اندفع وسط الجموع نحو الحافلة المتجهة إلى وسط المدينة. متوجس على غير عادته. قلق إلى حدود القسوة والكآبة. اسرع إلى المقعد الوحيد الفارغ كانت تنوي أن تقتعده سيدة في عقدها الرابع. لم يبال بهمهمتها، وتأففها. أبعدها بلطف ونزق، كان غاضبا من نفسه كثيرا ذلك الصباح، لم تفارق عينا السيدة هيئته المكدسة ككيس رملي مثخن وهي تقتعد المقعد في كسل. تابعت فضوله وباقي الركاب الذين التصقت أجساد بعضهم البعض. تحرك «الطوبيس». اكتشف أنه لم يحصل بعد على التذكرة. كان يضع سماعات هاتفه المحمول في أذنيه. كان يردد مقاطع أغنية قديمة من ريبرتواره الكلاسيكي . حتى إشارة الجابي تغافلها. حلق في سماء أفكاره وانشغاله بحقيقة من تكون السيدة التي تقف بجواره ولاتفارقه ببصرها. أعلن في لحظة ما عن ضيقه من طريقتها المستفزة في ترصد حركاته.
حاول أن يدافع عن نفسه في صمت، حشرجة، ثم همهمة ثم كلمات مبهة. الجابي الذي لوح بدفتر التذاكر لايتحرك. الحافلة بدأت تطوي الطريق نحو محطتها القادمة لكن ببطء. الركاب عادة لايتحدثون كثيرا في الصباح. نشرة الأخيار لاتسمع جيدا. كان السائق الشخص الوحيد داخل الهيكل الحديدي الذي كان بامكانه فك شفرة كلمات، وحديث المذيع. خبر عاجل، مصرع سيدة فوق القضبان الحديدية للقطار . قال « .. جيد القدر بجانبي، هذه المرة.. اختياري للحافلة كان موفقا.. » انتشى في صمت، أعاد السماعتين إلى أذنيه، انساب اللحن الحزين رخيما، يذكره بزمن مضى، بينما كانت السيدة تترقب رد فعل منه اتجاههها، وقد تملكها الاندهاش من سلوك لم تعده من الرجال، أعلنت غضبها، وتعبها من الوقوف. التصقت بجانب المقعد، لكزته في ذراعه بلطف. شعر بخدرها. بطراوة دراعها «ماذا تريد هذه المرأة مني ياترى.. هل أروقها فعلا » يدرك أن جاذبيته لم يعد لها حضور. صار وهجها من الماضي البعيد منذ عشرين سنة خلت. الآن لا يطالب سوى باستراحة محارب فقد كل أسلحته القديمة والجديدة. المرأة لم تذعن لتبرمه من غزل متأخر، أو تحرش لامعنى له من تقاسيم جسدها الناعم. انتبه إلى الأمر. « لوتدرك أنني لم أعد ذلك الرجل الذي كنته.. صيادا ماهرا، لما استمرت في إغرائي بدون سبب..». كانت تترقب حركة منه أن يفسح لها عن مقعده، كما يفعل عادة االركاب في مثل هذه المواقف. لكن هيهات.. الجابي لايبحث في الحافلة عن المتهربين أو الممتنعين عن الأداء. كان يجبر الركاب على البحث عنه وسط الزحام، والتصاق الأجساد. يجلس في مقدمة الباب المخصص للدخول. لايتحرك، لايرغب في بث القلق في نفوس الممتنعين عن تسلم التذكرة. هل كان يعد فخا لهم؟.. جسده المرأة الأربعينية، يثيره شيئا فشيئا. كان يختلس النظر إلىتفاصيله تحت الجلباب الأحمر وهو يدير رأسه بحثا عن وجوه يعرفها ويحفظها كثيرا في رحلته اليومية إلى المدينة الأخرى. الجابي يراقب من مكانه اهتزاز «الطوبيس»، ركاب المحطات الأخيرة، في حيرة من أمرهم، أحدهم صرخ من بين الأجساد « أين الجابي.. تحرك ياسيدي إلينا نحن هنا» كرر العبارة مرتين، كان يأمل من هذا الأخير أن ينهي انتظاره. « من رغب في التذكرة عليه أن يتحرك من مكانه.. » أجابه لجابي بصوت واثق. كان الوصول إليه هو المستحيل بعينه، خمن الرجل الذي اصطاده جسد المرأة الأربعينية، وجعله يعرض عن البحث عن تذكرة. أما السائق، فكان لايتردد في اقتناص الزبائن من المحطات المتباعدة رغم أنه كان يتابع ارتفاع درجة الاكتظاظ عبر مرأته في الممر الطويل الفاصل بين محرك الحافلة ومؤخرتها، في شبه اصطفاف غير متوازن للأجساد المتعبة « ياسيدي إن الحالة مكتظة عن آخرها.. لماذا لاتغلق الباب..». قالت السيدة التي تقف بجوار الرجل. شعر بزهو، وانتعاشة لاتوصف أخيرا سمع الصوت الرخيم … أثار فيه نوعا من الخدر الجميل . تلقف الكلمات باحساس صادق. راقته انتفاضتها..
واحتجاجها، كانت صارمة في مخاطبتها للسائق الذي تعود على تناسل مطالب الركاب. الحافلة المكتظة تزيد اكتظاظا، وركابها لايملون من متابعة بعضهم البعض دون ملل، أحدهم أراد النزول، فعلق .. احتج على السائق، وشتمه بشدة.. بعد أن أذعن للطلب أوقف الحافلة على بعد مسافة من المحطة.. كان الراكب غاضبا.. وهو يهم بالنزول.. قبل أن تلامس قدماه الأسفلت، اعترض طريقه مجموعة من الأشخاص.. كانوا غلاظا، يرتدون أقمصة زرقاء موحدة، عددهم يتجاوز الثمانية، اعتقد في البداية أنهم ركاب أو عمال شركة.. لكن بعد أن طالبه أحدهم بالتذكرة غير رأيه فأصابه الارتباك. أطلق ضحكة يائسة.. بحث في جيب سترته، ثم في جيب سرواله.. الأمامي والخلفي، تحسس جيب قميصه الصيفي، ثم محفظته الجلدية.. المراقبون لايتحركون، والحافلة كذلك. السائق لايبدو عليه الاستعجال، كان يراقب المشهد في حياد تام وتشفي.. وضع الركاب الآخرون أيديهم على قلوبهم.، اشتركوا في البحث معه عن الورقة السحرية ولو افتراضيا.. أحدهم وكان شابا في مقتبل العمر قال « ابحث عنها ربما تكون في جيبك الصغير.. » التفت إليه.. اقتاده احساسه أن التذكرة توجد فعلا في الجيب الصغير لسروال الجيبنز.. أخرج الورقة البيضاء.. فنال الإفراج المنتظر. ذهب إلى حاله. الرجل الذي كان بجوار المرأة الإربعينية، لم يتحرك للبحث عن الجابي.. رق أخيرا لطلب السيدة الصامت. نهض من مكانه. قال « إجلسي..» بحث عن وقع تنازله عن مقعده بين ملامح وجهها بفضول.. ابتسامته لم يكتب لها أن تكتمل.. بينما مراقبوا التذاكر يقفون أمامه يستعجلون الورقة البيضاء من راكب فقد بوصلة سفره الصباحي فنسي تذكرته عن سابق إصرار وترصد..
سامي محمد-المحمدية