أعلنت دار السويدي عن جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي التي تكافئ الأعمال المميزة في آداب ودراسات الرحلة والسفر واكتشاف العوالم الذاتية والغيرية. وقد نال الجائزة في فرع الدراسات الباحث المغربي خالد التوزاني المشتغل بالكتابات الصوفية وبأدب العجيب والغريب في التراث العربي، وذلك عن كتاب: الرحلة وفتنة العجيب: بين الكتابة والتلقي، الصادر عن منشورات دائرة الثقافة والإعلام -حكومة الشارقة- 2016. ومن أعماله في هذا الباب كتاب: جماليات العجيب في الكتابات الصوفية: رحلة “ماء الموائد” لأبي سالم العياشي، منشورات الرابطة المحمدية للعلماء بمدينة الرباط، ومركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة، وجدة، المغرب، سنة 2015؛ وكتاب: أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية، دار كنوز المعرفة-الأردن- سنة 2015.
وللوقوف على هذا المباحث المتميزة لهذا الباحث، أجرينا الحوار التالي:
1- أستاذ خالد، نود تهنئتكم على الفوز بجائزة اختراق الآفاق المخصصة لأدب الرحلة العربي.. ونود أن يكون سؤالنا الأول عاما عن سرود الرحلة العربية وما يميزها عن كتابات السفر العالمية؟ هل للرحلة العربية ميزات ثقافية وجمالية تجعلها جنسا يتميز عن ما ألفه غيرهم عن أسفارهم؟
أشكركم على هذه التهنئة بمناسبة فوز كتابي: “الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي” بجائزة اختراق الآفاق المخصصة لأدب الرحلة، وهي تسمى أيضا “جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي” للعام 2016 فرع الدراسات النقدية، وتمنحها دار السويدي بأبوظبي، وبداية لا بد من التأكيد على قوة الصلة بين الإنسان والرحلة، فقد ارتبطت الرحلة بالوجود الإنساني، وشكلت –في زمن ما- معيشا يوميا، يحدد للإنسان تفاصيل عيشه وبرنامج حياته، فمثلت بذلك، قطعة من وجوده، وجزءا من ذاته وكيانه، لا يستغني عنها، فقد ولد الإنسان راحلا، وإن أعجزته الرحلة، تخيل رحلات غير محسوسة في عالم الخيال، وحتى بعد انتقاله إلى حياة الزراعة والاستقرار والتمدن، ظل حنينه إلى التنقل قويا، ولذلك لم تنقطع أسفار الإنسان، وظل يجوب الآفاق ويخترق الحدود في الجغرافيا والفكر.
وبالنسبة لسؤالكم حول مميزات سرود الرحلة العربية واختلافها عن كتابات السفر العالمية، فبالعودة إلى المعاجم اللغوية نجد أن لفظة الرحلة تسبح في فلك الانتقال والظعن والمسير والضرب في الأرض والانتشار، فهي متسعة الوحدات متعددة الاشتقاقات (رحل، ارتحل، ترحل، رحّل، استرحل)، مما نستدل من خلاله على تعاظم نشاط السفر والارتحال عند العرب، ذلك بأن الوحدات اللغوية والمعجمية في حقل معين غالباً ما تصحبها زيادة في السيرورة والتداول، فالأمم تشتق من الوحدات اللغوية عادة على قدر ما تستهلك وتحتاج. ولقد ارتبطت الرحلة عند العرب بعلم الجغرافيا، حيث كان الرحالة يسجل ملحوظاته في كتب تسمى بالمسالك والممالك، ولكن بعد أن استقلت الجغرافيا كعلم مستقل قائم بذاته، أصبحت الرحلة فنا ولوناً أدبياً يقوم على علاقة زمنية مكانية تعتمد وصف الرحالة لمشاهداته وعرض الخواطر بدقة.. ثم تطور هذا الفن وارتقى في مستويات الإبداع والتجديد، حتى أصبحت الرحلة من أشهر الفنون الأدبية المتداولة في مختلف بلاد العالم، وقد ساعد على ازدهارها اختلاط الشعوب وحب الاطلاع والاستطلاع والكشف والاستكشاف، فتضاعف الاهتمام بها واتسعت دائرتها لتتجاوز الأدب إلى غيره من حقول المعرفة مثل التاريخ والفلسفة والاجتماع والاقتصاد..، حيث يتطلب التأليف في الرحلة ثقافة واسعة ودقة في الملاحظة، وأيضا دراستها تتطلب جهدا واستقصاء، خاصة و أن هذا النوع من التأليف تجتمع فيه فنون كثيرة، وموضوعات جمة، مما يجعل ضبط معاييره وتعيين مقاييسه، أمرا صعبا، فالرحلة ليست ملتقى للأساليب والأجناس الأدبية فحسب، وإنما هي كذلك ملتقى للمعارف والفنون والثقافات؛ إذ تتصل بأمور كانت من صميم الجغرافيا؛ كعلم السكان والتجارة والاقتصاد، دون أن تهمل ميدان السياسة والاجتماع والتربية والتعليم وغيرها، ولذلك تعددت روافد الثقافة في سرود الرحلة العربية إلى درجة يمكن عدها موسوعة الثقافة في العصر الذي دُوّنت فيه، فهي ميدان معرفي وثقافي غني بالرموز والدلالات.
هكذا تحولت الرحلة إلى مصطلح أدبي وجغرافي يقصد به غالباً ذلك المنتوج الفني الذي يروم التنظير لأدبيات السفر والمسير، ذلك الخطاب الذي يتبع نشاط الرحالة وهو يجوب البلاد ويقطع المسافات إما عبرة واستبصاراً، أو حجاً واعتماراً، وربما نزهة واستطلاعاً، أو طلباً للمعارف والعلوم، أو سعياً لاكتساب التجارة والعروض، والرحلة بهذا المعنى صنف تأليفي يختص بتتبع الراحل في لحظات تنقله من أمكنة وأزمنة معينة، فيتم رصد الراحل لذكرياته أثناء هذا التنقل في حديثه عن الطرق والمجتمعات التي يتصل بها والظروف المحيطة بها أثناء ذلك، وما يلاحظه من وقائع وأحداث قد تدعو إلى تسجيلها والكتابة عليها، مع عرض أنشطته المختلفة الخاصة به أثناء هذه الرحلة، علما بأن سرود الرحلة العربية لا تتعلق فقط بالرحلات الواقعية وإنما تحفل أيضا برحلات خيالية، حيث شكلت الرحلة العربية مزيجا من عناصر الفكر والأدب والإبداع، وعكست تفاعلا بين رؤية العين وإبصار المخيلة أو القلب، ويعزز هذا التوجه في الفهم، كون تلك الرحلات قد صيغت بأسلوب أدبي جميل، وذلك بانتقاء أجزل الألفاظ وأعذبها، والارتقاء بالوصف من المألوف إلى الغريب والعجيب في البلاغة والتركيب، علاوة على ما قد يستعين به الرحالة – أحيانا- من أسلوب قصصي سلس ومشرق وشائق، مما دفع بعض الدارسين إلى إدخال أدب الرحلة ضمن فنون الأدب العربي، حيث تصبح قراءة هذا اللون من الكتابة متعة ذهنية كبيرة، وهذه المميزات هي ما يجعل الرحلة العربية مختلفة إلى حد كبير عن كتابات السفر العالمية، ولذلك فقد حاول الكُتّاب في الثقافات الأخرى تقليد طريقة العرب في سرد رحلاتهم وتدوين مشاهداتهم، مما يدل على ريادة العرب في مجال الرحلة واختراق الآفاق.
2- يذكر الباحثون في الرحلات العربية انها في جوهرها مغربية حجازية الغرض وما في أشكال اخرى تبقى فرعية وجزئية بالنسبة للرحلة الحجازية؟
عندما نتأمل أنواع الرحلات، نجد الرحلة الحجازية أو رحلة الحج قد حظيت باهتمام أغلب الرحالة المغاربة، وهو أمر طبيعي نظرا لارتباط هذه الرحلة بأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، وكونها أيضا فرصة لطلب العلم ومعرفة الآفاق، فللبقاع المقدسة منزلة عظيمة في نفوس المسلمين، فالرحلة إلى الحج، قد كانت سببا مباشرا وراء الكثير من الرحلات التي قام بها المغاربة، بل لقد تفوقوا على غيرهم في هذا المجال، فقد ذكر ابن خلدون وبعده المقري أسماء عدد كبير من رحّالي الغرب الإسلامي لأسباب متعددة، ولعل حضور الدين، كان عاملا قويا وحاسما في نهضة السرد الرحلي عند المغاربة، وخاصة في نمط رحلات الحج، حيث يزيد من دافع الاشتياق إلى الديار المقدسة، بُعد الديار المغربية عن الشرق والحجاز، مهد الحضارة العربية ومهبط الوحي، فكان جل من يقصد البلاد الحجازية، من الأدباء والعلماء لأداء فريضة الحج، يشعر بوجوب إطلاع مواطنيه على أخبار تلك البقاع الشريفة البعيدة، التي يحن إليها كل مغربي لما يربطه بها من روابط الدين واللغة والدم، وسواء كان ذلك الإخبار شفهيا أو كتابة، فهو يروم نفع الغير بتقريب المسالك والمناسك من المتشوف للحج أو المتشوق للزيارة، وتنبيه الغافل لما في الحج من الفضائل، ولفت نظر أولي الأمر لما يجب إصلاحه؛ من إقامة الرباطات وحبس الأوقاف للإنفاق منها في سبيل راحة الحجاج، وبذلك تتجاوز رحلة الحج أداء المناسك إلى الحث على أداء الحقوق والواجبات، ويتجاوز الرحالة عند أوبته وانتهاء أمد رحلته موائد الطعام التي يبسطها احتفالا بإتمام حجته ورجوعه سالما من سفره المحفوف بالمخاطر، إلى موائد الفكر والأدب والأشواق، من خلال وصف أحداث الرحلة المقدسة بكل تفاصيلها الدقيقة، إمعانا في الكرم، وَجُودًا بالمعرفة والمشاعر، على من حبسه العذر عن بلوغ تلك الأماكن “المقدسة”، ومفهوم الجود هنا، يتجاوز تقديم محتوى الرحلة كتابة، إلى نقل الوقائع شفهيا، إذ لم تكن مهارة الكتابة متاحة لجميع الحجاج والرحالة بشكل عام، ولذلك فالجود لا يتعلق بمن كتب فحسب، وإنما بمن نطق بالوصف وجهر بالمشاعر، وهنا يصبح الجود علامة على تذوق حلاوة الإيمان في مقامات القرب من الرضوان، في نعيم المناسك والمشاعر المقدسة، وهذا غيض من فيض مما تزخر به الرحلات الحجازية من جماليات وأسرار، ولذلك كانت هذه الرحلات هي الأصل في الخروج من الديار، لتأتي بعد ذلك رحلات أخرى مثل الرحلة لأجل طلب العلم أو التجارة أو السياحة أو غير ذلك من الأشكال الفرعية للرحلة الكبرى أي رحلة الحج أو رحلة العمر نظرا لما تشتمل عليه من دلالات عند الرحالة وما تمثله من تحول في مسار حياته المادية والروحية.
3- العجيب مفهوم أدبي ونقدي محدد، فهل يتوافق مفهومك للعجيب مع ما ذهب إليه طودورف من تمييز له عن الفانتاستيك وعن الغريب؟ ما هي سمات العجيب في الرحلة، وما هي الأشكال الأخرى القريبة من العجيب والتي تفارق المعهود دون ان تدخل في إطاره؟
نَظَر تزفتان تودوروف إلى مفهوم العجيب في دائرة ما يُسميه الغرب بالأدب الفانتاستيكي، حيث عرّف هذا الأدب بذلك “التردد الذي يستشعره كائن لا يعرف سوى القوانين الطبيعية أمام حادث له صبغة فوق طبيعية”، تتجاوز حدود ما يعرفه عن الواقع، حيث جعل من التردد محورا مركزيا ومقياسا لتعريف الفانتاستيك؛ فالكائن هو “ذاكرة لها قوانين طبيعية، يتواجد فجأة أمام حدث غير طبيعي، فيكون هناك تصادم بين الطبيعي، وبين غير الطبيعي، بين الألفة وعدم الألفة”، يحث المتلقي على التساؤل: هل إن ما يحدث وهم أم حقيقة؟ وتعتبر هذه اللحظة زمن التردد المشترك بين القارئ و”الشخصية اللذين لابد أن يقررا ما إذا كان الذي يدركانه راجعا إلى “الواقع” كما هو موجود في نظر الرأي العام أم لا”، فالبطل كالقارئ يبقى مترددا بين تفسيرين أحدهما عقلي والآخر غيبي، وبمجرد أن يختار القارئ هذا التفسير أو ذاك، أو تتخذ الشخصية قرارا باختيار أحد الحلول المتاحة، يكون الفانتاستيك قد تعرض للتلاشي وتحول إلى أحد الجنسين المجاورين: العجيب (Le merveilleux) أو الغريب (L’étrange) ، تبعا لطبيعة التفسير المقترح؛ “إما أن يقبل القارئ بأن هذه الأحداث فوق الطبيعية ظاهريا يمكنها أن تأخذ تفسيرا عقلانيا، وعندئذ نمر من “العجائبي” إلى الغريب، وإما أنه يقبل وجودها على ما هي عليه، ووقتئذ نكون في العجيب”. ويُفهم من ذلك، أن جنسي العجيب والغريب لا يوجدان في ذاتهما حسب تودوروف بقدر ما يوجدان في قرار المتلقي أو الشخصية، وموقفهما من الأحداث المقروءة أو المشاهدة.
إن قبول المتلقي للحدث الخارق للعادة على الرغم من غياب تفسير عقلي لهذا الحدث فوق الطبيعي، وإقراره بحدوثه، يدل على إيمانه بوجود قوانين للكون غير التي يعرفها ويدركها، فيدرج ذلك الحدث في مجال “العجيب”، نظرا لاختيار التفسير فوق الطبيعي. ويدخل في العجيب كل حدث غير طبيعي أو غير مألوف مثل تكلم الحيوانات والمشي فوق الماء أو الطيران في السماء، أو غير ذلك مما لم يألف الإنسان رؤيته أو سماعه، حيث يقبلها المرء كما هي عليه، ويقر بوجود قوانين أخرى لا يعرفها. ومن ثم، ذهب تودوروف إلى القول بأن الفانتاستيك ليس جنسا أدبيا مستقلا، بما أنه يقيم على تخوم جنسين أدبيين مجاورين له، وهما: العجيب والغريب، وعلى الرغم من الحدود الفاصلة بينهما نظريا، إلا أنهما كثيرا ما يلتقيان ويتداخلان، ولم يكتف “تودوروف” ببيان معنى الفانتاستيك وتحديد تخومه وضفافه، المتمثلة في تصنيف النصوص إلى نصوص للعجيب وأخرى للغريب، وإنما خصص كذلك جهدا في الاعتناء بصنف العجيب، باعتباره هو الذي يدفع المتلقي أو الشخصية أن يبحث عن قوانين جديدة للواقع والطبيعة، بدل التي يعهدها ويألفها، لتفسير ما يقع في السرد الفانتاستيكي.
وبالنسبة لوجهة نظري فقد نشرت كتابا خاصا عنوانه: “أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية”، قمت فيه بتأصيل أدب العجيب” واقتراح لفظ “العجيب” بدل الفانتاستيك والعجائبي، وخاصة عند دراسة نصوص التراث العربي الإسلامي، أما دراسة الأدب المعاصر فيمكن توظيف مصطلح “العجائبي”، ولذلك عندما درستُ الرحلة العربية، كان اللفظ الذي وظّفته هو “العجيب”، أما دراستي للرواية العربية المعاصرة فقد استعملت مصطلح “العجائبي” وذلك في كتاب أسميته: الرواية العجائبية في الأدب المغربي: دراسة نفسية اجتماعية”، وقد انطلقت في هذا الاختيار المنهجي واللساني من ضرورة التمييز بين نمطي الإبداع القائم على المفارقة وخرق العادة داخل الثقافتين معا، أي الثقافة العربية والثقافة الغربية، حيث يفرض الحفاظ على الحمولة الدلالية للمصطلحين: الفانتاستيك والعجيب، باعتبار الأول معبرا عن البيئة الغربية التي وظفت المفهوم بمعاني المتخيل المستحيل والمرعب والمخيف، واعتبار الثاني معبرا عن البيئة العربية التي وظفت المفهوم بمعاني خرق المألوف المتضمن لعنصري الاستحسان والاستنكار. وإن كان من قواسم مشتركة بين الفانتاستيك والعجيب، فهو “التردد أو الحيرة” بصفته الأثر النفسي الذي يستشعره المتلقي، فيتذوقه استحسانا أو استنكارا، ويتلذذ به ويعشقه، فهو الجميل المرعب (الفانتاستيك) وهو الجميل الخارق (العجيب).
وبذلك يمكن القول بأن العجيب والغريب استعمال عربي، أما الفانتاستيك فهو استعمال غربي، ولم أختر الخارق مصطلحا بديلا للعجيب، نظرا لكون صفة الخرق وإن كانت عنصرا مشتركا بين الفانتاستيك والعجيب، فهي لا تتيح تمييز العجيب العربي عن العجيب كما فهمه الغرب وتداوله باحثوه ومنظروه قبل أن يفد إلى البيئة العربية في سياق التجريب، خاصة وأن بعض الباحثين العرب لم يتجاوزوا عتبة التنزيل الأمين لنظرية تودوروف على المتن العربي الذي له نسقه الخاص وخاصة التراثي منه، يضاف إلى ذلك، أن توظيف العجيب في النص العربي لم يكن للغاية ذاتها التي وُظف من أجلها في الغرب. ولذلك فإني أرى أن مصطلح “أدب العجيب” هو الأقرب إلى الصواب في التعبير عن هذا الاتجاه في الإبداع الأدبي عند العرب، وهو الأنسب لتحليل النص العربي. أما لفظ “الفانتاستيك” بوصفه جنسا أدبيا أو تقنية في الكتابة، أنتجته ظروف تاريخية وقيم ثقافية غريبة عن واقع الإنسان العربي وتاريخه، فيمكن تداوله عند تحليل المتن العربي بمعايير نظرية هذا الأدب في الغرب، في سياق التجريب وتوسيع الرؤيا، على أنه إجراء منهجي ينبغي أن يكون بابا لمرحلة متقدمة تستحضر خصوصية النص العربي، وتستوعب عناصر الغرابة فيه، لتفهم كيفية اشتغال العجيب الذي يتضمنه. وبتعبير آخر، إن توظيف نظرية الأدب الفانتاستيكي كما استعملها الغرب وفهمها، ينبغي أن لا تبقى سجينة تحديدات تودوروف وغيره، عند معاملة النص العربي بقواعدها وتحديداتها، وأن تفسح – تبعا لذلك – المجال للمتن العربي ليقدم مؤهلاته في تعديل هذه النظرية وإغنائها في سياق التبادل الثقافي العالمي، خاصة وأن موضوع العجيب لم تخل منه ثقافة من الثقافات، فهو متجذر في تاريخ الإنسانية.
أما سمات العجيب في الرحلة، فقد ظل يشغلني هذا السؤال: هل من الممكن وصف رحلة ما بأنها رحلة عجيبة؟ يبدو للوهلة الأولى، أن هذا الحكم انطباعي يستند على رؤية ذاتية وإحساس فردي لا يقوم على معايير موضوعية، كما أنه يرتبط بنوع من التلقي يركز انتباهه على العجيب وما يُعجِبُ القارئ، وعلى الرغم من أن الحكم على رحلة ما بأنها رحلة عجيبة فيه ما فيه من الذاتية، إلا أن بعض الرحلات لا يتردد المتأمل فيها في وصفها برحلات عجيبة، خاصة عندما يصرح عنوانها بذلك، وتقرأ منذ كلماتها الأولى أنها رحلة حافلة بالعجائب التي رآها الرحالة في جولاته، ثم يردد هذا الرحالة أن دافع الكتابة راجع لسؤال الناس عن عجائب رحلته وماذا شاهد من غرائب، فيكون تدوين الرحلة استجابة لرغبة الآخر في معرفة العجيب، وقد يكون الرحالة نفسه مدركا لقيمة ما يكتب فيستميل القارئ ببعض العجائب وقد يُكثر في رحلته من حشد الأعاجيب، وهكذا عندما نعثر على هذه المؤشرات فإن الحكم على رحلة ما بأنها “رحلة عجيبة” يصبح أمرا جادا، وليس من باب الادعاء أو الانطباع الشخصي أو التعبير عن الرأي.
4- هل للعجيب علاقة بالبعد الصوفي لأصحاب الكتابات الرحلية؟
تنبه الصوفية للمعاني الخفية في الرحلات، فعملوا على تسخيرها في خدمة السلوك العرفاني، وإذا كانت الكتابات الرحلية المألوفة انتقالا من مكان لمكان، فإن نمط الأسفار الصوفية تجعل من القلب رحالة في الخلوات و تنتقل به من فضاءات الغفلة إلى منازل القرب حيث صفات الرحمة والجلال، وهنا يتحقق بعمق البعد الصوفي لبعض الرحلات، حيث تصبح مسالك الرحلة هي النفس الإنسانية ويصبح القلب رحالة، ينتقل من مألوف الأخلاق إلى محاسنها وأجودها، ومن غفلة القلب إلى يقظته وانتباهه، ومن القلق والتوتر إلى الاطمئنان والثَّبَات، وبذلك يترقى الوجدان وتنتعش الروح في مدارج التكمل والتجمل ليصبح المرء أكثر قربا من خالقه ومن ثم أكثر سموا وجمالا، وهذه إحدى غايات التربية الصوفية، وليست الرحلة إلا وسيلة من وسائل هذه التربية، ولذلك كان من الطبيعي أن يحفل منجز رحلات المتصوفة بالعجيب، إذ ليس هناك ما هو أعجب من مخالفة هوى النفوس وكسر مألوفها وإلزامها الاستقامة على الطريقة المثلى، وتبقى مظاهر العجيب الأخرى تابعة لهذا الأصل، فعين الرحالة المتصوف، لا تشاهد إلا ما يرفع همتها في السلوك، ويزيدها يقينا في صواب وجهة المسير، ولذلك، فهو يتعجب من أمور قد تبدو عادية عند بعض الناس، فيلتقط الإشارات التي يُبصر من خلالها ما لا يشاهده غيره، وإذا أراد البوح بما أبصر فلغة العبارة المألوفة قد لا تطاوعه، ليفرَّ إلى لغة الإشارة والرمز، لعل اللبيب يفهم فيلزم أو يذق فيعرف، فتصير الرحلة ترقيا وارتقاء، ثم جُودا بالأشواق والحقائق لينتفع بها القارئ وذلك عندما يتم تدوين الرحلة.
5- يحمل عملكم عنوان العجيب والفتنة؟ معروف أن الرحلة هي تعريف بالعالم والمسالك والبشر والثقافات؟ فكيف يفتتن الرحالة بالعجيب ؟ هل بغرض الإمتاع أم بغرض لفت النظر لنصه؟ ولماذا فتنة؟
لم يزين أصحاب الرحلات نصوصهم ببعض العجائب، استجابة لذوق القارئ المَيَّال إلى العجيب فحسب، وإنما كذلك، لأن ما رآه الرحالة كان شيئا عجيبا حقا بالنسبة إليه، فـأكثر الناس حكما على الأمور بالغرابة هم الرحل والتجار، لأنهم يسافرون إلى مجتمعات كثيرة، ويَطَّلِعُونَ على عادات أصحابها، وتقاليدهم وأساليب حياتهم، وهي مختلفة بطبيعة الحال عما عرفوه في بلادهم، حيث تظهر النزعة الإغرابية في سياق تعجباتهم أو استنكاراتهم، إزاء عادات وتقاليد اجتماعية، أو ممارسات سياسية، أو ظواهر خارقة للعادة، ولذلك لم تكن غايتهم إبداع عالم عجيب، ولكن التعجب من العالم الموجود، فكل ما في العالم موضوع للعجب عند التأمل فيه، إلا أن الاعتياد عليه والأنس به، هو ما يذهب بالحيرة، فما من شيء صغير ولا كبير، إلا وفيه من العجائب ما لا يُحصى، وإنما سقط التعجب هنا، للأنس وكثرة المشاهدة. ولذلك، كان العجيب الوارد في نصوص الرحلات، تعجبا من عالم موجود وليس من إبداع المخيلة، وعلى الرغم من أن الخيال قد يُتهم بإحداث تغيير بين الصورة في الواقع وكما هي في الكلمات، إلا أن الأمر يتجاوز البحث في أمانة نقل العجيب، إلى توظيف الخيال بوصفه أداة وتقنية تستهدف إقناع المتلقي بجدوى تصديق العجيب، فدورها التضخيم والمبالغة، لتكبير الصورة وتقريبها أكثر من عين المتلقي، فليس من يشاهد من وراء حجب الأوراق، كمن يرى العالم العجيب في فضاء ممتد، وأفق فسيح غير محدود، فهذا العالَم وإن كان يبدو غريبا، إلا أن وصفه بالكلمات، قد يزيده غرابة وعجبا، خاصة عندما تتدخل المخيلة، وتحضر بجبروتها وسطوتها في فعل الوصف والحكي، حيث يلاحَظ أن ثمة تجاذبا ينشأ في لحظة السرد بين ما يُدرك بالحال، أي التجربة كما عاشها الرحالة، وما يُدرك بالمقال، أي الرحلة كما سيرويها صاحبها، حيث يقع نوع من التحويل والتبديل، استسلاما لفتنة السرد، ورغبة في إبهار المتلقي بالعجيب، فليس القارئ وحده من لا يستطيع مقاومة فتنة العجيب، ولكن كذلك، المبدع أو الرحالة، لا يفلت من هذه الفتنة.
من مظاهر استسلام الرحالة لفتنة العجيب، كون لفظ “العجيب” بكل صيغه ومشتقاته يصبح تعبيرا مفضلا عنده، حيث يرد الحقل المعجمي الدال على العجيب بكثافة في النص الرحلي، بدءا من العبتة الأولى والتي تمثل العنوان الذي ارتضاه الرحالة نعتا لمنجز رحلته، وانتهاء بأدق تفاصيل السرد ووصف الأحداث والوقائع والتفاعل معها، مما يؤكد بأن أدب الرحلة، يتأسس بنيانه على العجيب والغريب. ولذلك ينبغي ألا يعالج العجيب في الرحلات، بنظرة المقارنة أو المقايسة، بين ما كان وما هو كائن، أي بين حاضرنا الآن، والماضي البعيد الذي دونت فيه تلك الرحلات، فهذا التمييز يبني حاجزا أمام النفوذ الأعمق نحو عالم النص الرحلي العجيب، وقد يشوه مهمة الباحث في تذوق العجيب، فلا يجني من مغامرة القراءة سوى لذة المفارقة والاختلاف، ولا يكون للعجيب ذلك الأثر البليغ الذي يفترض أن يستجيب له القارئ الضمني، فكما أن النص الرحلي يعلن منذ البداية عن قول العجيب، فكذلك القارئ يحتاج للتصديق كي يعيش الالتذاذ بالعجيب، وإلا سيكون مجرد ممثل يتصنع التعجب ويتكلف الدهشة والاستفهام، ومن ثم، فهو يتلذذ بالعجيب تكلفا، فلا ينفذ إلى العمق. ومعنى ذلك، أن المتلقي ينبغي أن يندمج بعمق مع النص، ليعيش فتنة الكتابة “العجيبة”، ويكون بحق ذلك القارئ الضمني الذي استهدفه المبدع/ الرحالة وعوّل عليه، على الأقل على المتلقي أن يمر بهذه المرحلة، قبل التأويل والتفاعل مع عجيب الرحلة.
لم يكن حضور العجيب في الإبداع العربي عموما وفي الرحلة على وجه الخصوص، ترفا فكريا أو تشكيلا فنيا لدفع الرتابة والملل أو لفت انتباه القارئ، بقدر ما كان تعبيرا عن أنماط من الوجود القَلِق، وتجسيدا لآمال كبيرة، لم تسمح حواجز الواقع الطبيعي بتلبيتها، فكان تدخل العجيب حاسما في تحقيق ما لم يتمكن الإنسان من تحقيقه، ولذلك كان الرحالة يركز على وصف كل ما هو عجيب وغريب، وخارق للمألوف، تعبيرا عن رغبة عميقة في اكتشاف المجهول وارتياد آفاق رحبة من الفكر والثقافة والجغرافيا.
6- الرحلة الحديثة تكاد تخلو من الأبعاد العجائبية في رصدها للعوالم، كيف تفسر ذلك؟ وهل استعاضت عنها ببعد آخر في رصد الإختلاف؟
الرحلة الحديثة لم تعد تركز على العجيب مثلما كان الشأن قديما، ولعل ذلك راجع للتقدم العلمي والتكنولوجي في العصر الحالي، حيث يعيش الإنسان اليوم وهو يملك آلات عجيبة ويستطيع أن يصنع أشياء غريبة، خلافا للعصور الماضية، حيث كانت الرحلة تحفل بنماذج متنوعة من العجيب، وتشمل موضوعات كثيرة، تتعلق أساسا بما أثار استغراب الرحالة وتعجبه، نظرا لتفاوت الشعوب من حيث الحضارة، بخلاف وقتنا الحاضر الذي تحوّل فيه العالم إلى قرية صغيرة، فعلى الرغم من استمرار التفاوت الحضاري بين الشعوب والأمم إلا أن تكنولوجيا الاتصال جعلت البشرية تتقاسم الأخبار وتعرف ما عند الآخر البعيد، مما أدى إلى سقوط العجب، وإذا كانت الرحلة العربية القديمة تحفل بالعجيب والغريب، فإن بعض العجائب قد سقط موضع التعجب منها في نظر المتلقي المعاصر، بفعل ظهور ما هو أعجب منها، أو بفعل التقدم العلمي والتقني الذي قدّم تفسيرات جديدة لبعض ظواهر الكون، ولذلك تظل الظواهر والأشياء التي تعجب منها أغلب الرحالين تعكس بنية تفكير إنسان الفترة التي دُوّنت فيها الرحلة، ولا يمكن قراءتها جماليا وفكريا إلا على ضوء معارف ذلك العصر وما شهده من أحداث وتطورات، أثرت في نظرة الإنسان للكون والوجود، وخلقت كائنا مولعا بالعجائب والغرائب، ولذلك يمكن القول بأن العجيب “يتغير بتغير العصور والثقافات، وتوجهات الرؤى والتحويلات الممكنة في النسق والمرجع، فما يعتبر في عصر ما من باب العجيب، قد تزال عنه هذه الصفة فيفقدها في عصر موال، إذ لكل عصر خرافاته، ولكل بيئة أساطيرها، واليوم الرحلات المعاصرة تنفتح على عوالم أخرى جديدة موغلة في الغرابة والدهشة والحيرة ويتعلق الأمر بأدب الخيال العلمي الحافل بالعجائب ولكن من نوع جديد يرتبط بالتقنيات والآلات والاختراع العلمي وأيضا باكتشاف الفضاء وارتياد الكواكب البعيدة والعبور نحو عوالم غريبة في فضاءات وأمكنة أتاحت ولوجها التكنولوجيا فائقة الذكاء والقوة. وهكذا، سيلج “العجيب التقني” في الرحلات المعاصرة بوابة الحيرة والدهشة عبر العلم، فإذا كان هذا الأخير حلا لتفسير العجيب، يصبح اليوم مدخلا للمزيد من العجب، ولعل هذه خاصية جديدة تطبع اليوم السرد الرحلي والسفر في الآفاق، ويقتضي تفصيل القول في هذا الجانب تأليفا خاصا قد تسعفنا الظروف على كتابته قريبا ضمن عنوان: العجيب في أدب الخيال العلمي.
7- تنشط الأبحات الأكاديمية خلال السنوات الأخيرة في المغرب في التنقيب في إشكالات النص الرحلي، وتنبري في أغلبها في البحث عن سمات الذاتية والغيرية، والحداثة والمحافظة، والموضوعية والغرائبية… فهل تعتقد أن للنص الرحلي أبعادا تحتاج أن يطرقها الباحثون أم أنه نص يستنفذ خزانه في الإشكالات والأسئلة المثارة؟
إن النص الرحلي خزّان لجملة من المعارف المرتبطة بحقول معرفية كثيرة، صيغت في قالب أدبي وجمالي؛ فالأدب بما هو مفهوم فني جمالي، والرحلة بماهي تجربة ومغامرة، يجعل من منجز الرحلة شيئا مغريا وجذابا، ولعل هذا الجمع هو ما يزيد البحث في الرحلة صعوبة، لأنه يتطلب إلماما بقواعد الأدب، وحظا من المعارف العامة، ولذلك أقيمت مراكز بحث متخصصة في دراسة الرحلات؛ نستحضر منها على سبيل المثال لا الحصر: المركز المغربي للتوثيق والبحث في أدب الرحلة، والجمعية المغربية للبحث في الرحلة، ومتحف ومرصد بن بطوطة بالمغرب، والمركز العربي للأدب الجغرافي. كما بدأ انتشار الوعي بأهمية الرحلات في الكشف عن معارف جديدة، من خلال بعض اللقاءات العلمية التي تقوم بها هذه المؤسسات، كما أُنْجِزَتْ أعمال جامعية مثل: “الرحلات المغربية في القرنين 11 و12 هـ، 17 و18 م” لمحمد ماكامان، و”الرحلة في الأدب المغربي” لفاطمة خليل، و”الرحلة في الأدب العربي” لشعيب حليفي، وغيرها من الأعمال التي أضاءت بعض العتمات في أدب الرحلة، والملاحظ أن الباحثين المغاربة يحققون الريادة في البحث في أدب الرحلة، حيث أغلب الكتابات التي اتخذت من الرحلة موضوعا لها نجدها لمغاربة سواء في تأليف الرحلة أو دراستها، ولعل ذلك أمر طبيعي بالنظر للبعد الجغرافي للمغرب عن المشرق وخاصة بعده عن أرض الرسالات، حيث يتطلب أداء الحج رحلة طويلة غالبا ما كان يستغلها المغاربة في نيل غايات كثيرة ومنافع متعددة؛ منها طلب العلم والتجارة والتواصل الثقافي والعلمي، فكان تدوين تلك الرحلات بمثابة دائرة لمعارف العصر الذي كُتبت فيه، وبالطبع اقتضت دراسة تلك الرحلات تأسيس مراكز بحث وفرق عمل وإنشاء مختبرات جامعية لما تحفل به الرحلات من أبعاد جمالية ومعرفية تحتاج في استخراجها لتظافر جهود فريق من الباحثين يمثلون مختلف حقول المعرفة، فيتم دراسة الجوانب التاريخية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية وأيضا السياسية في كثير من الرحلات العربية، خاصة إذا علمنا أن الرحالة العربي كان موسوعي الثقافة، ولذلك لا يمكن فهم الرحلات إلا بمقاربة متكاملة تأخذ بعين الاعتبار تكامل المعارف.
حاوره: المبارك الغروسي