بمناسبة فوز فيلمه الجديد “رماد” بجائزة أفضل فيلم عربي روائي قصير (مناصفة)، في المسابقة الرئيسية لمهرجان سينمانا للفيلم العربي بسلطنة عمان، الذي اختتمت مؤخرا دورته الثالثة بمنتجع جبل السيفه بولاية مسقط، أجرينا حوارا مع مخرجه الأستاذ المصطفى فرماتي.
يحكي هذا الفيلم الذي صورت مشاهده بنواحي تافراوت، على امتداد حوالي 23 دقيقة، قصة رجل أعور (من تشخيص عبد الغني الصناك) في رحلة بحث عن ولي صالح (من تشخيص حميد نجاح) يعتقد أنه الوحيد القادر على إعادة البصر إلى عينه الضريرة.
الفيلم من إنتاج محمد الهوري (شركة “سيكلوبرود”)، أما مخرجه وموضبه ومدير تصويره وكاتب السيناريو فهو في الأصل أستاذ للغة الأنجليزية بالتعليم الثانوي التأهيلي وفنان تشكيلي، حاصل على الإجازة في الأدب الأنجليزي من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء وعلى دبلوم المدرسة العليا للأساتذة بالرباط. أخرج لحد الآن خمسة أفلام قصيرة، توجت جلها بجوائز عدة داخل المغرب وخارجه، هي تباعا: “العائد” (2012)، “اللوحة” (2014)، “همسات تحت التراب” (2019)، “الموجة الأخيرة” (2020)،”رماد” (2021).
================================================
فيما يلي نص الحوار:
س: صورت مشاهد فيلمك الجديد “رماد” في فضاءات صحراوية مفتوحة وجميلة، ما السر في حضور هذا النوع من الفضاءات في جل أفلامك تقريبا؟
ج: فعلا، هذا أمر بادي للعيان من خلال مشاهدة الأفلام التي أنجزتها لحد الآن. فالطابع الذي يطغى عليها هو التصوير الخارجي. هناك أيضا تصوير داخلي في فضاءات مغلقة، لكنني شخصيا أفضل التصوير في فضاءات خارجية، وهذا يعود لعدة أمور لعل أهمها يكمن أولا فيكوني قضيت طفولتي الأولى (سبع سنوات) في البادية بحيث فتحت عيني على الحقول وركضت في الفضاءات الشاسعة والطرقات الترابية.. فهذا الأمر ترك بصمته، خصوصا ونحن نعرف أهمية وأثر سنوات الطفولة الأولى في بناء شخصية الإنسان عندما يكبر. فهذا الأمر انعكس على رؤيتي الإخراجية .. المسألة الثانية هي أن الأماكن توحي إلي بقصص، فأفكار الأفلام والقصص التي أصورها في أفلامي تنطلق أصلا من مكان معين، فأنا أحب التجوال وعندما ترى عيني مكانا مميزا يسكن مخيلتي لمدة طويلة، فأخيط أحداثا وأخلق شخصيات وأرسم عالما يناسب ذلك المكان. وبالتالي وفيما يخص فيلم “رماد” كنت في جولة بنواحي مدينة تافراوت فمررت بمنطقة أعجبني جمالها الفذ في شكلها القاحل فقلت في نفسي: لم لا يكون هذا الفضاء عالما لقصة من قصص أفلامي؟ وهكذا بدأت الحكاية وكانت النتيجة فيلم “رماد”.. النقطة الثالثة تتمثل في الإضاءة الطبيعية، التي أميل إليها في التصوير، فإضاءة الشمس لا مثيل لها لأن المشاهد المصورة فيها تكون أقرب إلى الجمال الحقيقي للأمور، فعندما تكون الإضاءة اصطناعية داخل استوديو أو فضاء تصوير معين فإننا نغير من الجمال الطبيعي والداخلي للأمور أي من الشكل الأصلي الذي وجدت عليه. أما عندما نصور مشاهد خارجية بفضاء طبيعي فإننا نتمكن من الإبقاء على ذلك الجمال الطبيعي كما هو.
س: اختيارك للممثلين القديرين عبد الغني الصناك وحميد نجاح كان موفقا إلى حد كبير، كيف جاء هذا الاختيار؟ وهل هناك من خصوصية في إدارتك لهما مقارنة مع ممثلين آخرين (محترفين وغير محترفين) سبق لك الاشتغال معهم في أفلامك؟
ج: فيما يخص حميد نجاح وعبد الغني الصناك، هما من أروع الممثلين الموجودين حاليا في ساحتنا الفنية.. فمنذ مدة وأنا أشاهدالفنان الكبير حميد نجاح في أعمال سينمائية وتلفزيونية.. كنت معجبا بأدائه المعبر..كنت أقول مع نفسي وأكرر كلما شاهدت عملا جديدا له: سأشتغل معه يوما ما، وعندما جاءت فكرة “رماد” كتبت السيناريو وفي ذهني أن نجاح هو الذي سيشخص دور الولي الصالح ولا أحد غيره.. تحدثت معه أثناء الكتابة وتعرفت عليه عن قرب ووجدت أنه شخص رائع. كل ما أقوله عنه كفنان وإنسان لن يفيه حقه.. خلال التصوير في منطقة قاحلة فاقت درجة الحرارة فيها رقم 47 في شهر يوليوز لمست فيه تعاونا وتحملا لم أجدهما عند الشبابالذين اشتغلوا معي في الفيلم.. بحيث لم يتعبني أبدا.. تحدثنا كثيرا أثناء التصوير وناقشنا السيناريو صفحة صفحة حتى أصبح كل شيء في ذهنه، ولهذا لم نكرر تصوير اللقطات مرات كثيرة.. لقد كان تشخيصه رائعا منذ اللقطات الأولى أي في مستوى ما كنت أطمح إليه.. نفس الأمر فيما يخص الفنان عبد الغني الصناك، فعندما كنت أكتب وأحدد معالم شخصية الرجل الأعور في السيناريو لم يكن في بالي شخص معين لأداء هذا الدور، لكن عندما اقترب موعد التصوير حضر إسمه هكذا وباشرنا العمل وفاجئني بدرجة استعداده العالية وصبره وسلاسته وإصغائه لتوجيهاتي كمخرج.. وحتى عندما كنا نعيد تصوير بعض المشاهد لم ألمس فيه تذمرا ما، بل كان يطلب مني إعادة تصوير ما لم يكن هو نفسه مقتنعا به في بعض اللقطات، رغم أني كنت راضيا عن أدائه خلالها.. هاجسه كان هو الوصول إلى أعلى مستوى في تشخيصه لدوره.. صراحة كنت سعيدا باشتغالي مع الفنانين نجاح والصناك.. أكيد أن هناك فرق كبير بين الاشتغال مع ممثلين قديرين من حجمهما والاشتغال مع فنانين آخرين بحكم تجربتي الفتية التي لم تسمح لي بعد بالاشتغال مع ممثلين كبار آخرين.. تجربتي معهما إذن كانت تجربة جميلة وغنية ومفيدة، وستظل راسخة في ذاكرتي.
س: اختيار المقاطع الموسيقية كان هو أيضا موفقا إلى حد ما، ما هو سر تعاملك مع مؤلف موسيقي ياباني؟ وكيف كانت طريقة اشتغالكما معا؟
ج: المقاطع الموسيقية، سواء في فيلم “رماد” أو فيلم “الموجة الأخيرة”، لم يتم اختيارها بل تم تأليفها خصيصا للفيلمين من خلال الاشتغال مع المؤلف الموسيقي الياباني ياسوتاكا تارومي. بدأ الأمر من خلال التفكير في الآلة الموسيقية التي لها نغمة تناسب مضمون الفيلمين وطابعهما الروحاني أي السفر إلى الداخل.. إلى الأعماق.. وأنا أفكر في هذا الأمر تبادرت إلى ذهني آلة الدودوك الموسيقية المعروفة، وهي في الأصل آلة أرمينية مسجلة في التراث العالمي، مصنوعة من القصب وعليها تسع ثقب، لها نبرة أو نغمة روحانية، أحب شخصيا الاستماع إليها كثيرا لأنها تسبح بي في عوالم روحانية فيها تأمل وغوص في الذات وتجاوز الشكل إلى العمق.. هي آلة تحيلك على كل هذه الأمور، فقررت أن أستعمل هذه الآلة في الموسيقى التصويرية للفيلمين معا.. بحثت في المغرب فلم أجد من يعزف على تلك الآلة، فاخترت الانفتاح على موسيقيين عالميين، خصوصا وأننا في عصر أصبح فيه العالم بمثابة قرية صغيرة، شرعت في البحث عن مؤلف متخصص في العزف على هذه الآلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة وفي النهاية تعرفت على الياباني ياسوتاكا، الذي يعشق هذه الآلة ويعتبر سفيرا لها باليابان، فتحدثت معه بالأنجليزية عبر انستاغرام عن فكرة وسيناريو كل من الفيلمين، فأعجب بالموضوع وقرر الاشتغال معي ووضع الموسيقى التصويرية للفيلمين ولم يتحدث عن تعويضاته حتى أرسل لي المقطوعات بصيغتها النهائية القابلة للإستعمال في مشروع كل فيلم، علما بأنه لم يطالبني إلا بتعويض هزيل عن أتعابه.. لقد كان شخصا رائعا والتعامل معه كان سلسا.. كنت أرسل له كل فيلم بعد الانتهاء من توضيبه الأولي وكان يضع المقاطع الموسيقية المناسبة لمشاهده.. هكذا اشتغلنا معا.
س: المعروف أن العمل السينمائي عمل جماعي، إلا أنني لاحظت أنك لم تحترم مبدأ الاختصاص في هذا الفيلم (وربما في أفلامك السابقة أيضا)، حيث أنك اضطلعت بعدة مهام: كتابة السيناريو والإخراج وإدارة التصوير وتصحيح الألوان والمونطاج والترجمة… فهل السبب في ذلك هو شح الإمكانيات وهزالة ميزانية الإنتاج؟
ج: لا جدال في كون العمل في السينما عمل جماعي، والدليل على ذلك هو جنيريكات الأفلام التي يستغرق عرضها عدة دقائق في بداية ونهاية كل فيلم وتتضمن قائمة طويلة من المتدخلين في صناعة كل الفيلم، خصوصا بالنسبة للأفلام الطويلة.. وحتى في الأفلام القصيرة نجد نفس الجنيريكات.. وأنا شخصيا أشتغل مع فريق من التقنيين والفنانين، إلا أنكم لاحظتم اضطلاعي بمجموعة من المهام في الفيلم.. صحيح، وهذا أمر جاري به العمل في السينما العالمية ولا يحيلنا بالضرورة على هزالة الميزانية، رغم أن هذه الهزالة في ميزانية الإنتاج أمر وارد، بحكم أن إنتاج الفيلم هو إنتاج ذاتي، رغم أنني لم أدخر وسعا ولم أبخل ماديا في حدود إمكانياتي ليكون العمل في المستوى المطلوب.
الجمع بين أكثر من تخصص واحد أمر وارد في أفلام وتجارب سينمائية عالمية عدة أذكر منها، على سبيل المثال، تجارب ستيفن سبيلبيرغ وأكيرا كوروساوا والأخوين كوين وغيرهم من الذين يقومون بالإخراج والتصوير وكتابة السيناريو وغير ذلك في أفلامهم… هناك مخرجون يقومون بالإخراج والإنتاج في نفس الوقت.. هناك من يقوم بالإخراج والإنتاح والتشخيص ككلينت إيستود وميل جيبسون مثلا.. إنه أمر وارد ولا مانع فيه طالما كان هناك إتقان للعمل، وهذا هو المهم، بحيث لا يجب التطفل على مهنة أو تخصص معين دون التمكن منه.. في نظري، السيناريو والتصوير والإخراج والمونطاج بمثابة أربع كتابات للفيلم يستحسن أن يضطلع بها نفس الشخص، هذا رأي خاص وليس قاعدة، السيناريو مزيج بين الكتابة الأدبية والتقنية وهو أصل الفيلم، وعندما يقوم نفس الشخص بإخراج هذا السيناريو يكون هناك انسجام. أما التصوير فهو كتابة بصرية، حتى عندما لا يكون المخرج هو نفسه مدير التصوير، فالمخرج الإيراني عباس كياروستامي مثلا كان يتحكم في إدارة التصوير لدرجة أنه حينما ينتهي من تصوير فيلمه تصبح العلاقات سيئة بينه وبين مدير التصوير، فقد يلتقيان من بعد ولا يلقيان التحية على بعضهما البعض، وذلك من شدة تحكم كياروستامي في إدارة التصوير، لأن فكرة الفيلم منبثقة من داخله. وهذا ليس تقليلا من شأن مدراء التصوير وإنما إدارة التصوير هي لبنة أساسية في صناعة الفيلم لأنها تعكس تحكما في الكاميرا وعدسات وتقنيات التصوير.. بالنسبة لي في فيلم “رماد” لم أمسك الكاميرا (أي لم أكن كاميرا مان) وإنما قمت بإدارة التصوير وبالإخراج طبعا.. فهذه الكتابات الأربع: الكتابة الأدبية (السيناريو) والكتابة البصرية (إدارة التصوير) والكتابة الإخراجية (رؤية المخرج) والكتابة التقطيعية (المونطاج)، وهذه الأخيرة هي اللمسة أو الكتابة النهائية للفيلم، لابد أن يكون بينها انسجام وإلا سينهار الفيلم. فقد يكون السيناريو جيدا وإدارة التصوير كذلك، لكن قد ينهار كل شيء عندما يضطلع بالمونطاج شخص آخر لا دراية له بالمراحل السابقة أي لم يتشبع بالرؤية الواردة في السيناريو والإخراج وإدارة التصوير. كما أسلفت يكون من الأفضل لو تمكن المخرج نفسه من القيام بهذه المهام كلها تحقيقا للإنسجام بين الكتابات الأربع وحفاظا على وحدة الرؤية من البداية إلى النهاية، خصوصا إذا كان غير متطفل عليها، فلا مانع عندي من الجمع بين تخصصات عدة.
س: ما علاقة عنوان الفيلم (رماد) بما رغبت في توصيله عبر قصة الرجل الأعور وبحثه عن الولي الصالح؟
ج: الإجابة عن هذا السؤال، في الحقيقة، تقتضي مني الخوض في أمور تتعلق بتأويل الفيلم وتفسيره وتقديم توضيحات بخصوصه…وهذا الأمر صراحة أتفاداه وأتجنبه عملا بمبدأ ثابت في أي عمل فني هو موت المؤلف.. جاء به رولان بارث، والمقصود به أنه حالما ينتهي المؤلف أو المبدع من إنجاز عمله لا يعود هذا العمل في ملكيته بل في ملكية المتلقي. وهذا يستدعي من المؤلف ألا يفرض رأيه ولا رؤيته ولا ما يقصد بعمله على المتلقي أي أن تبقى لهذا الأخير (المشاهد في حالة السينما) حرية التفاعل مع العمل، ونترك لهذا الأخير حرية الوصول بشكل تلقائي وغير موجه إلى إحساس المشاهد ووجدانه. الأمر يشبه مثلا أن تقف في رواق فني وأن تسأل الرسام عن سر استعماله لهذا اللون دون غيره أو عن معنى تلك الظلال والأشكال. هذا الأمر يعرقل عملية التفاعل الطبيعي والتلقائي مع العمل الفني. لكن هذا لا يمنع من تقديم بعض الإيحاءات بشكل عام… الرماد موظف في الفيلم بشكل مجازي، وأنا أميل إلى المجاز لأنه أسلوب جميل جدا في تشفير المعنى وتحميله على الصورة، فهو مادة هشة تحملها الرياح بسهولة. فلو أخذت حفنة من الرماد وفتحت يدك في الريح فستأخذ الرياح ما بيدك ولن يبقى فيها شيء. الرماد هو ما يبقى بعد احتراق الشيء ويظل حاملا لأثر ذلك الشيء المحترق أي جيناته.
أجرى الحوار: أحمد سيجلماسي.