استيقظ على غير عادته قبيل الفجر بقليل، رغم أنه سهر معظم الليل يجهز عدته، وكأنه ذاهب إلى حرب ضروس، لدى وضع جميع السينريوهات في اعتباره. استعدادا لامتحان البكالوريا في مادة الفلسفة.
تناول فطورا سريعا، ووقف أمام دولاب ملابسه غير المرتب أو المرتب بطريقة فوضوية، ركز بحثه على سروال يحمل أكبر قدر من الجيوب المعلنة والسرية، لعلمه المسبق بصعوبة الامتحان، كما أن صديقه الوحيد إدريس واحد من قيدومي تلامذة البكالوريا، لم يدخر جهدا بالأمس وهو يحدثه عن صعوبة الامتحان والحراسة الدقيقة التي يخضع لها التلاميذ، لدرجة توهم معها إمكانية أن يتكلف اللواء المسلح المرابط على الحدود مهمة الحراسة، فلم يعد هناك قضية تستحق أن يدافع عنها هؤلاء الجنود المساكين الذين هم في حقيقة الأمر ليسوا أعلى شأنا من العاطلين على أعتاب البرلمان، مع فارق أساس هو أنهم موظفون مع وقف التنفيذ، ترك هذا الهاجس جانبا وبدأ تعبئة ذخيرته من الدروس. حرص على أن لا يغفل أي سلاح فهذا درس الشخصية؛ وضعه في جيب أقصى اليمين؛ والعمل يسارا أما الكرامة فكانت في الجيب السفلي والسياسة في الوراء، على هذا النحو يستحيل عليه الخلط بين الدروس، وفي أخر خطوة وقف بضع لحظات أمام المرآة. تأكد من تناسق مظهره. ثبت شعره للأعلى مثل طاووس في ليلة الزفاف. تذكر أمه التي مازالت تغط في نوم عميق، فكر أنها لن تستطيع إسماعه أسطوانة الصباح، فقد أسمعته ما يكفي ليلا بما يسد حاجته أياما متعددة قادمة، أما الأب فأمره بسيط حديث عن بطولات لا تنتهي وعن جمر لا تنطفئ شعلته، وختام حديثه سيل من الشتائم يبدأ من أعلى سدة الحكم، وينتهي عند زوجته التي تنام في وداعة كالملاك إلى جانبه.
استجمع شجاعته أو ما بقي منها، ثم غادر منزله بخطوات ثابتة، اتجه بسرعة إلى المدرسة، أرض المعركة لتتسنى له فرصة مشاهدة المكان الذي اختير له هل سيساعده في تنفيد إنزاله للذخيرة التي تزود بها. انتظر على باب المدرسة بعد أن التقى صديقه إدريس. تناول سيجارته من البائع المتجول العم النوح، ولم يكترث هذه المرة لنصائح إدريس، وإنما ترك العنان لتأملاته، لتطارد خيط الدخان وراء الأفق الذي بدا غامضا على نحو مريب.
رن جرس الدخول ولأول مرة تسنى له سماع صوته، لم يكن اعتاد عليه بعد لذلك ذكره بجرس الإنذار فوق بغداد خلال القصف الأمريكي على العراق، بدت له الفكرة ممتعتا على نحو ما. قاطع إدريس الذي كان مسترسلا في حديثه اليومي. شده من يده وهمس في أذنه قائلا: ليتهم يضعوننا في فصل واحد، والأفضل من ذلك أن نكون في مقعدين متجاورين، فالتعاون أوصى عليه محمد في أحدى أحاديثه، حاول أن يتذكر ذلك الحديث لكن ذاكرته لم تسعفه، في هذه اللحظة لكزه صديقه بعنف، "قل صلى الله عليه وسلم" أمن أجل امتحان الفلسفة تصبح كافراً، لكنه لم يعر الأمر أي اهتمام، التحق بقاعة المعركة ألامتحان اتضح أن الصديقان معا كما تمنيا بالضبط.
دخل أستاذ الرياضيات، رجل مهووس بالأرقام لدرجة قدم معها طلبا رسميا لمصالح الحالة المدنية قصد وضع رقم بدل اسمٍ لأحد أبناءه، فقد كان على قناعة راسخة بأننا لسنا سوى أرقام في كناش الأقدار، دخل إثر ذلك أستاذ اللغة العربية، شاعر لكنه لم ينشر أي قصيدة، فالنشر على جدران الفصل أهون بكثير من أن تنتهي دواوينه عند بائع "الزريعة" في أحسن الأحوال، تخيل الشاعرَ يحاول أن يفر في قارب القصيدة من دفتر الأرقام، وقبل أن يتم مسلسل الهروب الكبير هذا كانت ساعة الحسم قد دقت.