أصبح موضوع الأدب الرقمي من القضايا الأدبية والثقافية المثيرة للنقاش في الساحة النقدية العربية، وهو الموضوع الذي يتنازعه تياران رئيسان أحدهما معارض له متشائم بمستقبله في الساحة الأدبية. وآخر مؤيد له متفائل بما سيحققه من انتصار على حساب الأدب الورقي.
وقد استشرفت الكاتبة إيمان يونس، في كتابها “تأثير الإنترنت على أشكال الإبداع والتلقي في الأدب العربي الحديث” مستقبل الأدب الرقمي العربي المعاصر من خلال توقعها لحدوث تغييرات في ثلاثة محاور أساس وهي:
1 – عولمة الأدب، حيث توقعت أن استمرار الأدب العربي في تطوره في اتجاه الرقمية، سينتهي إلى أدب عالمي من حيث استخدامه للوسائل التكنولوجية الحديثة ؛كتابة وتعبيرا وإبداعا لأجناس أدبية جديدة. ومن حيث “الانتشار والشهرة التي يمكن أن يحققها”.
2 – الحاجة إلى مدارس ونظريات نقدية أدبية جديدة. وبهذا الصدد ترى الكاتبة أن تأثير الانترنت على أشكال الإبداع والتلقي أفضى إلى تميز النص الأدبي الرقمي بخصائص جديدة، الشيء الذي يفرض تغير المعايير التي سيعتمدها الناقد في تقييمه لهذا النص، مما يحتم “التفكير في تنظير جديد يلائم النص الحالي ومواصفاته. والتفكير باتجاهات نقدية جديدة تعنى بدمج التكنولوجيا والأدب معا، والتفكير فيه بنظريات حديثة ومدارس نقدية جديدة تتخذ من الميزات التقنية معايير أساسية لتقييم العمل الفني” وذلك على غرار ألمانيا.
3 – إشكالية تجنيس النصوص. وبخصوص هذا المحور أشارت الكاتبة إلى أن تجنيس الأدب بأصنافه الحالية قديم منذ القرن السابع عشر. إلا أن تيارا من النقاد ينتصر للإبقاء على التصنيف القديم، وآخر ينتصر لإلغاء هذا التصنيف الصارم على اعتبار أنه ليس هناك نص “نقي” بالنظر إلى التحولات الرقمية الحديثة. وعليه ترى الباحثة أن التفكير في التجنيس يكون في اتجاهين: إما الإبقاء على فكرة التجنيس شريطة الأخذ بعين الاعتبار “تطور النوع نفسه وتغير سماته وخصائصه” نتيجة التكنولوجيا. وإما “سقوط الأجناس الأدبية لاستحالة الإحاطة بخصائص النوع في ظل التغيرات السريعة في عصر المعلوماتية”.
وعلى الرغم من هذا التفاؤل الذي له ما يبرره في الواقع بالنظر إلى الطفرة التكنولوجية التي تتطور يوما عن يوم، فإن واحدة من الحجج التي ساقها التيار المعارض للأدب الرقمي وهي أن” الذهن البشري هو مصدر الإبداع وليس الآلة” على اعتبار أنه لا يمكن لجهاز بارد أن يترجم الأحاسيس والمشاعر أو أن يبدع أدبا في أبعاده الفلسفية، هي حجة جديرة بالنقاش. وهو ما سنحاول تناوله في هذا المقال في قضيتين رئيستين، الأولى تتعلق بإمكانيات إنتاج الآلة الرقمية للأدب محل الإنسان وسؤال الغاية في ذلك. والثانية تخص الأدب الرقمي العربي ومستقبله.
1 – آلة رقمية تنتج أدبا محل الإنسان.
على مستوى القضية الأولى فإن الحديث عن الإبداع الأدبي لا ينفك عن اللغة والثقافة والفكر، وهذه العناصر الثلاثة وثيقة الصلة بالعقل البشري، وهذا الأخير هو السمة المميزة للكائن الإنسان عن باقي المخلوقات بما فيها تلك التي صنعها الإنسان بذكائه. وفي هذا الإطار يذهب “جيمس تريفل James Trefil ” وبمنهج علمي بعيدا عن الجدل الفلسفي أو الديني، إلى أن العقل البشري معقد لدرجة الاختلاف نوعيا عن الحواسيب التي هي في النهاية من نتائج القدرات الذهنية للعقل البشري. وقد خلص في دراسته ـ التي قارن فيها العقل البشري بالحيوانات والحواسيب ـ إلى أن الحاسوب لن يصل في أي زمن إلى كامل قدرة العقل البشري الفكرية.
وبالعودة إلى علاقة الإبداع باللغة والثقافة، ومن منطلق أن “اللغة انعكاس للثقافة”، يمكن التساؤل حول: من أين تكتسب الآلة الرقمية الثقافة لتنعكس فيها لغة الإبداع الأدبي؟ أم أن الأمر سيكون برمجة عالمية عبر إدخال مجموعة خصائص لنوع أدبي معين إلى الآلة ثم بناء عليها تنتج أدبا رقميا. وفي هذه الحالة هل تستطيع الآلة أن تطور في الإنتاج أم عليها أن تنتظر تفاعل العقل البشري مع متغيرات العالم الثقافية لينتج هو أشكالا أدبية جديدة ثم يبرمج الحاسوب مرة أخرى لإنتاجها؟
لكن الحسم في هذه التوقعات أمر صعب بالنظر إلى التطورات العلمية الرهيبة في مجال الرقميات والروبوتات. ولئن كانت اليوم الآلات الرقمية تستنسخ عمل الإنسان، فإنه يصعب التكهن بما يمكن أن تصبح عليه أدمغة هذه الآلات في ظل تكنولوجيا النانو بوصفها جزيئات متناهية الصغر.
وفي هذا الإطار يفترض جيمس تريفل James Trefil أنه ما دام “الدماغ ليس أكثر من نظام مادي مؤلف من ذرات وجزيئات” فإنه “من الصعب نكران إمكان تنفيذ برنامج مادي لبناء دماغ و وعي اصطناعي” وإن كان العالِم نفسه يرى أن “الآلات التي نصنعها في يومنا هذا بعيدة جدا عن هذا المستوى”.
وفي حالة الوصول إلى هذا الإنجاز العلمي فإن الإنسان العاقل المنتج للثقافة والأدب عبر اللغة يصبح “مجرد مرحلة عبور بين الحيوانات والذكاء الجديد القائم على السيليكون” . فتحل تلك الآلات الرقمية محل الإنسان وتسمى حينها “أشكالا حية”. “ويقترح أنها ستحل محلنا بالطريقة نفسها التي حلت بها الحيوانات الثديية محل الديناصورات منذ 65 مليون سنة ماضية”.
إن هذا السيناريو في حالة حدوثه على صعيد الأدب الرقمي، أي أن تحل الآلة محل الإنسان في الإبداع الأدبي ، يثير أسئلة أخرى تتعلق بالغاية من وراء سعي الإنسان إلى تلك اللحظة الفارقة في تاريخه. ومن هذه الأسئلة: لماذا السير في اتجاه حلول الآلة الرقمية محل الإنسان في الإبداع الأدبي؟ وما الغاية من ذلك؟ هل لحاجة الإنسان إلى من يساعده في الإبداع؟ أم لحاجة الآلة نفسها التي حلت محل الإنسان؟
إن مثل هذه الأسئلة ليس هدفها وقف التطور التكنولوجي في هذا المجال، ببساطة لأن التطور التقني حتمية تاريخية وهو حلقة ضمن سلسلة الطفرات التي تحدث بين فينة أخرى وعلى مدى آلاف في الكون وعلى مدى قرون في الحياة الإنسانية. ولكن الهدف هو استشراف مستقبل الأدب الرقمي الذي بلغ درجات كبيرة من التطور في الغرب، ومستقبله في العالم العربي الذي ما يزال يبحث عن موقع له في هذا الأدب.
2 – آفاق الأدب الرقمي العربي.
أما على مستوى القضية الثانية المتعلقة بالأدب الرقمي العربي فالثابت أن الأنترنت ـ كما خلصت إلى ذلك الكاتبة إيمان يونس ـ أثرت بشكل كبير على أشكال الإبداع وتلقي النص الأدبي العربي، بغض النظر عما إذا كان تأثيرا سلبيا أو إيجابيا. لكن عندما تطرح فكرة ضعف المساهمة العربية في الأدب الرقمي والتفاؤل بمستقبلها، فإن مناقشتها ينبغي أن تنطلق من كون الأدب عموما جزءا لا يتجزأ من المنظومة الفكرية والفلسفية والثقافية لشعب معين.
وعليه يمكن القول إن الأدب الرقمي في الغرب هو نتيجة طبيعية لتحولات فلسفية فكرية حداثية انطلقت مع عصر النهضة والأنوار عندما تم التأسيس لسلطة العقل مع روسو وفولتير وتحديدا “إيمانويل كانط” الذي يمكن اعتبار فلسفته نواة الرقمية. من ثم فإن الحركة الفنية والإبداعية الغربية كانت انعكاسا لواقعها فقامت بدور فعال في الثورات الغربية من خلال الكثير من الأشعار والمسرحيات مثل أشعار توماس إليوت، ومسرحيات ألبير كامو وجون بول سارتر. وغيرهم.
لكن الشاعر العربي عندما أراد استلهام تجربة الشاعر الغربي لتغيير واقعه فشل في ذلك وتحولت أشعاره إلى غربة وضياع، وربما هذا ما جعل الشاعر والناقد الراحل أحمد المجاطي ينسف أطروحته “ظاهرة الشعر الحديث” بأطروحة ثانية عنونها بـ “أزمة الحداثة في الشعر العربي” حيث يقول: “بعد ذلك قررت أن أعود إلى ذلك المتن وما سيكتب بعده من شعر لأقرأه بعيون جديدة، وكان لا بد أن أخلي ذهني من كل القناعات التي ترسبت فيه حول موضوع الحداثة الشعرية لأبدأ من نقطة الصفر”.
لذلك يثار السؤال حول سبب هذا الفشل. وربما يعود في جزء منه إلى أننا في العالم العربي لم نعش مخاض تجربة نهضوية شاملة فلسفيا وفكريا وثقافيا وأدبيا لكي تكون مرجعية يستند إليها الأدب الرقمي العربي، على اعتبار أن أي علم تقني لا يأتي من فراغ بل لابد أنه مسنود بمرجعية فلسفية معينة.
صحيح أن الرقمية ألغت كل الحدود الجغرافية، وعليه فإن الأدب المحمول على الآلة الإلكترونية أصبح عالميا وهو ما يجعل أي إنتاج أدبي عربي إنتاجا “عالميا من حيث الانتشار والشهرة التي يمكن أن يحققها”، لكن في غياب مرجعية فكرية فلسفية مؤسسة للتقنية في الدولة العربية فإن أي محاولة إبدعية عربية نتوقع أنها ستكون محدودة وفردية، وهذا ربما ما يفسر هذا الضعف على مستوى الأدب الرقمي العربي.
وبالعودة إلى فكرة أن الإبداع الأدبي عالميا لا ينفك عن اللغة والثقافة والفكر، وهو بذلك جزء من منظومة فلسفية لها رؤيتها للحياة والإنسان تنعكس في كتابات المبدعين في الغرب، فإن مقتضى التراكم الحضاري الإنساني يستوجب منا النظر في مآلات الحداثة الغربية التي بنيت على عناصر: الإنسان والعقل والدنيا، وأقصت عناصر: الله والوحي والآخرة.
وأكبر تجليات هذه المآلات هي حلول الإنسان محل الإله مع فلاسفة عتبة الحداثة ثم ما بعد الحداثة، فحقق الإنسان الغربي الكمال في بعده المادي والشقاء في بعده الروحي. وهو يسير في الإتجاه ذاته لتحل الآلة الرقمية محله فتنتج الأدب مكانه. فهل من الضروري أن نتبع الحداثة الغربية خطوة خطوة وتقليدا بدون إبدع؟ هذا في الوقت الذي تنتقد تلك الحداثة من داخلها نقدا جبارا ويكفي الاشارة هنا إلى كتابات ماكس فيبر، و هابرماس، آلان توغين.
ونظن أن الحديث عن الأدب الرقمي العربي حاليا وفي المستقبل يجب أن يكون ضمن مقتضى التراكم الحضاري الإنساني الذي يقرأ السيرورة التاريخية للحضارة الإنسانية ونتائجها على الإنسان ليقدم الأدب الرقمي العربي جوابا إنسانيا في إبداعه الأدبي الذي حتما لا مستقبل له بدون تفاعله مع الآلة الرقمية.
خلاصة:
يبقى موضوع الادب بين إنتاج الألة وإبداع الإنسان عالميا وعربيا موضوعا ديناميكيا مثيرا للكثير من النقاش، ولذلك سنترك الباب مفتوحا على إشكالية أخرى تتعلق بأن أبرز سمة تميز عالم الرقمية هي أن المصدر الأول الذي تنطلق منه هو المجال العسكري، أي أن خلفيتها حربية تدميرية، وبالتالي تحكمها ثقافة الغزو. والسؤال هو ما فائدة الرقمية في عالم عربي لا ينتجها بل يستهلكها؟ وألا يتأثر الادب الرقمي بهذه الخلفية العسكرية فيصبح أدبا للغزو بدل أن يكون أدبا للتعبير عن المشاعر والاحاسيس الانسانية التي تقمعها التقنية؟
مصطفى هطي
الهوامش:
1- د. إيمان يونس .”تأثير الإنترنت على أشكال الإبداع والتلقي في الأدب العربي الحديث” دار الهدى للطباعة والنشر كريم / دار الأمين للنشر والتوزيع، الأردن – عمان / فلسطين – رام الله، 2011.
2- المرجع نفسه، (ص. 340).
3- المرجع نفسه، (ص.345).
4- المرجع نفسه، (ص. 351).
5- المرجع نفسه، (ص.305).
6- (جيمس تريفل James Trefilهل نحن بلا نظير؟ عالم يستكشف الذكاء الفريد للعقل البشري، تأليف جيمس تريفل، ترجمة ليلى الموسوي، عالم المعرفة، عدد 323 ،يناير 2006.
7- (غاي دويتشر Guy Deutscher “عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفا بلغات أخرى؟، ترجمة حنان عبد المحسن مظفر، عالم المعرفة، عدد 429، أكتوبر 2015).
8- (ألف جيمس تريفل James Trefil هذا الكتاب سنة 1997 وترجم سنة 2006) ومنذ لك التاريخ إلى اليوم لاشك أن البحث العلمي في تكنولوجيا الرقمية عرف تطورت كثيرة. (ص.223).
9- هل نحن بلا نظير؟ عالم يستكشف الذكاء الفريد للعقل البشري .مرجع مذكور. ص. 202)
10- المرجع نفسه والصفحة نفسها.
11- للتوسع أنظر أحمد المعداوي، ظاهرة الشعر الحديث، الطبعة الثانية، 2007. حيث يتحدث عن اشكال غربة الشاعر العربي وعجزه في الصمت وفي الكلمة التي أرادها أن تكون مؤثرة في واقعه محفزة للشعوب، لكنها بقيت محدودة الانتشار.
12- «أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث»، ص .6. نقلا عن الموقع الالكتروني: http://www.cours4.com/2013/03/blog-post_1534.html
13- إيمان يونس، مرجع سبق ( ص.249)
14- يمكن الرجوع إلى كتاب “نقد القراءة الحداثية للدين والتراث” مصطفى الجباري الذي يتحدث في فصله الأول عن سر شقاء الضمير الجمعي للحضارة الحديثة. مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء. الطبعة الأولى. دجنبر 2016.
المراجع:
1 ـ د. إيمان يونس .”تأثير الإنترنت على أشكال الإبداع والتلقي في الأدب العربي الحديث” دار الهدى للطباعة والنشر كريم / دار الأمين للنشر والتوزيع، الأردن – عمان / فلسطين – رام الله، 2011.
2 ـ جيمس تريفل James Trefilهل نحن بلا نظير؟ عالم يستكشف الذكاء الفريد للعقل البشري، تأليف جيمس تريفل، ترجمة ليليى الموسوي، عالم المعرفة، عدد 323، يناير 2006.
3 ـ غاي دويتشر Guy Deutscher “عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفا بلغات أخرى؟، ترجمة حنان عبد المحسن مظفر، عالم المعرفة، عدد 429، أكتوبر 2015).
4 ـ أحمد المعداوي المجاطي، ظاهرة الشعر الحديث، الطبعة الثانية، 2007
5 ـ “نقد القراءة الحداثية للدين والتراث” مصطفى الجباري الذي يتحدث في فصله الأول عن سر شقاء الضمير الجمعي للحضارة الحديثة. مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء. الطبعة الأولى. دجنبر 2016.