من الأصناف شتّى، جلبت معها بدورها أصنافاً شتّى من الملامح والألسنة .. كان ما يقلقه حتّى عامه ذاك هو تأخّره و”جواهر” في الإنجاب .. خاف أن يكون ذلك عقاباً له على روح “سند” التي سلبها .. حتّى عاد “هلال” من جديد قبل شهر .. كقيح في الذاكرة .. أخذ ينزّ من جديد.
– ما الذي أصاب عينكَ؟
يسأله “هلال” في لحظة تركيز من لحظاته النادرة بين هذيانه المتواصل .. يشيح بوجهه عنه .. يغمض “هلال” عينَيْه دون أن ينتظر جواباً، تهمس له “جواهر” التي كان قد أخبرها عن حكايته الشائكة مع “هلال”.
– عليكَ أن تنسى، يا “مسلّم” .. أن تنسى وتسامح.
– لا أملك ذلك.
– مَن الذي يملكه، إذنْ.
يقوم ليمضي خارج الغرفة، إلى ذلك الفناء الضّيّق للمنزل، يستمع لصوت مركبةٍ عابرة، يدرك أنه جارهم الشّابّ وقد عاد إلى المنزل .. يقترب من الباب الخارجي .. يستمع للخطوات الآيبة .. إلى ذلك المنزل المجاور، لا بدّ أن زوجته أو والدته ترافقانه .. يغمض عينَه السليمة .. يشعر باختناق مباغت .. أراد أن يتنفّس .. لكن شيئاً ما في الأجواء كان يبدو لكأن الهواء قد جفّ .. تناديه “جواهر” في صوتٍ مرتبك .. يهرع من فوره إليها .. يرعبه اتّساع بؤبؤ “هلال” الخالي من الحياة .. ومرّةً أخرى، بدلاً من أن يشعر بالخلاص الأخير .. تكثّف الرعب الأوّليّ إلى غضب.
صالحة عبيد: كاتبة من الإمارات مواليد 1988، صدرت لها ثلاث مجموعات قصصية، آخرها «خصلة بيضاء بشكل ضمني»، الحاصلة على جائزة الإمارات للشباب عن فئة الإبداع الأدبي وجائزة العويس للإبداع.
تكتب صالحة مقالاً أسبوعياً في صحيفة الرؤية الإماراتية.
طنجة الأدبية