كثيرة هي المبادرات الثقافية التي تبقى عالقة بالأذهان، ومدسوسة دون سموم بمساحات هذا الثقافي كفعل سار في شرايين الحياة؛ أي في ذاك العمق الذي لا يندثر ولا يتلاشى، مهما علا الضجيج وتطاول على القامات الجديرة بالانتماء للوجود الإنساني في علته وامتداده. أذكر هنا في المغرب مجلات ومنابر إعلامية مكتوبة ومسموعة، منها برنامج «حدائق الشعر» الذي كان يعده ويديره الشاعر الراحل محمد بن عمارة لإذاعة وجدة الجهوية. كان هذا البرنامج بحق منارة شعرية على الهواء، فقدم خدمات جليلة للشعر والشعراء مغربيا وعربيا برؤية استراتيجية متحررة من الكثير من الأوهام التي تحيا على ساحتنا الثقافية كالأجساد الصماء التي لا تلتفت لنفسها ولمحيطها في حوار وانفتاح خلاق.
ظل الشاعر بن عمارة يقدم القصائد مرفقة بأحاديث حول الشأن الشعري في العالم والحياة. والجميل، أن الشاعر كان يولي أهمية فائقة للأدوات الشعرية وجماليات الكتابة، دون التمركز حول ظاهرة أو مرجعية
وأنا أذكر «حدائق الشعر»، أتذكر معه لحظات شعرية جميلة باعتباره من بين المنابر التي انخرطت فيها بقصائدي في أواسط الثمانينيات من القرن السالف. والأجمل، وأنا آنذاك تلميذ في الثانوي، أن الشاعر كان يضع بعض قصائدي إلى جانب شعراء عرب مكرسين ومعروفين، فكنت أقول وأردد: إن وراء ذاك البرنامج شاعرا قديرا وكريما. وفي المقابل دفعني ذلك للالتفات لأدواتي الشعرية، وصقلها على مهل حتى أصبحت القصيدة مركبة عندي، يصعب الحديث عنها. دفعتني هذه الصحبة أن أعود لأعمال الشاعر محمد بن عمارة الإبداعية والأدبية، وازددت تقديرا للمرجعية الصوفية الحاضرة في شعره بقوة كوظيفة وموجه. لكنه كان يعرف أن الشعر سفر متعدد العدة والمضايق، لذا تراه منصتا، وسابحا في روافده المتعددة.
بعد صدور ديواني «هواء الاستدارة» سنة 1995، الذي لم يلق حظه وحقه في الإعلام والتداول، تلقفه الشاعر محمد بن عمارة وقدمه في برنامجه كورش شعري. في هذه اللحظة، هاتفت الصديق بن عمارة قائلا: شكرا على إنصافك، وعلى فراستك الشعرية، فبرنامجكم بحق محطة فاعلة في تشكيل تجربتي الشعرية. قال والعهدة على الهواء: إني أتحسس قصائدك كالحياة في تنفسي.. وضحكنا معا.
أستعرض الآن هذه النتف، لأني أتلذذ بها ضمن مساحة الفقد المستدير، ولأن استحضار اسمه ضمن الجغرافية الثقافية المغربية، يشي بالكثير من الأسئلة حول المحرر الثقافي والاشتغال ضمن هذا الحقل الحساس الذي يقتضي الإنصات والانفتاح، التتبع ورعاية الصداقات، تقدير الأعمال وتبليغها بأمانة عوض صد الباب وامتلاك هذا الثقافي كضيعات للتنزه مع الأشباه. فالكثير من المبدعين الجيدين قذفتهم ودفعتهم النعرات والنزوات وعصا الدوائر لعزلتهم، فأصبح الحيف مركبا، لا يعرفون معه الأصدقاء من الأعداء.
أكيد، كلما افتقدنا على الساحة اسما في حجم بن عمارة في الاشتغال والتفاني الثقافي، افتقدنا مساحة ثقافية؛ لأن الصداقات مختلة والاشتغال معطوب. والشاعر الجميل والمعطاء محمد بن عمارة كان يعرف هذا جيدا. ويعرف أنه مرض غريبا، وسيموت غريبا إلا من تلك الحدائق المؤنسة في الحياة والوجود. فكثيرة هي الأسماء التي غادرتنا، وفي قلوبها شيء من غيظ المؤسسات. وبعد ذلك، نتركها لصمتها الأبدي؛ كأنها لم تترك أثرا للمشي. بهذا الصنيع من الإهمال والتناسي، يموت المبدع مرتين. وهو ما يطرح سؤال الذاكرة الثقافية التي يتم حشوها بالكثير من النفخ عوض النسمات ذات المعنى العميق، والساري في شرايين الوجود التي لا تموت.