اتجه لطفي إلى مقعد الدرجة الأولى بالطائرة المتجهة صوب دولة الإمارات العربية المتحدة. تحسس جواز سفره و الدعوة التي وجهتها له دار نشر مرموقة لحضور حفل توقيع روايته الجديدة، و التي ستعرض في معرض أبو ظبي للكتاب. نظر إلى ساعته المعصمية الثمينة، كانت عقاربها تشير إلى الثانية و الربع صباحا. نزع معطفه البني، و قبعته البيضاء، و شاله المزخرف بخطوط متقاطعة زرقاء و خضراء. جلس على الكرسي الوثير، و تنفس الصعداء. أخيرا انتهت إجراءات السفر. سمع صوتا يدعو المسافرين لربط أحزمتهم، ثم أقلعت الطائرة، لديه عدة ساعات للوصول إلى هناك. أغمض عينيه لبعض دقائق، لكنه سمع صوتا أنثويا ناعما يموء مثل قطة:
ـ طلباتك سيدي.
نهض و اعتدل في جلسته، مرر لا شعوريا يده على شعره الرمادي المتدلي على جبهته المترهلة، فتح كوتي عينيه على شابة واقفة أمامه، كأنما فتحهما على القمر في ليلته الرابعة عشر: في العشرينيات من عمرها، مديدة القامة، تتوقد بشرتها بياضا، كانت عينيها واسعتين مثل عيون المها، و شعرها أسود من أي حبر صيني، معقوف إلى الوراء، مدفون فيه إسفين لامع ، يغل تدفق الخصلات المتمردة على كتفيها المستويتين. تخيل أنه لو رأى بيكاسو تلك الخصلات الشبقية، لطعم بها فرشة أصباغه.
رسمت بسمتها وردة على شفتيها الخوخيتين، فأفاقت كل عضو ميت فيه، و أغلت نار ثلجه. أرسل رصاص عينيه إليها مباشرة. غضت بصرها، و توهجت وجنتيها. تعمد النظر إلى ثمرتي جوز هند، مختنقتين داخل قميصها الحريري الأبيض. تمنى لو أمسكها من معصمها اللاهب و فتح بابا الطائرة، و رفرفا كعندليبين يشقان الفضاء الرحب، و حطا على أول حقل أقحوان، و قاما بنزهة أبدية. أسكر عطرها الفواح فتحتي أنفه الغليظ ، و أسره الكحل الذي يزغرد على أشفارها المتناسقة. أرغمه لسانه على حوار أذنيها، ود أن يشرب كوثر عينيها، فقال لها، و هو يتلعثم في الكلام:
ـ شاي بالعسل… أو بقلاوة بالفستق المجروش… أو أي عصير…
ابتسمت ابتسامة كل مضيفة طيران، مثل ومضة بنفسجية. انسحبت، و تلصص بنظره من ورائها: كانت رشيقة القوام كسمكة سردين، مرمرية الساقين، أنثى ساحرة عتية، تتغنج و تتبختر. أحس بدفء غريب يجتاح قلبه.
هل هو الحب مرة أخرى يدق أبواب قلبه؟
هل سيضيف مغامرة جديدة إلى مغامراته السابقة التي انتهت كلها بالفشل؟
ما ذنبه هو إن لم يجد إنسانة متوافقة معه في ميوله و رغباته و قناعاته ؟
ما العيب إن كان يبحث عن انسانة منسوجة من حب، و صدق، و طهر؟
لقد ترسخت في ذهنه صورة هاته الشابة الناهد، كما لو أنها جنية من جنيات الألف ليلة و ليلة، أو حورية من حوريات البحر التي تحدثت عنها حكايا الصناديد.
لكن…
مهلا…
ماذا لو كانت هاته الشابة مرتبطة ؟
خيل إليه أنه سيبني قصورا من الأوهام حولها، أو سيطرز ملامح وجهها الأسطوري على الورد، و الفل، و النرجس، وشقائق النعمان، و على جميع الحيطان. كان يتمنى لو يقشرها مثل موزة… كان موقنا بأنها لن تتكرر مرة أخرى إلا بعد مرور ألف سنة. في نظره كانت إمبراطورة كل الإمبراطورات، و ما سواها من النساء، فليطرحن في سلة مهملات عميقة.
فجأة رآها آتية صوبه، و هي تحمل صينية بها كأس عصير برتقال. عدل من جلسته، و أجل لهفته لها. كان أضعف من عود الثقاب، و هشا أكثر من اسفنجة، لكن يده اليسرى كانت ترتعش، لا يعلم لماذا تفضحه. وقفت أمامه، ركز على أناملها الشهية الطرية إلى أقصى حد. كان توت الأرض يرقد على أظافرها المقلمة بعناية فائقة، اتجه نظره صوب البنصر، رأى خاتم ارتباط، أصيب بإحباط.
ناولته الكأس، و انصرفت.
ماذا عساه أن يقول لها؟
لقد اغتالته جرعة خجلها الزائدة.
أغمض عينيه، و عانقته غيبوبة لذيذة. ترك قلبه يهتف في أعماقه، أما رجلاه فكانتا تحترقان برمال حبها الساخنة. لم يعرف من الذي يتحدث فيه: هل لسانه، أم عينيه، أم قلبه، أم كل ذلك؟
فتحهما مرة أخرى، لاحظ بأنها تمر من جنباته لكنها كانت تتجاهله، و هو كذلك فقد الأمل في امتلاكها. ربط جأشه، و اصطنع نخوة النسر و بسالة الأسد، تمنى لو كان من بين الركاب عراف، يلتجئ إليه، ليرمي عليها كل تعويذات و لعنات الحب، كان مستعدا للجوء إلى السحر الأسود و الأبيض و الرمادي و الملون، لكنه تناول مفكرته و قلمه الذهبي الأنيق، و شرع في الكتابة، كتابة الخطوط العريضة لروايته المقبلة: ملامح أنثى خجولة.
ألقى لمحة سريعة على عقارب ساعته. لم يحس كيف مر الوقت سريعا. و طلع الصباح، و سكتت شهرزاد عن الكلام المباح. توترت أعصابه، و زاد وجهه المنتفخ عبوسا و تقطيبا.
مرت من أمامه بقوامها الاستثنائي كان يتردد في طلب وسيلة اتصال بها. لكنها فاجئته، مطرقة رأسها، و قالت له:
ـ فلنترك الصدفة تجمعنا.
و انصرفت.
لبس معطفه و زرر أصدافه، و لف الشال حول عنقه السمين، و رمى القبعة فوق رأسه. لأن مكبر الصوت أعلم الركاب بفك أحزمة المقاعد ، لقرب هبوط الطائرة .
عندما وصل لطفي إلى مطار أبو ظبي الدولي، بعد استيفاء الإجراءات الجمركية، استقل سيارة أجرة أخذته إلى فندق خمس نجوم، حيث كان يستعد للراحة من متاعب السفر. في تلك الليلة، لم تفارق صورتها الفاتنة خياله العاشق.
في الغد، ذهب إلى المعرض الدولي للكتاب، و قام بجولة تفقدية في بعض الأروقة، فوجد العديد من الوافدين على المعرض، اقتنوا نسخ رواية جديدة، يقفون في طابور ينتظرون توقيع رواية قصيرة، نظر إلى العنوان:
ملامح روائي.
اطلع على الإهداء،:
إلى روائي أحبه، منذ أن خط أول رواية له.
إلى ل.ش.
كانت صدفة غريبة، أن يكتب أول اسمه، وأول لقبه.
و كان الأغرب من ذلك بكثير عندما وقف في الطابور، و وجد أمامه الشابة المضيفة، هي من توقع نسخ الرواية.
و كان هناك إعلان جداري ورائها :
حفل توقيع رواية: ملامح روائي، للروائية و الشاعرة: علية …
و قف أمامها و أعماقه ترتجف، ناولها نسخة من روايتها،و هو ينظر إليها بشهوة طاغية، رمقته بطرفة عين خجولة، وضعتها جانبا، و فتحت حقيبة أوراقه، و ناولته مسودة الرواية. و “بزنس كارد” خاص بها. و عندما هم بالإنصراف وضع نسخة من روايته المعروضة : “نكهة أنثى بالشوكولا”. كتب في أولها:
أهدي هاته النسخة
إلى انسانة
تستحق
أن تبسط
أمام رجليها
كل زرابي الدنيا،
و أن يرمى
أمام قدميها
كل شهد الدنيا
و كل نفائس الدنيا،
و كل كنوز الدنيا.
و كل ذهب الدنيا.
و كل جواهر الدنيا.
في اليوم الموالي، أتت إليه ليوقع لها روايته المعروضة، وقالت له:
ـ ألم أقل لك، فلنترك الصدفة تجمعنا.
نظر إلى الخاتم الذي أزعجه طول الرحلة، أزالته و أعطته له، باستحياء زائد. لم يصدق ما حدث. لكنها أومأت له برأسها، بأن يعيده إلى بنصرها، مرة أخرى .
فقال لها و هو يدخل الخاتم، و نياط قلبه تهتز في الأعماق طربا:
ـ بل قولي: إن القدر هو الذي خط لنا هذا اللقاء.
ـ أنت أرق النساء.
ـ و أنت أندر الرجال.
مد يده إلى جيبه، تناول خطاطته الروائية، و مزقها، لأن ملامح أنثاه الخجولة ستصبح ملكه للأبد.
كانت تلك أول تجربة روائية لها، أما هو فكانت له آخر رواية يختتم بها مساره الأدبي.
تبادلا حوارات الوجد و القصائد الأولى، وجدا في بعضهما البعض أفضل أنيس و أعز سمير، و اتقدت شرارة عشق بين نسر و حمامة.
هشام النخلي