فجأة حضر النادل، وكأنه انبثق من شق تحت الأرض، طلبت حليبا “مكسورا” ، في حين اكتفت هي بماء معدني.
توقعت أن يكون النزال شديدا، فأخذت جميع احتياطاتي، رتبت أموري، و حسبت لكل شيء حسابه، حتى لا يُفاجئني الخصم من حيث لا أحتسب.
مع إعلان بدء التفاوض، اختطفت الكلمة، و بسطت لائحتي الطويلة، و لم أترك كبيرة و لا صغيرة إلا ولي خطة و منفذ، واستعددت لها كل الاستعداد.
أردت أن أكون صاحب الأمر و النهي، و أن يكون الزمام كله في قبضتي، أنا قائد السفينة و ربانها، وعلى الطاقم أن يأتمر بأوامري ، أشرّق و أغرّب، أرى ما لا ترون و أخاف ما لا تخافون.
تقلبتْ ” س ” وسط كرسيها، و نظرت إلي بعينين جامدتين، كأنها تقرؤني، واكتفت بابتسامة رضيع.
ولما عرفت أن الوطيس لم يحم بعد، كان لزاما عليّ، أن أبدي بعض المرونة، مسألة تكتيك لا غير. قررت أن أرجع إلى الوراء، خطوة صغيرة، كي أتقدم ميلا كاملا. فقلت :
ـ ستكونين مستشارتي الحسناء، أو إذا شئنا القول، نديمتي ومسامرتي. تدفعين عني القهر و غلبة الرجال وتجلبين النوم إلى مقلي الصاحية دوما، و تمسدين أفكاري، ولكي أكون صريحا فاسم الوظيفة الجديدة : جارية فوق العادة.
لزمت ” ف ” الصمت، و سحبت ابتسامتها المسروقة على عجل. حينئذ لبست خوذتي و تأبطت رمحي، و استعددت للأسوأ. ظل حبل الكلام معقودا إلى طرف لساني، ولم أشأ أن أتركه.
حاولت استدراجها إلى الشعب الناتئة، حيث الدغل و الأجمات، لعلي أظفر بها، لكنها لم تستجب، ولبثتْ في مكمنها، تنصت فحسب.
كنت أعرف أنها تجرني إلى حرب استنزاف طويلة، أسقط فيها صريعا منهكا، و حفاظا على ذخيرتي من الكلام، التزمت الصمت بدوري، ولذت بنفسي.
كان صمتا مرعبا، الهدوء الذي يأتي بالعاصفة، أصخت السمع ، ولم تعد تسمع إلا طلقات متقطعة من الكلام و النحنحة، كان الأمر شبيها بحرب بلاغات. وحتى قبل أن يفتح الخصم فاه، كنت أباغتها بزخات من الكلام الرشاش. لا حقتها في دروب ذهنها فكرة فكرة، أبطل مفعول ذرة نابتة من كل كلام محتمل. في الوقت نفسه الذي كنت أهوي فيه عليها بلساني الحاد المسنن.
وحرب الكلام مستعرة، كنت أتحاشى النظر إلى وجهها المليح. الجمال يعمي، فطنت للخدعة، وتجنبت النظر إليها رأسا، و تبثث ناظريّ على كأس الحليب ” المكسور”.
دامت رحى الكلام ساعتين تقريبا، كان صمت الخصم مريبا، مثيرا للشكوك، وعجبت من استماتتها طوال هذه المدة، لم تنبس و لم تتحرك، كانت بين الفينة و الأخرى تأخذ نفسا عميقا، و تمد يدها إلى قارورة الماء المعدني.
اتقتني بالماء و الهواء إذن، و حاصرتني بالصمت. كان سقف انتظاري كلمة واحدة، كلمة واحدة وأعلن انتصاري، لكنها لم تنطق.
يجيء النادل ويذهب، و يتفادى النظر إلى الرجل الجالس في الوسط، و يتحاشى النظر إليه. كان صوت الرجل مسموعا داخل القاعة الفسيحة، لكنه لا يبين. أحس النادل بحرج ثقيل، بعد أن كثُر تلفت الزبناء.
عبد الحكيم برنوص