تحل اليوم (29 غشت 2023) الذكرى 12 لرحيل رائد دبلجة الأفلام السينمائية بالمغرب الأستاذ إبراهيم السايح، وبهذه المناسبة ننشر ورقة عنه يتضمنها الجزء الخامس من سلسلة “وجوه من المغرب السينمائي/أوائل خلف الكاميرا”، الذي سيصدر قريبا ضمن منشورات مهرجان سيدي عثمان للسينما المغربية، وسيتم تقديمه وتوقيعه في إطار أنشطة الدورة التاسعة لهذا المهرجان صباح الجمعة 22 شتنبر 2023 بالمركب الثقافي مولاي رشيد بالدار البيضاء.
إبراهيم السايح.. سينمائي متعدد الإهتمامات:
يعتبر الأستاذ إبراهيم السايح، المزداد بالرباط يوم 30 دجنبر 1925 والمتوفى بها يوم 29 غشت 2011، من الرواد الأوائل الذين كان لهم حضور بارز في مرحلة البدايات الأولى للتجربة السينمائية المغربية على مستويات الدبلجة والإنتاج والإخراج وكتابة الحوارات والتشخيص. أخرج وأنتج سنة 1955 فيلمه الوثائقي الطويل “محمد الخامس” (فيلم مونطاج) وشارك في نفس السنة في إخراج الفيلم القصير “أسرار المغرب” مع الفرنسي جان ماسون، وهو من إنتاج المركز السينمائي المغربي والشركة الفرنسية للأفلام. بعد ذلك أنتج وأخرج فيلمين وثائقيين طويلين آخرين على شاكلة فيلمه الأول هما: “طريق الحرية” (1956) و”الأمم الإسلامية المستقلة” (1956)، وشارك إلى جانب أحمد الطيب العلج في كتابة حوارات فيلم “إبراهيم” أو “بداية وأمل” (1957) لجان فليشي.(45 د).
قبل ذلك راودته فكرة دبلجة الأفلام الأجنبية إلى العربية (الفصحى والدارجة) منذ سنة 1947، وهي السنة التي أصدر فيها كتابا حول “كرة القدم المغربية” وعشرة أعداد من المجلة المصورة “صوت الشباب المغربي”، متسائلا: لماذا لا نشاهد الأفلام الأجنبية بلغتنا العربية؟ حيث حاول جاهدا أن يترجم هذه الفكرة إلى واقع ملموس. وهكذا استغل تواجده بفرنسا خلال رحلة سياحية رفقة مجموعة من الشباب المغربي ليستفسر عن طرق الدبلجة وأساليبها وقرر في الأخير أن يعود إلى باريس ويقيم بها من أجل تحقيق حلمه.
في سنة 1948 سجل إسمه بالسجل التجاري في مهنة دبلجة وإنتاج الأفلام السينمائية، وفي سنة 1950 بباريس انطلقت معه التجربة المغربية الأولى في دبلجة الأفلام الأجنبية بفيلم “الأحدب” (1944) للمخرج الفرنسي جان دولانوا، الذي اشترى حقوق دبلجته، وقد اختار “إنتصار الحق” كعنوان لهذه النسخة من الفيلم المدبلجة إلى العربية الفصحى. لم تكن لدى السايح في هذه الفترة دراية كافية بتقنيات الدبلجة، الشيء الذي جعله يواجه عدة صعوبات (لغوية ومالية وتقنية) تغلب عليها بمثابرته وصبره واستعانته في باريس ببعض الأخصائيين في هندسة الصوت والمونطاج والميكساج. لقد كان وهو في بداية عهده بالدبلجة يقضي الساعات الطوال أمام المرآة يردد الجملة الفرنسية وترجمتها العربية مع إحصاء عدد الكلمات والحروف وكيفية النطق وحركة الشفتين، وهذا ما جعل أول دبلجة له تستغرق عدة أشهر، لكنه بعد التمرس أصبح بإمكانه أن يدبلج فيلما طويلا في أقل من أسبوعين.
لم يعرض فيلمه المدبلج “إنتصار الحق”، بكيفية منتظمة في المغرب، لأنه كان ناطقا بالعربية الفصحى، مما جعل أصحاب القاعات السينمائية آنذاك (بدايات الخمسينيات) يرفضون برمجته. ونتيجة لهذا الرفض أصيب السايح بخيبة كبيرة أمام فشل أول تجربة مغربية في مجال الدبلجة. لكن التعويض جاء عندما تمكن أحد الموزعين من بيع نسخ من هذا الشريط المدبلج لبعض الأقطار العربية، الشيء الذي ترتب عنه حصول السايح على مداخيل لابأس بها مكنته من الزواج بأم أولاده.
تجدر الإشارة إلى أن الممثل المصري جميل راتب وآخرين (أحمد وصفي، عصمت رأفت…) كانوا من ضمن الطلبة العرب بباريس الذين شاركوا بأصواتهم في دبلجة فيلم “الأحدب”.
وفي نفس الفترة تقريبا شارك كممثل (دور مرشد سياحي) في فيلم وثائقي فرنسي سياحي قصير بعنوان “المغرب الذي أحب” (1951).
سافر بعد ذلك سنة 1952 إلى الديار الفرنسية لتعلم تقنيات الدبلجة على يد أحد الاختصاصيين، الذي أصبح فيما بعد أقرب أصدقائه ومعاونيه. وبمجرد عودته إلى المغرب اشتغل مع شركة “تيلما” التلفزيونية بالدار البيضاء، بصفته محررا ومترجما، في انتظار أن تتوفر له إمكانيات دبلجة أفلام أخرى، خصوصا وأن السوق المغربية لم تكن تضمن بعد مردودية من وراء الأفلام المدبلجة إلى العربية بسبب إحجام المستغلين للقاعات عن المغامرة في هذا المجال.
رجع السايح إلى فرنسا بعد مغادرته لشركة “تيلما” (TELMA)، وفكر في إخراج فيلم طويل عن حياة الملك الراحل محمد الخامس، خصوصا بعد تفاعله مع حدث نفيه سنة 1953 وما تلاه من نضالات الشعب المغربي وقواه الوطنية الحية، وبالفعل تمخض عن بحثه المستفيض في أرشيفات الخزانات والشركات السينمائية فيلم “محمد الخامس” (1955)، الذي عرض بنجاح في مختلف القاعات السينمائية بالمغرب، ثم فيلمي “طريق الحرية” (1956) و”الأمم الإسلامية المستقلة” (1956)، وكلها أفلام مونطاج وثائقية.
وبما أنه لم يجد الإمكانيات المادية الضرورية لممارسة مهنته الأصلية (أي الدبلجة) في بلد حديث العهد بالإستقلال، استقر بفرنسا ابتداء من سنة 1957 نظرا لفرص الشغل المتاحة هناك. وهكذا وقع عقدا مع شركة فرنسية متخصصة في توزيع الأفلام الهندية بشمال إفريقيا، ومن هنا انفتحت أمامه آفاق الدبلجة على مصراعيها. كان “ساقي ومصباح علاء الدين” هو أول فيلم هندي دبلجه إبراهيم السايح إلى العربية الدارجة المغاربية بمشاركة الممثل المغربي المقيم آنذاك بفرنسا حميدو بنمسعود (1935- 2013) وثلة من الممثلين الجزائريين والتونسيين وغيرهم. وتلته أفلام أخرى لعل أشهرها “منكلا البدوية” و”ساحر جهنم” و”السبيل الوحيد” و”كوهينور” و”إسمي مهرج” و”أزاد اللص المحبوب” و”الأميرة والساحر” و”حداد بغداد” و”الصداقة”… وبفضل النجاح الذي حققته الأفلام الهندية في الأسواق المغاربية تعاقد السايح مع شركات أخرى للمزيد من حصة الأفلام المدبلجة سنويا. ولتوسيع مجال تحركه تعاقد السايح مع شركة “باطي” لدبلجة الأفلام الفرنسية وبعض الأفلام الإيطالية والأمريكية وغيرها. والملاحظ أن جل الشركات التي تعاقد معها السايح كانت لها فروع في الدار البيضاء والجزائر وتونس. ولعل هذا ما يبرر اللجوء إلى أصوات المغاربيين لأن الأفلام الناطقة بالعربية الدارجة المغاربية كان لها رواج كبير في شمال إفريقيا وبالخصوص في قاعاتها السينمائية الشعبية.
بعد أن اشتهر الأستاذ إبراهيم السايح بدبلجاته لأفلام لقيت نجاحا جماهيريا كبيرا، قرر العودة إلى بلاده ليستقر بها حتى يتمكن أبناؤه من متابعة دراستهم داخل وطنهم الأصلي. ولحسن الحظ استطاع التعاقد مع شركة استوديو السويسي بالرباط للقيام بالدبلجة في شروط احترافية. وهكذا استأنف عمله باستوديوهات السويسي بعد أن جهزها بالمعدات اللازمة ودبلج بالعربية الدارجة المغربية عدة أفلام هندية من بينها على سبيل المثال: “الأمير أحمد” و”امنا الهند” و”رستم سهراب” و”الهاربون من جهنم” … وعشرات الأفلام الأجنبية (غير الهندية) بمشاركة ثلة من الممثلين المغاربة وعلى رأسهم أعضاء فرقة التمثيل التابعة لدار الإذاعة المغربية. وبعد إغلاق استوديوهات السويسي انتقل العمل إلى استوديوهات عين الشق بالدار البيضاء حيث أنجزت دبلجات العشرات من الأفلام الهندية وغيرها قبل أن تغلق هذه الأستوديوهات أبوابها وتنتقل إلى المركب السينمائي بالرباط (المركز السينمائي المغربي).
استمرت تجربة إبراهيم السايح، رائد دبلجة الأفلام بالمغرب الكبير، إلى عقد التسعينات، حيث قام بدبلجة العشرات من الأفلام الهندية والفرنسية والأمريكية والإيطالية وغيرها. ولم يبخل بخبرته التقنية على زملائه السينمائيين بل وضع كل معارفه رهن إشارتهم في مجالي الدبلجة والميكساج. وهكذا كلف بدبلجة الأفلام المغربية التالية: “أبناء الشمس” (1961) لجاك سيفيراك، “حلاق درب الفقراء” (1982) لمحمد ركاب، “بامو” (1983) لإدريس المريني، “الزفت” (1984) للطيب الصديقي، “الورطة” (1984) لمصطفى الخياط، “غراميات” (1986) للطيف لحلو، “ظل فرعون” (1996) لسهيل بنبركة. وبالنسبة للتلفزة المغربية أشرف السايح أواخر السبعينات على إدارة إنتاج مجموعة من الأعمال الوثائقية تحت عنوان “خبايا المدن” من إخراج شكيب بنعمر. كما دبلج سنتي 1983 و1984 مسلسلين فرنسيين من عدة حلقات الأول بعنوان “فرسان الطيران” والثاني بعنوان “صديقي الفرس”.
من بين الأفلام الهندية الأخرى التي دبلجها السايح ولقيت نجاحا تجاريا كبيرا في القاعات السينمائية الوطنية نذكر العناوين التالية: “سادنا الراقصة”، “حور عرب”، “إنسانيات منكل”، “أمنا الأرض”، أسطورة الهاربين من جهنم”، “الفارس المقنع”، “الضحايا”، “إبن الهند”، “اللثام الخلاب”، “الوردة السحرية”، “وداعا يا أمي”، “راج تيلاك”….
تجدر الإشارة إلى أن الفنان إبراهيم السايح سبق له، قبل استقلال المغرب عن الحماية الفرنسية، أن اشتغل من 1943 إلى 1947 موظفا بالمكتبة الوطنية والأرشيفات العامة بالرباط ومترجما من الفرنسية إلى العربية ومحررا للأخبار بجريدة “السعادة” وإذاعة “راديو ماروك” ومديرا للبرامج بشركة “تيلما”، أول تلفزة خصوصية شهدها المغرب في مطلع خمسينات القرن العشرين بالدار البيضاء. ومما ساعده على ممارسة هذه المهام وإصدار مجموعة من المنشورات المدرسية إضافة إلى كتاب حول كرة القدم المغربية ومجلة “صوت الشباب المغربي”، وهي مجلة أطفال مصورة أصدر منها عشرة أعداد سنة 1947، احتكاكه بعالم الكتب ونشأته في وسط رباطي عريق مطبوع بمحبة العلم، فوالده الذي كان كتبيا ساهم في تكوينه إلى جانب دراسته الابتدائية بالمدارس الحرة والثانوية بكوليج مولاي يوسف وتخصصه في الترجمة بمعهد الدراسات العليا المغربية بالرباط.
أحمد سيجلماسي