نتابع منذ مدة غير يسيرة، أعمالا مسرحية من (هذا) اللون الجديد الذي يحرص أصحابه على تصنيفه ضمن تقليعة الفن ما بعد الحداثي، فإذا هي هجانة لا لون لها ولا طعم، شخوص كالدمى بلا نبض، و لا حياة، وإضاءة ليزرية تتقافز هنا وهناك فوق أرضية الخشبة وحيطانها، على نحو يؤلم بصرك، ويوجع دماغك، ويشعرك بأن خلف جهاز الإضاءة طفل يلهو، لا مصمم إضاءة يعمل بناء على توجيهات مخرج يعي ويعرف ما يفعل!
نص هجين فيه من الصراخ أكثر مما فيه من الكلام، مع وقفات صامتة مفتعلة لا دلالة لها ولا مضمون، ولا حتى سياق يسوغها! وكأنها مسرحية صممتها آلة غبية لا تحس ولا تحلم، إنما كل ما تحسنه هو إسقاط مزيج من إضاءات مهزوزة، وضجيج من موسيقى نشاز، على كلام مجزوء لا تنتظم منه عبارة دالة، وحركات مفتعلة لا مبرر لها!
نص سقيم مسكون بوهم الثورة على القواعد والمعايير، وافتعال محو الخاصية السردية حتى يتلبس بلبوس التجديد والتحديث! وليت هذه الثورة على المعايير كانت مدفوعة بوعي ومعرفة إنما هي تقليد فج يتعلق أحيانا ببريخت وأحيانا ثانية ببيكيت وثالثة بيونسكو أو أداموف، مع جهل بهؤلاء جميعا!
ثم بعد هذا يخرج بعض النقاد لسبك عبارات المديح!
عجبي!
لذا نقول، إن نجاح المسرح يكمن في قدرته على اختزال الحياة ونقدها والإيحاء بما بعدها. فليست وظيفة المسرحي أن يكرر الواقع ويستنسخه لنا، بل وظيفته هي إنجاز قدرته الفنية في تجسيد موقف نقدي وإيحائي بأسلوب جمالي. وبسبب خصوصية الفن المسرحي واقتداره هذا، نفسر تحول روائيين مثل صمويل بيكيت من جنس الرواية إلى كتابة المسرحية، فبفعل ضغط الحرب ومعاينته لعبثيتها، ومثول انهيار العمران الحضاري أمامه، وسقوط أنساقه العقدية والقيمية، لم يجد بيكيت في جنس الرواية ما يسد حاجته إلى التعبير والإدانة، فانتقل إلى تجريب جنس فني آخر هو المسرح، فكتب سنة 1948 رائعته الشهيرة “في انتظار غودو”.
وإننا إذ نحيل على هذا المتن المسرحي العبثي، نفعل ذلك قصدا لنقول لهؤلاء العابثين: يا ليت مسرحكم كان في مستوى مسرح العبث!! بمدلوله الإبداعي الخلاق، لكنه للأسف بقي في عبثيته اللاهية عند حدود مسرح السخف. فلو تأملنا في مسرح بيكيت لرأينا إلى أي حد يكون العبث جادا، وإلى أي حد يكون اللاوعي مثقلا بأسئلة الوعي!.
هكذا كان لعبثية بيكيت منطقها ومسوغها الأنطلوجي. ولذا كان عبثا دالا. بينما الناظر في عبثية بعض مسرحياتنا لا يخرج منها بما يعطيها فضل الفن العبثي!! فقد شهدت السنوات الخمس الماضية وقائع وتحولات كثيرة، ولا تزال تعتمل وترهص بما هو أخطر، فهل كان لهذه التحولات حضور أو ارتسام على المشهد الفني والمسرحي؟
لسنا ممن ينتهجون نظرية واقعية الفن بمدلولها الفج، فنطلب أن تكون علاقة الفن بالواقع علاقة مرآوية تصويرية، بل نقول إننا نطمح أن نرى في مسرحنا المعاصر قدرة على الإنصات إلى لحظته ونبض زمنه، ثم بعد هذا الإنصات، له أن يتفاعل معه بحسه الفني الخاص بكل جماليته ورمزيته واقتداره على الإيحاء والتخييل.
طنجة الأدبية