الرئيسيةإبداعالهائمة

الهائمة

رن هاتفها بصوت عبد الحليم حافظ.منبه االسابعة صباحا.استيقظت و نهضت بنشاط مرددة أغنيتها المفضلة”عيش أيامك…”.فهي تعشق العندليب الأسمر. يوم جديد و صباح مشرق.نسيت البارحة و تناست الماضي و استعدت لحياة مهنية جديدة في أول يوم عمل لها.أخيرا حققت حلمها في أن تحصل على وظيفة في إحدى أكبر شركات الأزياء طالما أحبتها منذ زمن. تركت عملها القديم و تفرغت لموهبتها المفضلة و عزمت أن تشق طريقها في عالم الرسم.هي شابة في مقتبل العمر،عشقها للفنون الجميلة و ولعها للرسم زودتاها طاقة و الكل شجعها على ذلك، فأقسمت أن تعطي جهدها و تركيزها في تصميم الأزياء. تناولت فطورها و تحلت بلباس أنيق و مكثت طويلا أمام المرآة تتجمل و كأنها ستلتقي حبيبها أول مرة.

تعيش وحيدة في بيت صغير بعدما أن استقلت بحياتها بعيدا عن عائلتها و ذلك بحثا عن تحقيق الذات و عن تأمين مستقبل جميل. عنيدة الطبع و متحررة , شجاعة و مغامرة و بذكائها تحاول أن تسابق الزمن في تحقيق أهدافها و اتباث كيانها. تحلت بالصبر و لا تعرف معنى الهزيمة. لازمت الكتب و الأبحاث منذ صغرها. درست فن الرسم و اقتحمت عالم الفن و الإبداع من خلال عشقها للوحات أشهر و أعظم الرسامين العالميين و الفن السريالي.

خرجت من بيتها نحو مغامرة جديدة. استقلت سيارتها. جرت العادة أن يوقفها كل صباح شرطي المرور لمخالفة و هي عدم احترام الأسبقية في ممر معين. أصبح يعرفها جيدا. يعصب و يصرخ وفي كل مرة تنجح بذكائها في إقناعه بعدم انتباهها للإشارة و أنها جد متأخرة عن عملها و لن تكررها. لكن هذه المرة،اختلف الأمر تماما،من شدة الفرحة احترمت الأسبقية و لم تخالف إشارات المرور.و بالرغم ذلك أوقفها الشرطي لمعرفة السبب. لقد اعتاد على كلامها الحنون و توسلاتها.
-” صباح الخير،هذه أنت؟و كيف خالفت عادتك؟ لا أصدق أنك التزمت بحق الأسبقية بعد كل هذه السنين.أكيد أحلم..”
ردت عليه بضحكات متقطعة-“صباح الخير.نقول دوام الحال من المحال و الصغير يصبح كبيرا يوما.”
-“لا لا لا،و كيف تغير الفكر فجأة. لا أظن ذلك. لست بحالتك الطبيعية اليوم. أراك أكثر ابتسامة و إشراقا على غير عادتك.و أين توسلاتك بالذهاب فورا إلى عملك و كلامك الحنون.”
-“لم يعد هناك عمل.بل هناك إبداع،هناك فن،هناك خيال، لست على عجل و لست متأخرة حتى تأذن لي بالذهاب. فاليوم عيد أستمتع به أكثر وقت ممكن.”
لم يفهم الشرطي شيئا ،تعجب و ابتسم قائلا -“ما دمت قد كبرت لن أقول شيئا فانطلقي نحو إبداعك الحي.رافقتك السلامة.”

انطلقت بسرعة و اتجهت صوب متعة عيدها. و كلما اقتربت من الشركة إلا و زاد نبض قلبها أكثر و أكثر و ارتعش جسمها.توقفت أمام باب المبنى الكبير المزخرف و به رجال الأمن يحرسون أجمل الأشياء. نزلت و سارت بكل ثقة و أمان. انتابها إحساس غريب أهو الخوف، أهو الرهبة ،أهو العشق.دخلت بحب و بفضول.و كان وراء الباب الكبير أسرار مغامرات الفنون…”.

فضاء ضخم و شاسع يضاهي مساحة مدينة.
سلكت ممرات طويلة و سلالم و قاعات فسيحة. لوحات باختلاف أشكالها و ألوانها معلقة توحين منظر التخيل و الإبداع . أقمشة و ألوان فساتين منشورة في كل ركن تسطعن كأنوار باريس. أناس هنا و هناك في مكاتبهم منهمكون يشتغلون و آخرون مجتمعون يتحدثون عن ما تجهله .حركة و دينامية خاصة داخل هذا المكان الغريب و العجيب و للمرة الأولى تكتشف عالما غير عالمها. لا تعرف من هؤلاء و لا تعرف لغتهم. هم شباب نساء و رجال يتكلمون لغة الإبداع و يتنفسون هوى الرسم. فهي الآن تقتحم حياتا جديدة و تلامس حلمها واقعا. كم تمنت أن تشاطرهم الحديث،كم تمنت أن يسمعوا أفكارها.أحست و كأنها آتية من كوكب آخر.فيا ترى هل ستتعلم لغتهم؟هل ستساير مركبهم؟

رافقها حارسا الأمن إلى المكتب المطلوب. طرق الباب بلطف و كأنه يمهد لها حسن التعارف. دخلت مكتب مديرها. مكتب فسيح و جميل يدل على حسن ذوق صاحبه و أناقته. كل شيء مرتب.أثاث يشرح القلب. مزهرية تحمل ورودا متفتحة و لوحات فنية تنقلن كل من دخل المكتب إلى المدينة الفاضلة. فالمكان يريح العين و يخيم عليه هدنة خاصة.
تبادلا التحية و جلست أمام هذا الرجل الخمسيني الأنيق. تراقب نظراته و حركاته بدقة. رجل ذو كاريزما خاصة سعى وراء تحقيق طموحاته في عالم التصاميم و أثبت جذارته على مر الزمن. مدير ليس من السهل أن تصبح شركته من أكبر شركات تصاميم الأزياء و أن يرقى العالمية. نظراته هادفة و كلامه محكم و موزون. شعرت و كأنها أمام شخص يسافر بها من مكان إلى مكان.لم يكن متكبرا مثل المدراء المعتادين لكن طريقة كلامه جعلتها تسترسل في الكلام و تجيب دون توتر و كأنها تعرفه منذ زمن طويل.

و كما جرت العادة في اللقاء الأول،تحدثا عن سيرتها الذاتية و عن حماسها لهذه الوظيفة. و تعمد أن يسألها عن حياتها الشخصية كعائلتها .سألها باهتمام :- حدثيني عن عائلتك.من تكونين؟
ردت بدون تقطع :- فتاة بسيطة. أنحدر من عائلة متوسطة الحال. ربتني أمي على الأخلاق و المعاملة الحسنة. لي ثلاتة إخوة. يتيمة الأب. قيل أن والدي كان رساما و هجرنا منذ زمن طويل قبل أن أولد.لا أدري سبب هجرانه لكني سمعت أنه قد ترك البلد و لا أكترث أن أعرف السبب. لكن ما أعرفه هو أنني ورتث موهبته و فنه.هذا ما أسمعه من عائلتي.
سكت لحظة و قال بصوت خافت : “اذا فاجاك أبوك في الظهور.أتودين رؤيته؟”
قالت بثقة و توتر في آن واحد: “لو أراد رؤيتي لظهر منذ سنين لكن هو أيضا غير مهتم بالموضوع و أنا طريقي هو تحقيق ذاتي و كياني في عالم الأزياء.”
-“تحقيق الذات و اسم الشهرة ليسا بالأمر السهل في عالم يعج بالمصممين و الفنانين. فكيف ستحققين ذلك؟رد صريح و صائب :” بالإرادة و بالعزيمة و بالصبر يمكن فعل كل شيء. لن ننجح من الوهلة الأولى لكن الاجتهاد و الطموح يجعلان المرء يحقق أحلامه و حلمي هو الفن.”
أحست و كأنه يقربها. فلم تشعر قط أنه انشغل عنها بهاتف أو ذهب فكره بعيدا كما يفعل الاخرون. بآذان صاغية عرف كل صغيرة و كبيرة عنها.
شرع في إعطائها نبذة عن طبيعة العمل بالشركة و عن طبيعة شغلها بصفة خاصة.أبدت اهتماما من جهتها و انبهرت به كما تنبهر الطفلة بوالدها حين يعلمها أسس الحياة. حفظت عن ظهر قلب كل كلمة يقولها و كل توجيهاته. نهض قائلا :حسنا سنذهب سويا إلى مكتبك الجديد وسأعرفك بنفسي على زملائك الجدد فمرحبا بك بيننا”
انطلقا معا جنبا إلى جنب. مبتسمة و واثقة من نفسها،خرجت من مكتبه لتعانق عالم الأحلام..

ساد الصمت حين التف الجميع حولهما يستمعون كلمة الترحاب التي يلقيها مديرهم.توقفت الحركة كليا لحظات و أصبحت القاعات تغمرها لغة الأعين.عشرات العاملون من مختلف الأعمار يصغون باهتمام شديد و يحدقون في الزميلة التي ستلحق بهم.من تكون؟و كيف ستكون؟هي جنبه،متوترة و خجولة،رأت على محياهم نظرات تختلف من الواحد للآخر.بعضها مرحبة و أخرى ثاقبة غيورة. زاد توترها مما بان عليها الارتباك و سارت تدير وجهها يمينا و شمالا.
انتهى الكلام ،تفرقوا،اتجهت نحو مكتبها الجديد رفقة بعض الزملاء الذين أبدو سعادتهم في أن تكون بينهم. لكن لم تعرهم اهتماما كثيرا لأنها انشغلت بفرحتها بأول مكتب خاص لها في حياتها. مكان مغلق وحاسوب و أدوات الرسم الخاصة و هاتف كلها أشياء أصبحت الآن ملكا لها وحدها.
ستغلق المكان و ستحوله إلى فضاء المتعة و العشق.
توالت الأيام, و تأقلمت بسرعة مع نظام العمل رغم أنها حديثة في هذا الميدان. سارعت في أن تبدي حماسا و عزيمة في التعلم. تعرفت سريعا على بعض الزملاء و تقربوا منها لحسن معاملتها و لابتسامتها الدائمة. شرعت في العمل من دون تفكير و راحت تبدع تصاميما بلمساتها الخاصة. رقيقة و حساسة و حالمة, تضفي على نفسها رونق الأنوثة. صنعت لنفسها عالما من الخيال و الجمال.
هناك من أعجب بذكائها و حاول التقرب منها أكثر. شاب اهتم لنشاطها.انبهر بسحر أفكارها و ما تملكه من أنوثة هادئة.ازداد إعجابا بها يوما بعد يوما و حاول أن يصارحها بحقيقة مشاعره أكثر من مرة لكنه لا يقو عن قول كلمة واحد ة حين يراها أمامه.يخجل و يخشى أن لا تبادله نفس الشعور.
في يوم،اتخذ قرارا أن يفاتحها الموضوع، دق باب مكتبها مرتبكا و مبتسما :” لم اسمع صوتك اليوم،أراك مشغولة بتصميمك الجديد.”
ردت بابتسامة: “بلى،لدي تصميمات جديدة أود ان أكملها و اعرضها على السيد المدير لقد كلفني بمده اقتراحات جديدة عن ما يمكن فعله بالأقمشة التي اقتناها مؤخرا و عما إذا يمكن ابتكار تصاميم جديدة”.
قال :”هذا إذن،أرى أن المدير بدأ يثق في ذوقك و خيالك حتى يكلفك بتصاميم معرضه العالمي،حقا تملكين الإبداع من خلال ما أرى”.
أجابته بخجل :”هذا لطف منك،لكني حين أفكر في شيئ جديد،أعطي كل تركيزي و اهتمامي في ما يمكن أن يكون جميلا.”
جواب متقطع : ” كلامك يدل على أنك ستبقين هنا طيلة اليوم،أود أن أعزمك على العشاء اليوم،أتقبلين.”
فجأها بطلبه،سكتت لحظة و أجابته بلطف :”حسنا قبلت لكن شرط أن أكمل هذا التصميم الذي بيدي،نبقى على اتصال مساءا.”
أحست أن هناك شيئا يخفيه،فالتوتر و الخجل كانا ظاهرا على وجهه. لا تنكرأنها قد أعجبت به أيضا و قبلت طلبه قصد معرفة حقيقة شعورها أيضا. هل هو إعجاب أم مجرد استلطاف فقط.لا تعرف حقا،لأنها انشغلت هذه الأيام بمديرها الذي أبدى لها أيضا اهتماما ملحوظا.رجل أعجبه إبداعها و حماسها للعمل و كلما التقيا إلا ووافقها أفكارها لدرجة أنه منحها تصميم معرضه العالمي السنوي. فيا ترى هل سيخفق قلبها لهذا الرجل ذو كاريزما الهادئة؟ فلن تنس أبدا أول لقاء بينهما في مكتبه و ما خلفه من اثر في حياتها.
هذا الرجل الذي يراقب كل تحركاتها في عملها و علاقاتها مع زملائها.لا يخل اجتماعهما من سؤاله عن أحوال عائلتها و حياتها الخاصة كيف تعيش و مع من و ماذا يفعل أخواتها.كانت تجيبه باستغراب و بثقة. لكنه يتحسر من داخله كلما تحدثت عن أبيها المجهول و عن أخبار عائلتها.
قالت يوما :”أجهل أبي و لا أريد رؤيته يوما. لا داعي بعد كل هذه السنين.أعرف أن لقاؤه سيدمر حياتي.”
كان كلامها كالسيف القاتل. صدمة قوية أسكتته و جعلته يفكر و يفكر ليال.هو الذي أتى بها إلى شركته و هو الذي سيتحمل أية عواقب التدمير. فكيف يمكن أن يبوح لها بحقيقة مشاعره نحوها و نوعية علاقته بها.

جلست على طاولة العشاء في مطعم هادئ رفقة زميلها. كانت ساحرة و جذابة بلباس أنيق و بتسريحة شعر رفيعة و بحركاتها الانوثية كالطفلة المرحة. لأول مرة تجردا من هيئتهما المهنية و انسجما كصديقين التقيا بعد أن فرقهما الزمن. لقاء طبعه الرقة و العفوية. بعيدا عن أجواء العمل،تبادلا الحديث عن مواضيع همت ميادين مختلفة. لم تشعر بالملل و لم تفارق الابتسامة وجهها.أحست كأنه صديق قديم ،لكن كانت دائما تشعر بشيء غريب كلما تحدث عن العمل و عن مديرهما.أبدت اهتماما و سألته عن طباع مديرها الذي عرفت عنه القليل .حتى وهي في أرق جلسة لها،تذكرته و أحبت السماع عنه.
قالت ” يبدو أنه يشارك في العديد من المعارض. نجاحاته في كل مكان. حقا رجل موهوب ذو شأن في المكان المناسب.”
رد عليها : نعم،انه رجل عصامي و ذو موهبة رفيعة. قيل عنه أنه كان مقيم في أوربا و رجع البلاد بعد أن جمع ثروة كبيرة و انه يهوى الرسم منذ الصغر، له لوحات فنية أيضا.”
انتهى اللقاء و راحت بيتها تسترجع ما حدث. ثمة شيء غريب بعثر حساباتها و قلب تفكيرها. لن تقول أنه الحب. ذاك الشيء أبعد من الحب . لن تقول أنه العشق بل هو أعمق من ذلك. لكن حب من؟أو عشق من؟أحب الشاب الذي أبدى لها إعجابه بها هذه الليلة أو حب ذاك الرجل الفنان الذي شغل تفكيرها. فهو يميزها عن باقي العاميلن ،يشجعها و يوافق آراءها و يراقب تحركاتها. أحست بذلك منذ الوهلة الأولى لكنها تخشى أن تهيم في حب الرجل الخمسيني فيصبح حلمها سرابا. لا تريد أن تظلم الشاب الذي حقق أمنيته في أن يبوح لها بمشاعره اتجاهها. لا تعرف ماذا تفعل.
دخلت مكتبها صباحا على غير عادتها،جلست على الكرسي تفكر طويلا في حالتها. تناولت تصاميمها وقصدت مكتب مديرها لإكمال ترتيبات المعرض.
كان يتكلم في الهاتف، لم يهتم لوجودها مع أنه كلما رآها يبتسم و يأمرها بالجلوس.أكمل محادثته، نظر إليها بدقة. لأول مرة يشعرها بأنها مجرد عاملة كالباقي. اختفت الابتسامة و ولى إعجابه بها. و أصبح يتحدث كمدير يعطي تعليمات لمشغلته. لا يطيل نظرته.رأى تصاميمها و شرحت له ما يمكن أن تجدد في الأقمشة وبكل برودة قال :”حسنا،أوافق على هذه التصاميم. ابدئي بالتطبيق فورا. ليس لدينا وقت لنضيعه.المعرض بعد ثلاثة أشهر،يمكنك أن تنصرفي.” أخذ الهاتف و أجرى اتصالا و تجاهلها كليا.
اندهشت من تصرفه. لم تصدق. أين ذهبت ابتسامته و أين هو كلامه اللطيف. كيف تغير معها و أصبح يتجاهلها و يعاملها معاملة عادية كباقي الزملاء. أبان وجهه الحقيقي؟أم أن كل ما عاشته هو مجرد أوهام.
في حقيقة الأمر حديثها عن أبيها جعل مديرها يهرب من ضربة قد تكون قاضية لهما.لن يقو و لن يرض على تدمير حياتها كما قالت له ذلك سابقا.هو أيضا أصبح في حيرة من أمره إذا اعترف لها بحقيقة أنه هو والدها.أمر صعب و مواجهتها سيكون حتما مغادرة عملها بعد أن اكتشف أن ابنته ورثت موهبته و طموحاته.
انسحبت بهدوء و بقيت واقفة على باب مكتبه لحظات تستوعب ما حصل لكنها سرعان ما سمعته يكلم أحدا في الهاتف و يقول :”اسمعني الأمر جد صعب،كيف لي أن أبوح لها بذلك. لن تقبل و حتما ستغادر الشركة إذا علمت. صدمتي في تلك الجملة التي قالت “رؤية أبي سيدمرني”و كيف لي أن أدمر حياة ابنتي بعد أن التقيت بها و أحسست بأنها تشبهني في كل شيئ.أتجاهل الأمر و لكن صعب.”
سمعت كل شيء و من شدة الصدمة دار كل شيء من حولها و أغمي عليها.

استفاقت في مكتبها و الزملاء حولها يسألونها عما جرى.ما ان استعادت وعيها إلا و أجهشت بالبكاء أمامهم. راحوا يهدئونها و هم يجهلون السبب. لم تقل كلمة سوى أنها متعبة قليلا. كان الشاب زميلها حاضرا إلى جانبها :”-ماذا حدث؟لماذا تبكين؟”
ردت بنبرة حزينة :” أظن أني أجهدت نفسي في العمل. لم يبق إلا بضعة أسابيع عن المعرض العالمي و أنا جد قلقة.”
-“لا تقلقي كل شئ سيسير على ما يرام.تحتاجين الراحة اليوم.سأوصلك إلى بيتك.”
-“لا داعي شكرا.سأذهب في سيارتي.أنا بخير”.
خرجت باكرا و راحت بسيارتها في اتجاه مجهول.
شاردة سارت يمينا و شمالا من دون تفكير أو بالأحرى تفكيرها كله انصب في ما سمعت. تذكرت كل كلمة قالها،كل كلمة سمعت،كل كلمة أدركت.الآن،لا تدرك شيئا. فهي تائهة وسط الطرقات.هائمة في بحر الظلمات.كيف ستواجه هذه الحقيقة المرة؟و لماذا هو بالضبط؟أ كانت صدفة أم أن الأمر مدبرا؟وكيف عرف أنها ابنته؟و مع من تكلم؟سؤال تلو الآخر يخلون من أجوبة منطقية. صدمة أغرقتها في بئر عميق فأين المخرج؟
دخلت منزلها ليلا منهارة .لم تأكل شيئا.استلقت على فراشها تبكي من ألمها. انتابها إحساس غريب و رهيب.والدها الذي حرمت منه طيلة هذه السنين، ظهر أخيرا.أهو حقا والدها أم أنه مجرد أوهام!! شاء القدر أن يجمعهما يوما. فيا ترى هل سيكون هذا اللقاء هو اللقاء الأول و الأخير؟
أمسكت الهاتف لتخبر والدتها و إخوتها.لكنها ترددت كثيرا.ماذا ستقول لهم؟و هل سيتقبلون ذلك؟.
لم تتوقف عن مسائلة نفسها طيلة اليوم لأنها كلما بحثت عن جواب يشفي غليلها إلا و استرجعت شريط حياتها بكل تفاصيله و مراحله مع أخواتها و معاناة أمها في تربيتهم وحيدة لا معيل لهم سواها .صرخت قائلة :”لا لا.أنسيت كيف واجهت أمي الصعاب وحدها من أجل تربيتنا و تعليمنا.هو هجرنا و نسينا و لم يسال عنا.و الآن،يراني جاهزة أمامه يحضنني و سينطق كلمة ابنتي. لا لن أسمح بذلك على حساب شقاء أمي المسكينة. فليدفع ثمن ما اقترفه.”
لم تذهب العمل أسبوعا بحجة أنها مريضة و الكل يسأل عن غيابها. كان زميلها يتصل بها كل يوم و كم مرة دعاها أن يخرجا معا قصد الترفيه عنها لكنها رفضت و لم ترغب في رؤية أحد. فهي في اعتكاف و تفكير.ماذا يخبئ لها القدر…مر أسبوع و لم تبح ما بصدرها لأحد.و لم تخبر أهلها بما حصل خشية من ثورة إخوتها.حتما لن يتقبلوا الأمر بسهولة مثلها.
في أوقات، اتصل بها بنفسه ليطمئن عليها و كلما رن الهاتف إلا و ترددت في إجابته.لا تريد سماع صوته.و تضطر محادتثه ليس كونه مديرها فحسب بل ثمة شيئ غريب يقودها لفعل ذلك. لا تعرف.
كان يعرف أخبارها و يشجعها أن تستعيد عافيتها في أقرب فرصة و أن العمل يسير بانتظام.
فكرت مليا.و عزمت الذهاب للعمل صباحا.أرادت أن تتجاوز المحنة بأي ثمن. حسمت الأمر و اتخذت الطريق الصعب .فقررت الانسحاب.
الانسحاب من الشركة التي طالما فرحت بوظيفتها هناك.الانسحاب من الفنون التي عشقته بجنون و الانسحاب من حياته.عل هذا الحل يحييها من جديد. دخلت مكتبه بهدوء حانية الرأس. كان جالسا مبتسما حين رآها :-حمدا لله على سلامتك،أرى أنك في تحسن”.
ردت عليه حزينة :”أنا… جئت لأنني عزمت تقديم استقالتي”.

فاجأته بهذا القرار.نظر إليها مندهشا. نزل الخبر عليه كالصاعقة لم يتوقع أن يكون قرار المغادرة سريعا. ساد الصمت بينهما لحظات ثم قال متعمدا : -“ماذا جرى لك يابنتي؟”.
ابنتي. و نطق بها أخيرا. قالها من دون تردد. قالها حين خشي أن تضيع منه مرة ثانية و يترجاها البقاء. ابنتي،كلمة ستقلب كل الموازين عند معرفة الحقيقة و ربما ستشفع له أخطاء ماضيه.
قالت : “-ابنتك، الآن تقول ابنتك و منذ متى أصبحت ابنتك؟منذ أن سمعت كل شيء وراء الباب. منذ أن أحسستني باهتمامك اتجاهي دون باقي الزملاء أم منذ أن تركتني طفلة و هجرتني أنا و أمي و إخوتي!! لا تتجرأ أن تقولها مرة أخرى أنا لست ابنتك.”
بدأت المواجهة الصعبة بين الأب و صغيرته. كان كلامها كالسيف الجارح في قلبه. بان التوتر و الخوف على محياهما.ارتعشا خشية ما لا يريدان أن يسمعانه. فكلاهما لن يتحملا أي صدمة تظلم بعضهما البعض. قاطعها و أجاب :-” نعم ابنتي،و بما أنك تعرفين الحقيقة منذ مدة.اجلسي و سأشرح لك كل شيئ”.
رفضت السماع و نهضت قائلة :”لا أريد منك شيئا. كيف لي أن أجالس إنسانا هجر أولاده و زوجته منذ سنين. حرمتني من علاقة البنت بأبيها.عذبت و قسوت على أمي المسكينة التي كافحت و شقت لتربيتنا.حرام أن ألقي فيك نظرة. استقالتي أمامك و إن لم تقبل سأغادر العمل شئت أم أبيت.
من أين أتت بهذه الجرأة القاتلة؟ تنطق كلاما و داخلها يتحسر و يتألم.اتجهت نحو الباب محطمة و محبطة.تبخرت أحلامها الفنية و ذهبت طموحاتها مع الريح.رد مسرعا :-“كنت مجبرا على الرحيل.كنت سجينا وهذا ما تجهلينه.”
توقفت لحظة و استدارت :”كيف؟”
“-نعم،.أجبرني القدر أن أفارقكم و أن اعتقل طويلا.عشت أياما صعبة و لم يعرف أحد طريقي”.
تسمرت في مكانها بآذان صاغية،من ثم أكمل حديثه بنبرة حزينة حاني الرأس :”-كنت رساما في ربيع عمري.اشتغلت في إحدى الجرائد الثورية آنذاك.عشقت الفن مثلك و كنت حماسيا غيورا على بلدي لدرجة أني تفانيت في عملي و كنت من احد الرسامين المهمين في الجريدة. قضيتنا واحدة و هدفنا واحد.دافعت عن الوحدة القومية و حاربت برسوماتي الفساد و كنت أطمح دائما أن أطهر البلاد من الانحلال الخلقي. تزوجت والدتك و أنجبت و كانت حياتي مليئة بالحماس و الإبداع.لكن،في زمن يخلو من الحرية و من الضمير،في زمن انعدمت فيه كل القيم و كان للطغاة كلمتهم المسموعة،اعتقلت بسبب رسوماتي يوما و لا احد عرف عني شيئا حتى زوجتي التي ظلت تبحث عني سنين دون جدوى.دخلت السجن.عشت أياما صعبة.عرفت الذل و المهانة و الجوع و التعذيب.مررت بحالات نفسية مزرية لدرجة أني فكرت مليا في الانتحار. مرت سنوات لم أتذكر كم عددها كوني لم أر النور مدة طويلة، أفرج عني و أرغموني أن أسلك طريقا آخر غير الرسم.التزمت بالاتفاق.و غادرت السجن مغيرا طريقي.”
سكت فجأة.قالت :أكمل و ماذا بعد؟
نظر إلى النافذة باكيا :” سافرت إلى بلاد أوربا و عشت هناك. لم يكن لدي خيار.فضلت عدم الرجوع إليكم لأني لن أوفر لكم احتياجاتكم بعد طردي من العمل. و كيف لي أن أعيش في بلاد كله فساد. نعم هاجرت و بدأت حياتا جديدة في إحدى شركات الأزياء. لم أتخل عن حبي للرسم أبدا و حاولت أن أكون نفسي إلى أن و صلت الآن إلى ما هو عليه. رجعت إلى وطني و أسست هذه الشركة و الآن هاأنا من أغنياء البلاد بما يرضي الله من دون خوف أو فساد. أمك على علم بالموضوع فهي من أصرت أن أوظفك هنا لشدة عشقك بالفنون مثلي.”
“-أمي؟و كيف التيقتما مجددا.و لماذا لم تخبرنا؟”
“-بعد رجوعي من أوربا اتصلت بها و التقينا. حكيت لها قصتي. و أخبرتني أنها طلقتني غيابيا نظرا لاختفائي. بقينا على اتصال و كنت أرسل لها دوما مصاريفكم و كانت تخبرني بكل شيئ عنكم. هذه قصتي و لك الحكم الآن.فضلت أن تكوني بجانبي هنا في الشركة و أردت أن أعوضك عما فاتنا و أرقى بك العالمية في ميدان الأزياء.”
دمعت عيناها و لم تقو على النطق كلمة مندهشة لما سمعته. نظرت إليه طويلا محاولة استيعاب الموضوع لكن مشاعر البنوة تحركت و سرعان ما جلست و شرعت في البكاء.
و بنبرة مليئة بالحب و العطف و بصوت حزين ينبض أشواقا قال :”-ابنتي الغالية أطلب منك طلبا واحدا و وحيدا،أتحضنين أباك؟”.

غزلان يقوتي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *