«الشعر فن يعتمد على اللغة». (بول فاليري)
تعتبر اللغة أهم عنصر بنائي في فن الشعر، إذ لا يمكن لهذا الأخير أن يقوم إلا بها؛ ومن هنا جاء اهتمام الشعراء باللغة، يجودونها ويتقنونها، لأنها هي التي تشكل منطلق التواصل بينهم وبين قرائهم المحتملين. يقول «أراجون»: «ليس هناك شعر ما لم يكن هناك تأمل في اللغة».(1)
وعلى هذا الأساس كان شعراء الحداثة العرب يسعون إلى تمثل عصرهم من خلال لغتهم. فكلما استطاع الشاعر خلق لغته الخاصة به، والتي تستطيع أن تقربه من روح العصر كان شاعرا خلاقا، لأن الشاعر الخلاق، في نظر «عز الدين إسماعيل» هو الذي يصنع لغته، لأن اللغة تظل دائما «أوضح وأقوى وأدل ظاهرة تتجمع فيها كل سمات الوجه الحضاري الذي تعيشه الأمة».(2)
والاهتمام بالجانب اللغوي في الشعر ليس حكرا على شعراء الحداثة، وإنما هو ظاهرة قديمة قدم الظاهرة الشعرية. فقد عرف عن الشاعر «زهير بن أبي سلمى» و«الحطيئة» أنهما كانا يوليان اهتماما بالغا للغة حتى لقبا بعبيدي الشعر لأنهما كانا ينقحانه ويجودانه. لقد كان زهير، مثلا، يكتب القصيدة في ثلاثة أشهر، ويقرأها في ثلاثة، وينقحها في ثلاثة، ويخرجها للناس في ثلاثة؛ لذلك سميت قصائده بالحوليات.
أما الشعر التموزي فإنه لا يخلو من احتفال باللغة التي صارت فيه ذات بعد تعبيري رمزيعكس اللغة الكلاسيكية التي كانت وظيفتها تزيينية تعتمد على المحسنات البديعية كالجناس والطباق والمقابلة وغيرهما.
جعل الشاعر التموزي من لغة شعره الخيط الذي يوصل بينه وبين قارئه الكائن والممكن؛ لذلك كانت الثورة على اللغة التقليدية التي كانت سمتها الأساس الغرابة والغموض، وإحلال لغة جديدة قريبة من معيش المتلقي، نابعة من واقعه اليومي، معبرة عن انشغالاته وهمومه. وبهذا التوجه استطاع الشاعر الحداثي أن يقلص من المسافة الجمالية بينه وبين قارئه، تلك المسافة التي ساهمت في خلقها اللغة التقليدية الغريبة والوحشية.
إن أول غارات الشعر على العالم كانت بواسطة اللغة، فهي الأداة «الفتاكة» التي، بواسطتها، تمرد الشاعر على واقعه الذي كان في حاجة إلى «الغزو» والاكتشاف، فكان أثر اللغة الجديدة على هذا الواقع كبيرا وعميقا لأن الشاعر المعاصر فككه إلى جزئياته الصغيرة للوقوف عند مكامن الخلل، وبالتالي ضرورة إعادة تشكيله وفق رؤيته الجديدة للعالم.
من هنا جاءت لغة الشعر التموزي طافحة بالثورة والأمل في الانعتاق والتحرر حيث نزل الشاعر من برجه العاجي، الذي كان يرتاده الشعراء الرومانسيون الذاتيون والحالمون، إلى واقع شعبه يتحسسه ويعبر عن آماله في الميلاد الجديد وفي الغد المشرق:(3)
في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي، واهب الحياة!
هكذا، إذن، بدا الشاعر التموزي أكثر ارتباطا بقضايا شعبه ووطنه، وصارت لغته، عكس لغة القدماء، أكثر تواصلية وحميمية لأنها، في نظره، تلامس الألم وتكشف عن مكامن الداء، وتبحث عن البدائل الممكنة. من هنا يرى السياب أنمهمة الأدب الراقي هي تصوير الصراع المرير بين قوى الشر وقوى الخير في العالم. يقول:(4)
«وقد كانت وظيفة الأدب، أو بالحري، وظيفة الرائع منه، تصوير هذا الصراع القائم بين الشر وبين الإنسان، وما زالت تلك وظيفته حتى يومنا هذا. وأود أن أبين ناحية مهمة هي أن الأديب، حين يصور هذا الصراع، لا يقف منه موقف المتفرج المحايد -لأنه إنسان قبل كل شيء- فالقضية إذن قضيته والمعركة معركته. وهكذا كان الأدب، وما يزال، سلاحا من أسلحة الإنسان التي شق ويشق بها طريقه نحو حياة أفضل».
حاول الشاعر التموزي أن يثور ضد اللغة الجزلة والرصينة التي ميزت شعرية العصرين الجاهلي والعباسي، وأن يخلق صورة للغة، أي أنه يعبر بلغته الخاصة في الوقت نفسه الذي يوهم الناس أنه يتمثل لغتهم، اللغة المتداولة فيعصرهم. والغاية من ذلك ألا يشعر المتلقي بمسافة تفصل بينه وبين لغة النص الذي يحاوره، أو أن النص لا يحاكي لغة معيشه اليومي. من هنا جاءت وظيفتها التعبيرية الانفعالية والرمزية «لأن الصورة الفنية تركيبة وجدانية تنتمي في جوهرها إلى عالم الوجدان أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع».(5) ولهذا الغرض عمد الشاعر إلى إفراغ اللفظة من حمولتها الدلالية القديمة وشحنها بدلالة جديدة تعبر عن موقفه الجديد من العالم والكون؛ وهي العملية التي جعلت لغة الشعر التموزي أكثر واقعية.
تقول «خالدة سعيد» عن عملية التجديد الشعري لدى السياب:(6) «لولا هذا التوافق بين نزعة التجديد في الشكل وروح التغير والثورة، لما كان تجديده الشكلي (والعروضي خاصة) ذا أهمية تذكر. أهميته في استجابة السياب المتكاملة لشوق خفي في لاوعي الإنسان العربي. فالتجديد لا يتم لمجرد اللعب الصوري، ولا بد من معاناة خاصة وتيارات لاواعية تقوض الأسس القائمة وتبحث عن لغة جديدة».
وخلاصة القول: إن هذا التجديد اللغوي عند السياب، كما عند غيره من شعراء الحداثة العربية، وخاصة التموزيين منهم، قد أدى إلى استحداث معجم شعري ينبض بالحياة لأنه مستمد من واقع الإنسان، ومن معيش المتلقي الذي استطاع أن يتفاعل من هذا الشعر أكثر من غيره، وبالتالي أن ينتقل من قارئ منفعل بالشعر إلى قارئ فاعل منتج قادر على إعادة بناء المعنى انطلاقا من قراءته النقدية الموازية.
و لتوضيح مواصفات المعجم الشعري الجديد أقدم هذا العينة من الألفاظ الجديدة لدى السياب، تمثيلا لا حصرا، معتبرا إياه رائد هذه الثورة الشعرية اللغوية، في نظري على الأقل:
1- معجم المفردات الواقعية: النوم – البشر – النعاس – الموت – العبيد – الثورة – الجريمة – القحط – الجفاف – الجوع – المطر – القمر – الشجر…
2- معجم المفردات المبتذلة: المومس – البغايا – المبغى – عارية الصدور – أثداء العجائز – الماخور…
3- معجم المفردات الجديدة: البار – العقم – الترام – دهليز – الخواء – القذائف – الأبجدية –الإدريج…
وتكفي نظرة بسيطة لمعجم قصائد السياب للوقوف عند بعض الكلمات التي مَتَحها الشاعر من واقع تميز، في فترة تاريخية صعبة، بالتوتر والاضطراب والقمع وسلب الحريات وضنك العيش وغيرها من المظاهر التي لم تكن تعكس واقع العراق آنذاك. وقد استطاع الشاعر، بحسه الفني ورؤيته العميقة للأشياء، أن ينقل هذا الواقع شعرا، وبلغة تحاكي هذا الواقع بكل أبعاده الاجتماعية والفكرية والاقتصادية. كما استطاع أن يقلص المسافة الجمالية بين النص وقارئه باعتماد لغة مستمدة من واقعه وروح عصره.
————–
الهوامش:
1- الإبهام في شعر الحداثة. عبد الرحمن محمد القعود. مجلة عالم المعرفة. عدد 279. مارس 2002. ص: 247.
2- الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. عز الدين إسماعيل. دار العودة ودار الثقافة. ط 3. 1981. ص: 175.
3- ديوان بدر شاكر السياب. المجلد الأول. دار العودة بيروت. 1971. ص ص: 479/480.
4- كتاب السياب النثري. جمع وإعداد وتقديم حسن الغرفي. منشورات مجلة الجواهر.ص ص: 18/19.
5- الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. عز الدين إسماعيل. دار العودة ودار الثقافة. ط 3. 1981. ص: 127.
6- حركية الإبداع دراسات في الأدب العربي الحديث. دار الفكر. ط 3. 1986. ص: 133.
مراجع الدراسة:
• الإبهام في شعر الحداثة. عبد الرحمن محمد القعود. مجلة عالم المعرفة. عدد 279. مارس 2002.
• حركية الإبداع دراسات في الأدب العربي الحديث. دار الفكر. ط 3. 1986.
• ديوان بدر شاكر السياب. المجلد الأول. دار العودة بيروت. 1971.
• الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. عز الدين إسماعيل. دار العودة ودار الثقافة. ط 3. 1981.
• كتاب السياب النثري. جمع وإعداد وتقديم حسن الغرفي. منشورات مجلة الجواهر.
د. المصطفى جا