قتلها البؤس، الحزن ضرب بابها، الفقر أكل كل ما فيها حتى ثيابها، خرجت من بيتها تدُورعلى بيوت القرية لعل هناك من يمد اليد.
الأمير يسكن دائما على أطراف القرية، يجرى دائما بحصانه فى الحقول، يسبقه كلبه مرة، ويسبقه بحصانه مرة..
الآن هو يجاور سندريلا، يستوقفه حزنها، بؤسها، ثيابها المتأكلة.. يتوقف كلبه عن السباق، ويساير خطوات سندريلا.. الأمير يخرج من دهشته بسؤال..
- من أنت؟!.. لم أقابلك من قبل فى حواديتى؟! ..
سندريلا لا تجيب.. فقط تضع يدها على الجزء المتأكل والذى ينفلت منه ثديها.. الأمير تتملكه دهشته، فلا ينظر إليها كأنثى لهذا لا يتوقف طويلا أمام الثدى المتدلى، العين الكسيرة، الشفاه المرتعشة بردا وجوعا..
- من أنت؟!..
يسابق السؤال الجواب، كسباق الكلب الحصان.. الأمير لا يطيب له السير الهوينا.. الأمير أمير لأنه يسابق الريح، لأن حصانه يسابق كلبه.. لهذا يتخطى بسرعة دهشته، سؤاله المعلق بلا جواب ويسرع الخطى فى اتجاه أطراف القرية حيث القصر الذى لا يرى ساكنه سوى حدائقه الغنّاء..
الأمير فى القصر يسترجع يومه كما اعتاد، يستوقفه مشهد الحقل، الفتاة ذات الثياب، الآن فقط وهو فى جلسته تلك والأشجار ترمى ظلها على حجرته، والأزهار تقذف ناحيته روائح الياسمين والفل والنرجس وآلاف الأسماء، يتخطى ذهنه كل هذا ليصطدم بعريها، بالثدى المتمرد على الثوب الممزق، الأمير يعرف طعم لحم الفقراء.. "من أين أتت؟!".. "لم أرها فى الجوار من قبل".. الأمير يحسم أمره.. "الصباح رباح" ..
- يا حاجب هذا القصر، غدا الحفل الكبير.. أدبح وأدعو كل من يحيط بالقصر للحضور.
فى عقل الأمير فكرة، فى رأس الأمير خيال، صورة لثدى متدل ... غدا حفل كبير.
***
الأمير يرتدى ثياب الحفلات، وجه الحفلات، روح الحفلات، يتقمص شخصية السعيد لأن أهل اقطاعيته يجاورنه.. يفتح باب حجرته ويهتف
- هل حضر الجميع؟.
الجواب.. نعم.. يرسل الأمير خياله ليحلق فى أجواء القصر.. سيجدها بالتأكيد فى زاوية، تجلس على الأرض، تلم الثدى الهارب من حصار الثوب المتأكل إلى الفضاء كطائر أبدا لا يستكين إلى القفص، الأمير يعرف خجل الفقراء من العرى، يثيره مشهد جسد لا يجد الثوب الذى يحتويه، لا يعرف متى استطاب لحم الفقراء، لكنه يعترف أنه لم يجد متعة ما عندما تذوق لحم الأميرات، أن كل لحظات حياته السعيدة فى هذا الجانب قضاها فى لحم فقيرة، الأمير يخرج من ذكرياته على دعوة للنزول .. الأمير يتهيأ، الأمير يتحرك.. القصر يسكن فى انتظار حركة الأمير.
***
الأمير يدور فى جنابات القصر.. الحديقة.. يفتش فى الوجوه.. هو لا يرحب، فقط يدع يده تصطدم بالشفاه فهذا غاية المراد بالنسبة لهم، ومصدر السعادة بالنسبة له.. أن يلمسوا.. أن يقبلوا.. حجر أسود هو بالنسبة لهم.. يعبر الوجوه سريعا.. "فى رأس الأمير خيال".. تشابه عليه الأمر... "فى عقل الأمير فكرة".. هو يستعيد الآن صورة الخيال.. الثدى المتدلى، الفقر الذى يعرف طعمه فى العيون، لونه فى الشفاه، وبؤسه فى الثياب والقلوب.. الأمير يمنى النفس بليلته تلك.. "ستكون جزيرتى التى ألقى عليها مرساتى اليوم، أنا البحار العابر لبحار الفقر على الأجساد الفقيرة".. الأمير يقلقه أنه حتى الآن لم تصطدم عيناه بها، لم تخطف يده قبلاتها.. الحلم يتأخر، والآمير -الذى لم يعتاد الصبر حين يمر الخاطر بالبال- ينتابه القلق.. تتسرب إلى نفسه لحظات ألم.. الأمير لا يستطيب الحياة بهذه المشاعر، لذلك يسارع بعبور الوجوه، لكن الوجوه تتكرر.. "هل تشابه عليه الأمر؟!" .. "هل مر عليها ولم ينتبه؟!".. يشير إلى خدم القصر.. تقترب العيون والآذان..
- أين باقى سكان القرية؟!.. اخرجوا.. دوروا فى الجنبات.. ابحثوا.. ليست هذه هى الوجوه.. ليست هذه هى الهدف..
: الأمارة يا أمير.. دليل العثور عليها..
الأمير يفكر.. "فى رأس الأمير خيال" هو يستعيده الآن، الثدى المتدلى، الشفاه المرتعشة.. يعمل خيال الأمير بهمة ونشاط.. يشير على بطانته.
- لا أذكر سوى الثوب المتأكل، والثدى المتدلى..
يأتى رسام القصر، يدخل رأس الأمير بألوانه وينقل خيال الأمير إلى الورق.
- وزعها على كل من فى القصر..
من رأى هذه الثياب، من رأى هذا الثدى ليتقدم للأمير.. الوجوه تحار، لم نر هذا الثوب، هذا البؤس.. رغم تشابهه مع بؤس العيون والوجوه والقلوب لأغلب سكان القرية.. الأمير يحار.. يهرب من حفله، يسارع إلى الحقل حيث الخيال.. هناك لمحها شجرة فى أرض، ترمى أوراقها حول جذعها لتخفى الثدى.. ذهل الأمير..
- لماذا لم تأتى الحفل؟
اشارت إلى ثيابها.. "ما له الثوب.. هو مبتغاى".. استدعى الأمير ساحرته العجوز من حدودته.. أمرها أن تقنع سندريلا بالحضور، تعدها بالهناء والسرور... لم تلبسها فستانا جديدا، لم تضع فى قدميها حذاء ذهبيا فالأمير يشتهى ثوب البؤس بقدر اشتهائه لحمها، فقط اسمعتها معسول الكلام.. سندريلا مسلوبة العقل ذهبت إلى الحفل.. زادت الأضواء.. زادت البهجة.. انتشى الأمير.. غلبه فرحه فنام.. عندها بدت سندريلا فى صورته حزينة، شجرة دون أوراق.