تمكن المسرح الجزائري الذي رأى النور في سياق استعماري، من بناء مجاله التعبيري من خلال الاستلهام من التراث العالمي والقضايا الاجتماعية والسياسية للمجتمع الجزائري.
وعلى مدى السنوات، رأت النور فرق مسرحية قدمت أعمالا تمثل الجزائر في مرحلة الاستعمار، ومرحلة الثورة فمرحلة الاستقلال، ثم الجزائر في ظل المعاناة من الإرهاب، وأخيرا لإظهار الجزائر المعاصرة التي تسعى إلى التخلص من العقائد والرقابة والخطاب “الرسمي” المفروض.
إن استحضار التاريخ سواء كان يعتمد على موضوع أو كأداة للعرض طبع فترات قوية من تاريخ الشأن المسرحي في حد ذاته. واستطاع المسرح الجزائري كأداة للبحث في الماضي أو كمجرد وسيلة للاحتفال بالذكرى، بناء جانب كبير من رسوخه في الممارسات الثقافية من خلال الأعمال التاريخية التي تمكن من تقديمها.
ولكن بعيدا على النقاش والجدل حول ظهوره، يبدو من المفيد استحضار تاريخ ماي 1853 عندما أمر الماريشال راندون الحاكم العام آنذاك، ببناء دار للأوبيرا، لتصبح في ما بعد أوبرا أمبيريال في الجزائر العاصمة التي دشنها في 29 شتنبر 1853. وحول المبنى في ساحة تانتونفيل، رأت مسارح أخرى النور، وقدمت عروضا راقصة وموسيقية وأجواقا للموسيقى الكلاسيكية ولوحات من رقص الباليه فضلا عن فرق كانت تتألف من هواة ينحدرون بالأساس من أسر المعمرين.
وعشية الحرب العالمية الأولى، ظهرت شخصيات مختلفة في عروض الكراكوز لتشكل تدريجيا رصيدا حقيقيا كان يقدم في الاحتفالات مثل حفلات الزفاف والختان أو زيارات الزوايا والتي كانت تقدم خلالها عروض من الموسيقى يؤديها سكان من المناطق الحضرية.
كما كانت تشارك في تلك الاحتفالات عروض لمجموعات عيساوة التي ستترك بصمة بارزة في منطقة المغرب العربي نظرا للطابع المثير للرقصات المقدمة. ولكن عروضا غربية مثل البولفار أو الفودفيل تمكنت خلال فترة الاستعمار بالجزائر، من أن تؤثر في رواد المسرح الجزائري من خلال شخصيات من قبيل رشيد قسنطيني، وعلالو ومحيي الدين بشطارزي.
وشكلت هذه الوجوه النواة الأولى للمسرحيين الجزائريين الذين سيصاحبون بشكل قوي حركة تحرر الشعب الجزائري؛ ثم خلال الثورة الجزائرية، وتمكنت فرق مسرحية من القيام بجولات في العديد من البلدان للتعريف بالمعركة التي كان يخوضها الجزائريون ضد الاستعمار.
وبعد الاستقلال، سيتبع المسرح الجزائري نفس مسار السينما. ومع ذلك، فإن ميزة المسرح كانت تتمثل في كونه أكثر نقدا لبعض تحولات المجتمع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شهدها المجتمع الجزائري. وكان مسرحيون موهوبون من أمثال قدور نعيمي وكاتب ياسين، من وراء تقديم مسرحيات تعكس المواضيع الرئيسية لانشغالات الجزائريين إزاء التحولات في الأوضاع والعادات.
وبعد ذلك ظهرت موجة جديدة من الممثلين الشباب والكتاب المسرحيين على الساحة المسرحية، لتكتب ملحمة قادتها وجوه مثل عبد القادر علولة، وعلال محب وحاج اسماعيل ومحمد الصغير، وعز الدين مجوبي، وسليمان بن عيسى. هذا الجيل الجديد من الفنانين حمل مشعل الرواد وأثار ظهور العديد من المجموعات التي عملت من خلال الإبداع المسرحي، على إيجاد ثقافة جزائرية، على الرغم من التأثير التاريخي لثقافة المستعمر.
وسيعمل البعض، مثل عبد القادر علولة، على تأسيس فرقة مستقلة تقوم على نموذج شبه احترافي. وأسس محمد بودية، من جهته تحت إشراف وزارة التربية والتعليم، المسرح الوطني للجزائر العاصمة الذي سيكون المسؤول الأول عنه وسيقوم بتأميم جميع المسارح في أفق قيام مسرح جزائري ذي توجه عالمي.
ويتميز النشاط المسرحي الجزائري حاليا ببرامج إبداع محلية واقتباس لمسرحيات شهيرة. وتتوفر الجزائر على مسرح وطني وسبعة مسارح جهوية والعديد من الفرق التي تنتمي إلى ما يسمى بـ”مسرح الهواة”.
وتوجد في الجزائر كما هو الحال في باقي بلدان العالم العربي، أشكال للتعبير المسرحي، مثل رواة القصص في الحلقة، تضاف إليها أشكال أخرى، مثل التمثيليات التي تعرض في المواسم، أو مسرح الظل. ومع ذلك، فإن النقاش يحتدم بين المختصين لمعرفة ما إذا كانت هذه الأشكال قد أثرت على المسرح أم لا، حيث يرى البعض أنها شكل من أشكال المسرح البدائي، في حين أن آخرين يؤاخذون على أصحاب ذلك الرأي كونهم يعتمدون رؤية غربية.
وتنبغي الإشارة إلى أنه في ظل الأزمة التي تهب على البلاد، فإن نصوصا جديدة ترى النور، وهي من تأليف كتاب مسرحيين يجدون مكانا لهم في إرث المؤلفين السابقين مثل علولة وكاتب ياسين. وهم يتميزون من خلال كتابة جديدة. هذه الكتابة التي لا تؤكد بوضوح التزامها، تعتمد النقد من خلال السخرية، والهذيان كما لدى مصطفى بن فضيل، أو من خلال العودة إلى المعطيات التاريخية والاجتماعية كما هو الحال لدى ميساء باي.
ويعتقد البعض أن المسرح الجزائري الحالي هو بصفة عامة انعكاس للطبقة التي تهيمن على الوضع الثقافي في البلاد، وهي بدورها، نتاج نظام اجتماعي قائم في البلاد. وبالتالي فليس المسرح الجزائري فقط هو الذي يفتقر إلى الاستقلالية والتنظيم، وإنما مختلف المجالات الاجتماعية.
ومن أجل إحياء الفن الرابع، فإن المحترفين يدعون المؤلفين الشباب إلى الاقباس من الأعمال الشهيرة في الأدب الجزائري. وينطبق الأمر نفسه على المخرجين، المطالبين بخلق أدوات جديدة تتيح تقديم إبداعات فنية أفضل.
ومن شأن ذلك أن يستقطب الجمهور ويجعل المسرح يستعيد شعبيته وأصالته.
حميد أقروط