مدّ يده بسرعة إلى وجهه النّحيل ومسح بكمّه دمعة حارّة نزلت من عينه على حين غرّة قبل أن ينتبه إليه أبناؤه فهو لا يريد أن يبدو ضعيفا أمامهم أو أن يشعروا بحزنه ولكن كيف لهم أن يشعروا بحزنه وهم ينظرون إلى ساعاتهم الذهبية بين الفينة و الأخرى بدلا عن عينيه• لكن سرعان ما علت وجهه الحزين ابتسامة عريضة عندما دخلت رقيّة وهي تحمل صينية عليها سبعة فناجين قهوة•كان يحبّها حبّا جمّا ويؤثرها على إخوتها الخمس فقد ورثت عيني أمّها اللّتين تشعان رقّة وطيبة• ابتسمت رقيّة وهي تناوله فنجان القهوة التي تعبق منها رائحة ماء الزهر•ٲخذ رشفة من قهوته ونظر إليها بحبّ •كانت كقهوة حبيبته•
مرّت ساعة كاملة ولم ينبس العجوز ببنت شفة•كان الأبناء الأربعة ينتظرون ردّه على أحر من الجمر •لقد مضت ثلاث سنوات على موت أمّهم وما تزال رائحة عطرها في كل مكان فهو يرشّ عطرها كل صباح ومساء في كل ركن من أركان البيت •كانت قارورة عطرها الخيط الوحيد الذي يربطه بالحياة بعد مماتها•
تململ الابن الأكبر في كرسيّه الوثير وتنحنح كي يلفت انتباه العجوز إلى وجوده إذ لم يعد بوسعه الانتظار أكثر فالوقت من ذهب وٳن لم يستغله لصالحه سوف يضيع كل الذهب• أنهى العجوز قهوته ومدّ يده لتناول الفنجان الوحيد على الصينية :فنجان زوجته •في الماضي كان الآباء يختارون زوجات لأبنائهم على قدر من الجمال والأخلاق حتى يعيشوا في كنف السعادة أمّا هذه الأيام فلقد انقلبت الآية وصار الأبناء من يختار زوجات لﺁبائهم لا ليهنؤوا ولكن ليستعبدوهم فهم ما يفتؤون يسوقون له صبية تلو الصبية وفي كل مرة تكون الصبية ٲصغر وأجمل عسى أن تسلبه لبه وتلهيه عن ذكر زوجته ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل فما من جمال ينسيه حبه الأول •
وضع الابن الأكبر فنجان القهوة على الصينية وأردف قائلا:” لقد وهن العظم منك وأصبحت عاجزا عن الاعتناء بنفسك •أنت تحتاج شخصا يرعاك ليلا ونهارا فرقيّة لا يمكنها أن تظل معك طوال اليوم إذ عليها الاعتناء بعائلتها الصغيرة أيضا•أنت تحتاج إلى زوجة تهتم بك وتؤنس وحدتك•انظر إلى البيت كم أصبح كئيبا! وحدها صبية جميلة يمكنها أن تبعث فيه الحياة •”
˗ومن سترضى بالزواج من رجل يقف على حافة قبرهˁ
˗أطال الله في عمرك يا أبي • صاحت رقيّة والعبرات تخنقها•
˗العروس موجودة ولم يبق إلا موافقتك •
ابتسم العجوز حتى بانت نواجذه ليس لأن الزواج من صبية حلوة راقه ولكن لسذاجة ابنه البكر•
كان الأبناء يحاولون تزويجه قبل ا ن يأتي على كل المال فلقد أنفق نصف ثروته على الأعمال الخيرية والصدقات حتى أنّه جنّ جنونهم عندما علموا أنّه تصدق بيخته لبحار فقير سرق قاربه من قبل شرذمة من المهاجرين إلى ايطاليا سرا•كان يتصدق بأموال طائلة على روح زوجته • فقسط منها ينفق على المستشفيات الحكومية وقسط ﺁخر على اليتامى وهاهم يحاولون باستثناء رقية إنقاذ ما تبقي من ثروته •كان عليهم أن يفهموا أن حبه لأمّهم كبيرا لا يعرف حدودا فمملكة حبها تمتد إلى ما بعد الموت وهم واهمون أن ثغرا جميلا أو رنّة خلخال يستطيع أن يأسر قلبه فيعلن ولاءه لملكة أخرى•
بدأ صوت الابن الأكبر يخفت شيئا فشيئا واجتاح الغرفة ضباب فلم يستطع إلا تمييز ابتسامة رقية الحنون • شعر وكان شيئا ما يأخذه و يحلّق به بعيدا بعيدا •••
وفجأة تدحرجت قارورة عطر فارغة من يده التي تدلّت بلا حراك •انتفضت رقية من مكانها وارتمت على أبيها الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة مضيئة وبدت عيناه كعيني عاشق ذاهب إلى لقاء حبيبته•
سهام حمّودة – تونس
نص قصصي جميل ومعبر، رمزية القارورة ورائحة العطر تختزل في ثناياها حياة مليئة بالذكريات والأحاسيس النبيلة.
نظرة الأبناء إلى مؤسسة الزواج تختلف عن نظرة أبيهم ما جعلهم يفشلون في إقناعه بالزواج مرة أخرى رغم العروض المسيلة للعاب الرجل بصفة عامة(شابة جميلة…).
المرأة نصف الرجل والعجوز فقد نصفه ولذلك لم يبقى له شيء يعيش من أجله سوى ترقب لحظة اجتماعه برفيقة حياته من جديد.
أسلوب أدبي رائق وسلس، والمتواليات السردية جاءت دائرية وفي خط استرجاعي (زمن السرد) ثم تحولت في النهاية إلى الحدث المنتظر ألا وهو موت العجوز، وتنفس الإبن الأكبر الصعداء لأن أباه ترك ولو شيئا يسيرا من ثروتة لهم.