تسلل القمر مغادرا السماء , وخلعت الأشجار رداء الليل الخاشع حين احتضر وجرجر أذياله, وحل النهار تناغيه سماء ندية الأنفاس, حينها أدرك عظمة اللحظة مع مولد الوجود في بواكير الصباح, وخرج من بيته مبتهجا نشيطا كعادته يفيض وجهه بالبشر والحيوية, متجها لإحدى الإدارات لإنهاء بعض الأوراق المطلوبة.
وصل في التاسعة والنصف, ورغم ذلك وجد المكان خالياً , فانتظر بعض الوقت حتى جاء سيادته عبوساً بسمرته, يرتدي قميصاً أبيض وبنطال أسود بهت من الجرب, يحمل كيساً بداخله بعض الأطعمة , ويتدلى منه عيدان البصل الأخضر وأوراق الفجل والجرجير. وضعها على مكتبه وهو يزفر ضيقاً من شيء مجهول, وبجسد مكدود وجفون متشبثة بالنوم وأهداب تكلبش في الكسل التصق بمقعده .
اقترب منه فقابله بنظرة حادة مسنونة كالسيف, وهو يضرب كفاً بكف ويتمتم بعبارة ” اصطبحنا واصطبح الملك لله” , وبجلف وأسلوب يفتقر إلى الأدب نهره وأمره بالانتظار حتى ينتهي من إفطاره.
أذعن وانتظر – في الطرقة المواجهة للمكتب – نصف ساعة أو يزيد , ثم عاد فوجد آثار معركة حربية دارت رحاها على سطح المكتب. بقايا فول في طبق فلين, وأشلاء فلافل ممزقة بوحشية تسيل منها الخضرة فتعكس وحشية من كان يأكلها, ترقد بجوارها بقايا ورقات البصل , وتكفنها أوراق الفجل المتهرئة, وعلى طرف المكتب تقبع قطعة جبن يتيمة, بحجم حبة الترمس استطاعت الإفلات بأعجوبة من تلك المجزرة الشرسة, وحول المكتب يلتف مجموعة من الموظفين اللذين تسببوا في كل هذا الدمار, منشغلين بتسليك أسنانهم البالية بأعواد الثقاب, ليكتمل المشهد ويفيض بالاشمئزاز الذي يشعر به دوما كلما كان أمام جبلاية قرود متسخة من فرط البقايا والمخلفات.
الوقت يمضى وهو يقبع في سفح السكون , يجثم فوق صدره إحساس بالملل , ولكنه يرنو بشوق لإنهاء حاجته, فيصبر نفسه الخائرة ويعللها بالفرج, لكنه كلما نظر إلى ساعته أدرك أنه لا قيمة للوقت هنا , في ذلك المكان الموحش, المكدس بالأثاث الصدأ والملفات المتربة والنوافذ المهشمة والمراوح المعطلة.
بعدها ظل يدور في حلقة مفرغة من الرحلات المكوكية التي انتهت بلا نتيجة, فتطلب الأمر عودته في الصباح الباكر لإعادة المحاولة, وخوض غمار المعاناة مرة أخرى , محاصراً بين شهيق الرغبة في قضاء حاجته, وزفير العجز الذي يحويه أمام هذا المشهد السوداوي, حين وقر بوجدانه أنه لا شيء وبلا قيمة , فمن يكون حتى ينظر له سيادته ويفرغ له وهو صفر على هامش الحياة, لا يراه إلا رقما في عمود مسلسل ليس المطلوب أن يقرأه رقماً رقماً, بل يكفيه أن يعرف حاصل جمعه ليطرحه من حاصل جمع عمود آخر فيعرف صافي رصيده, حينها أدرك أنه وأمثاله من المطروحين , لزاماً عليهم أن يخفضوا عيونهم وينكسون هاماتهم , ويتهامسون إذا تكلموا لأن الكلام هنا جنحة والصوت المرتفع جريمة , ولا سبيل لتحقيق المراد إلا بالمعارف أو المال, فتحمل عبء الثانية ودفع فدفعت حاجته وانتهت على أكمل وجه.
عاد إلى بيته يستخرج أوراقه مبهوراً بانجازه المكلف, لكنه فزع حينما رآها وأدرك أنه نسي أن يختمها , فتجسدت أمامه رحلة عذاب أخري , يتقدمها تابوت الملل الذي يحمله سيادته وينادي عليه بإلحاح. لحظات سوداء حتى انتبه لنفسه وهو يقبض عليها بأصابع متشنجة فأخذ يمزقها بجنون وهو يصرخ بهستيريا.