تميزت الدورة الثانية لمهرجان الجونة السينمائي بالقيمة النوعية للأفلام المشاركة فيه، إذ تمكن جمهور المهرجان من مشاهدة أفضل ما أنتج عالميا في عروض أولى أو ثانية خصوصا في المنطقة العربية التي استطاع المهرجان احتكار العرض الأول لأفلام مهمة بها ومنها من فاز بجوائز في مهرجانات عالمية ككان وبرلين والبندقية ولوكارنو.
“أرض متخيلة” فيلم مختلف
يذهب بنا مخرج فيلم “أرض متخلية” للسنغافوري إيوا سيوا هوا، الفائز بالنجمة الذهبية لمهرجان الجونة، في مسارات غير متوقعة ولا ننتظرها كمشاهدين مكسرا أفق انتظاراتنا وهادما إياها كليا، فهو في فيلمه هذا من تلك النوعية من المخرجين الذين يأخذون جنسا سينمائيا ليعيدوا صوغه بشكل مختلف واللعب فيه حسب مايمتلكونه من خلفيات غير تلك السينمائية التي يتمكنون منها جيدا، وإذا علمنا أن مخرجنا قادم من ميدان الفلسفة التي درسها لسنوات سنتفهم مسار فيلمه ونعشقه.
من المعتاد أننا حينما نجد أمامنا مفتشا للشرطة إضافة لاختفاء أشخاص ويبدأ التحقيق فنحن أما فيلم بوليسي كلاسيكي منبني على التشويق وبه كل الحبك البوليسية المعروفة، هنا المفتش موجود وبداية الحبكة حاضرة لكن لاشيء مما سيلي يشبه الأفلام البوليسية التقليدية. إذ سندخل مع الشرطي ثم في فلاشباك طويل مع المختفي في عالم أشبه بالكابوس فكلا الشخصين يعانيان من الأرق والمفتش في لحظة من الفيلم يصبح حلما للمختفي وتختلط الأوراق لكن المخرج يكون قد مرر رسالته التي أراد في قالب فني وجمالي مكنه من الحصول على الجائزة الكبرى(الفهد الذهبي) في مهرجان لوكارنو السينمائي المعروف بكونه مكتشف المواهب الكبيرة في السينما والذي عرف مولد وبدايات مخرجين عالميين كبار.
فيلم يستحق أكثر من مشاهدة واحدة.
“الوريثتان” فيلم حميمي وإنساني
فيلم “الوريثتان” للمخرج الباراغوايي ماتشيلو مارتنيسي، الفائز بالنجمة البرونزية لمهرجان الجونة، يتميز بكونه مكتوب بشكل جيد، فكل تفصيلة فيه منسوجة بدقة وحرفية النساج الذي لاتفلته التفاصيل . لكن يظل التميز في شخصية تشيلا المكتوبة بروية وعمق، الكهلة سليلة عائلة أرستوقراطية ووريثة ديون وإفلاس عائلتها هي وتشيكيتا رفيقتها في المنزل وشريكتها في الإرث المنتمية لنفس العائلة، هذه الأخيرة التي كانت دائما كالوصية عليها والحامية لها بحكم شخصيتها القوية عكس تشيلا ذات النفسية الهشة والمهزوزة والشخصية الضعيفة، وسيظل الوضع على هذا الحال إلى أن تدخل تشيكيتا للسجن بتهمة الاحتيال فتبدأ شخصية تشيلا في التَّحول نتيجة خروجها القسري للواقع ونتيجة احتياجها المادي الذي أدى بها وبشكل غير مخطط له لتوصيل الجارات المُسٍنَّات في مشاويرهن في سيارتها القديمة المتهالكة مقابل أجر الأمر الذي سيكون سببا في لقائها بشابة منطلقة تعيش حياتها بالطول والعرض والتي تقلب حياة تشيلا رأسا على عقب، وحين تخرج تشيكيتا من السجن وتعود للمنزل المشترك لن تجد حتما تشيلا التي تركتها بل شخصية اخرى مختلفة تماما.
وقد استحقت الممثلة أنا برون عن أدائها المبهر لدور تشيلا جائزة أفضل ممثلة بمهرجان برلين السينمائي، وفاز الفيلم في نفس المهرجان بجائزة “ألفيرد باور” وجائزة “الفيربيسي” التي تمنحها (اتحاد نقاد السينما الدولي) بمهرجان برلين أيضا.
فيلم حميمي ذو لمسة إنسانية لا تخطئها العين السينفيلية أبدا.
“الرجل الذي فاجأ العالم” ..إرث السينما والأدب الروسيين
أبدا لاتُخيب ظننا الأفلام القادمة من أوروبا الشرقية عموما ومن روسيا على الخصوص، بلد السينمائيين الكبار والسينما العريقة والمتميزة والمختلفة. وقد كان ذلك حال فيلم” الرجل الذي فاجأ الجميع”، الذي نال تنويها مستحقا من لجنة تحكيم الفيلم الروائي الطويل بمهرجان الجونة السينمائي. إذ جعلنا المخرجان ألكسي شوبوف وناتاليا ميركولوفا نعيش لحظات من السينما الحقيقية والمتشبعة أيضا بإرث الحكي الجميل الموروث عن السينما والأدب الروسيين، وأي سينما هي تلك، وأي أدب أفضل من الأدب الروسي الكبير.
يحكي لنا المخرجان في فيلمهما هذا قصة رجل في الأربعينيات من عمره يشتغل كحارس غابوي ويقطن بإحدى القرى السيبيرية النائية ويعيش حياة سعيدة مع زوجته وابنه وأب زوجته العجوز الخَرِف، في انتظار أن تلد الزوجة الحاملة مولودا جديدا، إلى أن يعلم أنه مريض بالسرطان وأنه في مراحله الأخيرة وأن أيامه في الحياة أصبحت معدودة، وبعد كل المحاولات مع الأطباء ورغم أن التحليلات قد قطعت الشك باليقين، تصر زوجته أن تذهب به أخيرا عند مشعودة لترقيه لكن لا فائدة، هذه المشعوة نفسها هي التي ستروي للمريض قصة إوزة ذكر طارده الموت فتنكر بين الإوزات الأنثى فلم يعرفه الموت وتاه عنه. من هذه النقطة في الحكي والسرد الفيلمي سينقلب الفيلم رأسا على عقب ونجد أنفسنا مع شخصية من تلك الشخوص التي لايمكن أن يرسمها ويحيكها بتلك الدقة والحب سوى مبدعون متمرسون، وأحداث لايتخيلها سوى من تمرس على الحكي وعرف دروبه، إذ سيقرر إيغور المريض ومن لحظة سماعه القصة من العجوز المشعوذة التي اعترفت له بقلة حيلتها وهي تحتسي قنينة من الفودكا، أن يتنكر في زي امرأة الأمر الذي سيخلق المتاعب له ولأسرته كلها، خصوصا أن محيطهما جد محافظ ولايقبل أن يتحول رجل لأنثى في قرية تعتز بذكوريتها.
رغم أني حكيت جزءا من القصة وبعضا من أحداثها فإن مايُرى على الشاشة لايُحكى بل يجب مشاهدته بلغة الصورة وبلاغتها التي لا تُحكى. على العموم فشخصية إغور ومنذ تحوُّلها إلى أنثى ستُضرب عن الكلام وفي نفس الوقت ستُصٍرُّ على عدم التراجع عن قرارها رغم كل محاولات من يحيطون به لإثنائه عما أقدم عليه، إذ ستطرده الزوجة في بادئ الأمر من المنزل ثم سيتعرض للضرب والمهانة من قبل أهل القرية الذين سيطالبونه بالرحيل، ليأتيه ابنه البالغ من العمر قرابة العشر سنوات أو يزيد طالبا منه أن يخرج من مخبئه ويخبر الناس انه رجل، لكن لاجدوى من المحاولة.
التمثيل بالفيلم جيد خصوصا فيما يخص يفجيني تسيغانوف في دور إيغور المريض بالسرطان، بحيث استطاع هذا الممثل التحول من مرحلة المرض الأولى التي كانت فيها الشخصية تعاني لكن بشكل يتقبله الكل حولها رغم تعاطفهم معها، ثم كيف سينقلب لشخصية أخرى تماما بعد أن يصير أنثى وكأننا أخذنا ممثلا وجئنا بممثل آخر.
الفيلم مكتوب بشكل جيد الأمر الذي يجعل ذلك يظهر بجلاء على الشاشة فلا خواءات درامية هنالك وكل مشهد موضوع بعناية في مكانه بشكل يجعل تسلسل الأحداث وبناء الشخصيات يصل قمة الإتقان، هاته الأخيرة التي كتبت بدقة وبإحساس إنساني كبير خصوصا شخصية إيغور وشخصية زوجته، دون نسيان شخصية أب الزوجة الذي نراه في البداية يشرف على الخَرَفِ والعته إلى درجة أن ابنته تقول لإيغون أن أباها أصبح عالة عليهم، لكن هذه الشخصية ستنقلب تماما بدورها حينما يبدو لها أن كل الأمور قد تغيرت من حولها خصوصا في المنزل حيث سيساعد ابنته في أعباء المنزل بغسل الصحون وفي أشياء أخرى، ثم سينبري بعد ذلك للدفاع عن إيغور في وجه من سيعتدون عليه من سكان القرية بشهره السلاح في وجوههم وتهديدهم حتى ينصرفوا.
بعض الأفلام تشكل حالات جميلة ومختلفة وفيلمنا هذا من تلك الأفلام.
“يوم الدين” حدث سينمائي عربي
يمكن القول وبدون تحفظ بأن فيلم “يوم الدين” للمخرج المصري الشاب أبو بكر شوقي ، الفائز بجائزتي “سينما من أجل الإنسانية” و جائزة أفضل فيلم عربي بمهرجان الجونة، من أهم ما أنتج عربيا في السنوات الماضية ، ومما يجعله مختلفا ابتعاد مخرجه عن الادعاء الشكلاني المبالغ فيه والذي يسقط فيه البعض، وإنسانيته التي لاتخلو منها لقطة أو مشهد من الفيلم، على العموم فهو فيلم جد حميمي وجد صادق ، نظرا لأن المخرج انطلق من تجربة حياتية حقيقية ونسج حولها حكايته البسيطة والعميقة إنسانيا في نفس الآن.
اعتمد المخرج في فيلمه هذا على ممثلين هواة أو على الأصح غير ممثلين يقفون أمام الكاميرا لأول مرة وفي أدوار رئيسية، مدعما إياهم بممثلين محترفين في أدوار ثانوية لكن أساسية ولايستغني السرد المحبوك بدقة وحرفية وعشق عنها.
حينما نتجرأ على القول بأن وجهة نظر المخرج السينمائي تكمن في الزوايا التي يضع فيها كاميراه وحجم اللقطات التي يختارها فإن هذا الكلام ينطبق بشدة على فيلم “يوم الدين”، فبقدر ما يتماهى أبوبكر شوقي مع شخوصه ويتبنى قضاياها من خلال مشاهد تلتصق فيها الكاميرا في لقطات مقربة للشخصيتين الرئيسيتين في لحظات الفرح والانطلاق والحنين والحيرة، فإنه يفضل في لحظات الحزن المكثف أن يبعد كاميراه ويصور هاتين الشخصيتين في لقطات عامة تبتلع فيها الصحراء الشخصيات لنراها كمشاهدين كخيالات هلامية والأصفر الصحراوي يحيط بها ويشيئها، جاعلا مسافة بيننا وبينها ومانعا عنا كمشاهدين التماهي الفج معها، وهو حينما يفعل ذلك فلِيُطَلِّقَ الميلودراما المبتزة للعواطف والتي تغري بها مثل هاته التيمات.
من يشاهد فيلم “يوم الدين” ولديه عين سينفيلية سيعلم أنه أمام مولد مخرج مهم قادم بقوة وسيقول كلماته في القادم من الأفلام، وما التصفيقات الطويلة والتهليلات التي نبعت من جنبات مسرح الجونة في نهاية عرض الفيلم سوى دليل على أن أبوبكر شوقي قد ربح رهانه الفني بفيلمه الجميل هذا الذي سيسيل كثيرا من المداد حوله مستقبلا.
“دوغمان” لماتيو غاروني فيلم بسيط وعميق في آن
تميز فيلم “دوغمان” للمخرج الإيطالي ماتيو غاروني الذي عرض ضمن العروض الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي خارج المسابقة، بكونه فيلما بسيطا وعميقا في آن واحد، وتتجلى بساطته في كونه يرتكز على قصة ليس فيها افتعال وأحداث تُحكى بشكل خطي لا يكسره أي شائب، فيما يتجلى عمقه في غوصه في أعماق النفس البشرية بشكل يذكرنا مثلا بشخوص دويستيوفسكي، خصوصا الشخصية الرئيسة لوتشيو مربي الكلاب ، هاته الشخصية التي أداها الممثل مارشيلو فونتي بحرفية وعمق كبيرين استحق عنهما جائزة أفضل ممثل خلال الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي، كوننا نقرأ كل معاناة هذه الشخصية في تعابير وجه الممثل، إذ هي من تلك الشخصيات السلبية التي تتلقى الضربات باستمرار ولا ترد عليها، لكن لوتشينو سينفجر في النهاية ويرد الاعتبار لنفسه رغم أن نفسيته لايبدو أنها قد ارتدت لسويتها بل ازدادت تعقيدا ومعاناة.
ويقول ماتيو غاروني عن سبب اختياره لمارتشيلو فونتي لأداء الشخصية الرئيسية لفيلمه : “إنه يمتلك وجها من تلك الوجوه القديمة الطراز، ولديه نظرة تتميز بالحنان والعطف والإنسانية، ويعرف كيف يمثل بعينيه، رأيت فيه شبيها لباستر كيتون، ولا أظن أن ممثلا آخر كان ليلعب الدور أفضل منه، إنه يجسد آخر تجليات البراءة”. ويمكن لنا أن نؤكد هذا إذ أن مارتشيلو فونتي الذي حضر مع الفيلم للجونة وتفاعل بعفوية مع جمهور المهرجان يبدو ممتلكا لكل هذه الصفات.
يرجع ماتيو غاروني في فيلمه هذا لأجواء مشابهة لفيلمه”غومورا”، أجواء العنف والمخدرات والشخوص الهامشية، وحتى الفضاءات التي يختارها توحي بتلك الهامشية المطلقة والبعد عن المركز “السَّوِي” والمُرفَّه.
على العموم فإننا نجد في فيلم “دوغمان “أجواء طبعت مسارات كبار المخرجين الإيطاليين وميزت السينما الإيطالية عن غيرها من السينمات، فحتى والمخرج يغرق ويغرقنا مع شخصية لوتشينو السلبية التي تعاني رغم حبها للناس وللحيوانات إلى درجة يغامر فيها بإنقاذ حياة كلبة رغم مايكتسي ذلك من مخاطر، فإنه لاينسى أن يضع لمسات من الكوميديا في مسار حكيه يخفف بها من ثقل التيمة وقساوتها.
“المذنب”: تشويق في فضاء داخلي
بفيلمه الروائي الطويل الأول “المذنب”، الذي عرض ضمن فعاليات مهرجان الجونة السينمائي، استطاع المخرج الدنماركي تحقيق التحدي بصنع فيلم يعتمد كثيرا على المؤثرات الصوتية والكلام وقوة أداء ممثل أساسي وحيد حمل ثقل الفيلم على ظهره طيلة لحظات الفيلم.
تدور كل أحداث فيلم “المذنب” في فضاء داخلي، رغم أن كل الأحداث التي صاغها المخرج بشكل تشويقي لاهث كانت تحدث في الخارج في جو ممطر، والتي جعلنا المخرج نعيش معها كمشاهدين صحبة الشخصية الرئيسية وهو شرطي يعيش مشاكل في عمله وتم تنقيله للعمل المكتبي لتلقي مكالمات المواطنين الذين يجدون أنفسهم في مشاكل، وإذا به يجد نفسه أمام مكالمة تقلب مسار اهتمامه وتجعله يركز معها دون غيرها كون صاحبتها تشتكي من تعرضها لخطر داهم لتتطور الأحداث بعد ذلك في مسار غير متوقع.
وكان تحدي المخرج الدنماركي في فيلمه هذا هو كيف أن يمسك بخيوط السرد والتشويق دون أن ينقل كاميراته للخارج، وقد نجح في ذلك بشكل كبير متفوقا في جعل فيلمه من بين تلك الأفلام التي تدور في فضاء مغلق واحد ويكون الكلام والحوار هو نقطة قوتها الكبرى.
“يوم أضعت ظلي” و”ريح رباني” الإيديولوجيا المبطنة في قالب فني
إذا كان فيلم “يوم أضعت ظلي” للمخرجة السورية سؤدد كعدان الذي عُرض ضمن مسابقة الفيلم الروائي الطويل بمهرجان الجونة مقبولا فنيا بصفة عامة فإن خطابه الإديولوجي والسياسي يجعلنا نطرح عدة تساؤلات حول الخطاب الإيديولوجي لمخرجته .
لكن رغم كل شيء يشفع للمخرجة سؤدد كعدان الفائزة بجائزة “لويجي دي لاورينتيس” للعمل الأول بمهرجان البندقية، كونها اشتغلت في فيلمها بأسلوب فني ضاع أو كاد مع هذا الخطاب إيديولوجي.
ينبني الفيلم على فكرة فنية تتمحور على كون من يهبون نفسهم للنضال ولايعودون يخافون من “القوة الغاشمة” للنظام ومن “قمعه” يفقدون ظلهم في انتظار أن “يستشهدوا”. وهكذا نرى جلال منذ بداية الفيلم غير مكترث بالعسكر ولا برشاشاتهم ويخاطبهم بدون رهبة ولا خوف هو الفاقد لظله، ليتم اغتياله بعد ذلك ، لتفقد حبيبته بدوره ظلها وهي تحمل جثته بين يديها، أما سناء الشخصية المحورية في الفيلم والتي تورطت في معمعة هذا الصراع بدون رغبة منها وهي تأمل فقط في الحصول على قنينة غاز من أجل طبخ الطعام لطفلها فتكون آخر من يفقد ظله في الفيلم لتتخلص من الخوف الذي طاردها طيلة لحظاته ومنذ البداية، ونجد بالفيلم حوارا يلخص هذه الفكرة حينما يقول جلال لسناء أن “مايحدث لنا عكس ما حدث في هيروشيما، حيث لم يعد بالمدينة سوى ظلال للناس الذين اختفوا فيما نحن تختفي ظلالنا”.
طبعا يمكن استشفاف الطابع الشبه فنطازي للفيلم ونوع من الواقعية السحرية التي تتخلله مع مشاهد شاعرية تدع فيها المخرجة الشابة لكاميراتها العنان لتمسح بحنان على جذع الأشجار والطبيعة عموما، وكأننا بها متأثرة بأسلوب طاركوفسكي في هذا السياق، فيما تلجأ في لحظات أخرى تطغى فيها الأعصاب التشنجة لاستعمال كاميرا محمولة على الكتف ذات حركات عصبية وغير ثابتة.
أما الفيلم الجديد لمرزاق علواش فجاء مخيبا للآمال المعلقة على مخرج كبير وعلى مساره المتميز، فهو فيلم بدون عمق فني وبشخصيات تبدو كرطونية وتمثيل متذبذب، لاشيء أعطانا إياه علواش في هذا الفيلم كي نتشبث به كمحبين لأفلامه السابقة. وسأعيد ما كتبته أكثر من مرة والذي ينطبق على فيلم علواش “ريح رباني”، بأن بعض المخرجين العرب حين يتناولون قضايا تتعلق بالتطرف الديني وبالجماعات الإسلامية لايدعون إديولوجيتهم خارج ماهو إبداعي الأمر الذي يجعلهم يصورون شخوصا ليس لها علاقة بالواقع وأحداثا سطحية قد يكون ما يحبل به الواقع اليومي أغنى كثيرا منها. إن لم يحب المخرج أو الروائي شخوصه وحاول إصدار أحكام عليها فإنها تأتي فجة وسطحية وغير ذات عمق، وهذا ينطبق على فيلم علواش الجديد لأنه يبدو أنه كره شخصية الفتاة الانتحارية والمتطرفة دينيا وأوحى للممثلة التي أدت دورها أن تلعب بالكيفية التي لعبت بها الدور والتي نفرت كل من شاهد الفيلم من هذا الدور ومن الفيلم كله.
أتذكر كيف كتبتُ عن فيلم “التائب” الذي تدور أحداثه عن راجع من حضن الحركات المتطرفة في مقال نقدي وفي مسار كتابتي عن مسيرة علواش كاملة وكيف أني أبديت إعجابي بالفيلم لأن مخرجه لم يسقط في تلك النمطية التي يسقط فيها مخرجون آخرون وهم يتناولون مثل هاته التيمات، لكن اليوم أقول لمرزاق علواش عذرا لم يعجبني فيلمك الجديد، وأنا في انتظار إبداعاتك القادمة، لأني أعلم أنك مخرج كبير ولكل جواد كبوة.
عبد الكريم واكريم-الجونة