الكرم أصل المحاسن كلّها، فهو جامع لصفات البذل والعطاء والإنفاق وطيب النفس، وهي صفات حميدة ملتصقة بالشخصية العربية، تم توارثها عبر الأجيال، وأيدها الإسلام لما تحمله من قيم الوفاء والمروءة والشجاعة والإباء، ونبذ في المقابل الشح، والبخل، واللؤم، وغيرها من الصفات والسلوكيات غير الحميدة.
لكن مع تغير العصر وتبدل الأحوال، صارت مجموعة من القيم والموروثات الثقافية والاجتماعية في تغير مستمر، منها من يستمر في الحضور ويظل سلوكا متأصلا، ومنها من يتلاشى ويصبح من المأثورات البائدة، لكن قيمتي الكرم والمروءة تظل حاضرة، رغم اختلاف تمظهراتها في مجتمعاتنا العربية، وتغير أحوال المجتمعات، لأنها بمثابة الجينات التي يتوارثها الإنسان العربي، وإن بدرجات متفاوتة.
قد يعتقد البعض أن الحديث عن قيمتي الكرم والمروءة اليوم يعد ضربا من الخيال، خاصة أن استفحال النزعة الفردانية والاهتمام بالذات أصبحتا طاغيتين بشكل كبير، كما أن التحولات المتسارعة التي تعرفها المجتمعات قد عصفت بأجمل القيم، ولكن مع ذلك يمكن القول إن التحول الفكري والثقافي الذي طرأ على المجتمعات العربية لم يؤثر كثيراً على صفة الكرم، ولم يقلّل من شأن الاهتمام بالضيافة والتضحية من أجل الضيف، وطالب الجوار، واللاجئ، وعابر السبيل، حيث شهدنا في السنوات الأخيرة تزايد الاهتمام بكرم الضيافة وتقدير اللاجئ وعابر السبيل على وجه الخصوص، ولعل ما يلقاه اللاجئون السوريون اليوم في أغلب البلدان العربية والعالمية من اهتمام وتقدير وعناية، هو أكبر مثال على ترسخ قيمة الكرم في مجتمعات هذه البلدان المستقبلة لهم، إضافة إلى أن ما يلقاه بعض عابري السّبيل من المهاجرين غير الشّرعيين الأفارقة في المغرب، مثلا، من كرم واهتمام بهم على المستوى المادي والمعنوي، يوضح بجلاء تقدير المجتمع المغربي للضيافة وحماية الضيوف وإكرامهم، حتى يجدوا مخرجاً لمعاناتهم.
ومع ذلك لا مناص من الاعتراف بأن عصر الثورة الرقمية قد أفرز المزيد من العلاقات الجديدة، والتي كان لها الإسهام المباشر في نهاية وغياب مفاهيم ومضامين كانت في أشدّ أحوال الرّسوخ والثبات، حيث أصبح من اللازم في الوقت الرّاهن، كما يرى الكاتب العراقي إسماعيل نوري في حوار هذا الملف، القطع مع التعاطي مع اليقينيات الجاهزة، بعد أن تسيّدت العالم ثقافة الصورة.إن عصر الثورة الرقمية والمعلوماتية، أصبح أشدّ كلفة وأكثر تعقيدا، مقارنة مع العصر الصناعي أو الزراعي، لأن قيم الاستهلاك صارت تطغى على واقع المروءة، كما أن معنى العالم بالنسبة إلى السخي الجواد الكريم صار مرتهنا بمدى حصوله على النماذج الجاهزة، والتي باتت تشكل حاجزا بينه وبين الواقع.
لتسليط الضوء على موضوع الكرم، والبحث في أهم القضايا المرتبطة بالضيافة وتحولاتهما على مستوى التفكير والسلوك، والموقف في المجتمع العربي المعاصر، خصصت مجلة “ذوات” الثقافية العربية الإلكترونية الشهرية، الصادرة عن مؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث” ملف عددها الخامس والأربعين لموضوع “الكرم والمروءة… أية قيم لزمن الاستهلاك والتحوّل؟!”، حيث قدم فيه منسق الملف، الباحث المغربي عزيز العرباوي، مقالا بعنوان: “الضيافة والكرم في العالم العربي”، يتناول فيه مفهوم الضيافة وأهميتها في المجتمع العربي والإسلامي قديماً وحديثاً، وبعض تجلّياتها وآدابها التي تفيد في تحقيق هذا الخلق الاجتماعي وهذه القيمة الإنسانية التي بدأت تفقد أهميتها في المجتمع العربي المعاصر نظراً للتغير الاجتماعي الذي يعرفه المجتمع العربي عموماً.
ويتضمن ملف العدد (45) من مجلة “ذوات”، ثلاثة مقالات لباحثين عرب، هي: “الضيافة والتغير الاجتماعي العربي” الباحث المغربي الزبير مهداد، و”الكرم والضيافة في البيئة البدوية العربية” للباحثة البحرينية أمينة الفردان، و”الضيافة… جدل الذات والآخر: مقاربة أنثروبولوجية ثقافية” للباحث المصري محمد عبد الباسط عيد. أما حوار الملف، فهو مع الباحث والكاتب العراقي إسماعيل نوري، الذي يقف عند مفهوم المروءة، ويفضله على الضيافة والكرم، لما له من قيمة معنوية ودلالية تدل على قيم وأخلاق الرجل العربي المسلم، موضحا أن معالجة الواقع الرّاهن، الذي يعيش أحوالا وتفاصيل خاصة مستحدثة، تتم تحت طائلة المعالجات القديمة التي برزت خلال فترة لها خصوصيتها وتفاصيلها المتعلقة بشروط إنتاج العلاقات والمعاني خلال حقبة معينة، لها شروطها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بها، وبهذا الشكل نقوم بكل ما أوتينا من جهد بإلباس ثوب شديد الضيق لجسد كبير الحجم، وهو ما نقوم به مع قيمتي المروءة والكرم.
وبالإضافة إلى الملف، يتضمن العدد (45) من مجلة “ذوات” أبوابا أخرى، منها باب “رأي ذوات”، ويضم ثلاثة مقالات: “تجليات الكونية والنسبية في المعتقدات الدينية الثقافية “للكاتب والباحث المغربي الحسين أخدوش، و”الاتجاه الفلسفي في فكر طه حسين” للباحثة المصرية سامية صادق سليمان، و”محمد أركون: منطق الضرورة إلى علم كلام إسلامي جديد” للباحث والكاتب الأردني ضرار علي بني ياسين؛ ويشتمل باب “ثقافة وفنون” على مقالين: الأول للكاتبة السورية ميسون شقير بعنوان “سليم بركات يهب “سبايا سنجار” موتا جديدا”، والثاني للشاعر والناقد المغربي إسماعيل علالي بعنوان “جماليات التّناص التراثي في ديوان “وقت بين المديح والرثاء” للشاعر المغربي الزبير خياط”.
ويقدم باب “حوار ذوات” حوارا مع النّاقد والروائي المغربي عبد الرحيم جيران.الحوار أنجزه الإعلامي المصري خالد حماد.أما “بورتريه ذوات” لهذا العدد، فقد خصصناه للمفكر التونسي محمد الطالبي (1921-2017)، مربي الأجيال التونسية، والزاخر العطاء، المفكر المجدد المستنير، والمحارب الشرس للظلامية الدينية.البورتريه من إنجاز الكاتب والإعلامي التونسي عيسى جابلي.
وفي باب “سؤال ذوات”، يطرح الكاتب والباحث الأردني مروان العياصرة سؤالا غاية في الأهمية في وقتنا الحالي، يتعلق بمنظومة الأخلاق، حيث يوجه سؤال: ما هي أسباب تردّي منظومة القيم والأخلاق في مجتمعاتنا؟ لمجموعة من الباحثين العرب، وفي “باب تربية وتعليم” يقدم الكاتب والباحث التربوي التونسي، مقالا حول “إعادة بناء الشكل المدرسي، طريقة في إصلاح النظام التربوي”، فيما تقدم الباحثة المغربية في علم الاجتماع نجاة الوافدي في “باب كتب” قراءة في كتاب “المرأة وصنع القرار في المغرب “للدكتور المختار الهراس، وذلك في باب كتب، والذي يتضمن أيضاً تقديماً لبعض الإصدارات الجديدة لمؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”، إضافة إلى لغة الأرقام، الذي نعرض فيه أهم ما جاء في تقريرالأمم المتحدة العالمي للسعادة، الصادر حديثا عن شبكة حلول التنمية المستدامة، بمناسبة اليوم العالمي للسعادة (20 مارس/ آذار)، وهو التقرير الذي تصدرت فيه فنلندا قائمة الدول الأكثر سعادة في العالم، وجاءت بوروندي في ذيل ترتيبه.