تُحد الأنترنيت على أنها نظام اتصال بين الشبكات الحاسوبية العالمية ينظمه برتوكول محدد. غيرأن انتشار تداولها واستعمالها جعلها تتجاوز حدود تعريفها، فمثلما اجتاحت تطبيقات المعلومية حقول المعرفة فأعادت تفكيكها وتركيبها وفق نمادج مُباينة، اجتاح المد النيتي حياة الأفراد والمجتمعات فخلخل البنى المحلية الموروثة للثقافة والعقل وأحل محلها بنى جديدة تتشكل باستمرار. ولأول مرة في التاريخ بدأ يتحقق طموح الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الداعي إلى كتابة تاريخ عالمي موحد من وجهة نظر كونية والأمر لا يتعلق بموسوعة لكل ما هو معروف عن البشرية فحسب بل بمحاولة لاكتشاف نمط ذي مغزى في تطور المجتمعات الإنسانية بوجه عام. يتمحور هذا الموضوع حول سؤالين مهمين الأول يتعلق بأهم الأليات الفاعلة في العالم الافتراضي ومدى تأثيرها على المجتمع المدني بصفة خاصة وعلى العقل الجمعي بصفة عامة؟ والسؤال الثاني سؤال تشكيكي يتجلى فيما إذا كان هذا التأثير مجرد وهم وفيما إذا كانت هنالك حالة تكييف للعالم الإفتراضي من المتحكمين في السياسة العالمية لكي يخدم غايات محددة.
1ـ الفاعلون الرئيسيون والتفاعل النشيط:
1.1ـ محركات البحث:(طفرة الباحث أُنمودجا)
شكلت محركات البحث نقلة نوعية وطفرة مهمة في البحث عن المعلومة وسرعة الحصول عليها، أزاح "غوغل" ما يمكننا أن نسميه البحث عن المعرفة عند كبار السن أو المستوى من الأقارب، وهيأ السبيل للإطلاع على وجهات نظر كثيرة حول نفس الموضوعة، الأمر لا ينحصر فقط في الحصول على المعلومة وإلاّ بقيت محركات البحث مجرد أدوات ، إننا أمام ذاكرة حقيقية تتشيأُ من حولنا. فمثلا الكتب التي كنا قد استعرناها من بعض الأصدقاء وقرأناها صدفة وظننا أننا لا نجدها مرة أخرى حتى لو شددنا الرحال لأكبر المكتبات، اليوم نجدها بضغطة زر ونحملها لمتصفحنا ونقرأها من جديد، نتذكر صدر بيت شعري أهملنا عَجُزَه، نتذكر مقولة أو كتاب أهملنا صاحبه، محركات البحث تذكرنا بالشق المنسي، ما نتذكره يشكل قمة جبل جليدى تترهل قاعدته في الأعماق النتية.. نحتاج استشارة طبية أو قانونية محركات البحث لا تتأفف في وجوهنا ولا تتضايق، إننا أمام ذاكرة واسعة وعميقة ساهمت في تراكم كبير للمعرفة والفكر، وفي إيصال فحواها لأكبر عدد ممكن من الجماهير. وطفرة محركات البحث هذه، شبيهة بطفرة اكتشاف الكتابة ودخول الإنسانية للتاريخ، أو بطفرة ازدهار الطباعة في أوربا النهضة.
لم تكن عملية تقدم القراءات الإحصائية وتجريبها في علوم كثيرة كعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها.. عملية سهلة المنال لولا تطور البرامج الحاسوبية من كان مثلا يستطيع القول :" إن هذه الكلمة تكررت في القرآن 17مرة وتلك 20 مرة ..."، حتى من حمَلة القرآن أنفسهم، فبقدر ما شكلت هذه البرامج وسائل لمعالجة المعلومات وتفكيك المتون وتركيبها وفق نماذج مختلفة، بقدر ما ساعدت القراءات الإحصائية على التقدم وتقديم نماذج أكثر دقة ووثوقا.
وفي الوقت التي كانت فيه البحوث وحتى المتميزة منها تنبني على ما يمكن أن يصادفه الباحث من مصادر وببليوغرافيا حسب مكانته الاجتماعية والمادية فبحوث اليوم المتميزة تنبني على قدرة الباحث على شق موضوعه بدقة متميزة ضمن جبال المعلومات المتوفرة، فاليوم و بالضبط اليوم نجد من يملك خزانة اليكترونية يتعدى محتواها مليون كتاب وهو ما يستحيل توفيره ورقيا حتى في خزانات وزارات الثقافة.
لقد هدمت المساحات الإليكترونية نخبوية الباحث و قدسية الوثيقة ولأول مرة في تاريخ البشرية أصبحت المعرفة متاحة بشكل شبه مشاعي،( بطبيعة الحال نستثني هنا المعرفة المنتجة للريع والتي تحتكرها الشركات العملاقة كسر من أسرارها) وساعد على ذلك انتشار الترجمات الأوتوماتيكية التي تساعد المتصفح على تحويل النص الأصلي إلى اللغات التي يفهمها رغم الرداءة التي لا زالت تكتسي العملية. لم يبق مقبولا إذن أن ينشر لنا أستاذا عجوزا صفحات من مجلد تاريخي ضخم عبر منبر ورقي فقط لأن المتلقي ليس بوسعه اقتناء ذلك المجلد.
ثم من يستطيع الإدعاء أنه قرأ مليوني كتاب في حياته، وما ينطبق على هذا المثال ينطبق استقراءً على أمثلة كثيرة تصل بنا نحو الحقيقة المشئومة هو أننا حقيقة صرنا أصغر مما صنعته أيدينا وإذا كان الفيلسوف الألماني نيتشه قد حكَم سابقا: " لا يمكننا أن نفهم سوى عالما اصطنعناه بأنفسنا ". فإننا اليوم سنعبر بامتعاض عن عجزنا عن فهم حتى هذا العالم الذي اصطنعناه بأنفسنا.
ورغم ما يمكن أن يصاحب عملية الاجتياح المعلوماتية هذه من مخاطر وسلبيات على الذكاء أو الذهن البشري من اغتيال تدريجي، إلاَّ أننا سنكون أكثر تفاؤلا للتغير الفيلولوجي الذي لحق وسيلحق كلمة " العالِم". فلم ولن تبق الكلمة تعني ذلك الشخص الحافظ لمتون كثيرة يستظهرها حرفيا وقتما شاء، بل ستتوارى ملكة الحفظ هذه وتتطور مكانها ملكات التحليل والاستيعاب والمعالجة. يموت الحافظ ليحيا الباحث، الطبيعة تصر على خلق إنسانها الذي تريده والإنسان يصر على خلق طبيعته التي يريدها، ومن البَدََهَي أن ديمومة التفاعل هذه هي أصل كل تطور.
2.1- "الفايسبوك"وخلخلة المقدسات (الفتوى أُنموذجا):
تقدم بعض الشبكات الاجتماعية خدمات التواصل السريع والتخاطب الفوري وتبادل الملفات والرسائل لذلك فقد استقطبت نسبة هامة من متصفحي الافتراضي، وصل عدد مستخدمي الفايسبوك ـ مثلاـ في ديسمبر 2011 حوالي ثمان مائة مليون نسمة منهم 32 مليون داخل العالم العربي. وفي الوقت نفسه ناهز عدد مستخدمي التويتر مائة مليون نسمة حوالي واحد بالمائة منها بالعالم العربي، متوسط عدد الأصدقاء في الفايسبوك ناهز 130 صديق و أعداد بعض المجموعات فاقت مائة ألف منخرط وهو عدد لم يتسنَّ لبعض الأحزاب السياسية، ناهيك عن انتشار ألوف المنتديات والمجلات والمدونات الخاصة، هذه ليست مجرد أرقام أو تقنيات للتواصل والترفيه، إنها حياة جديدة تتألف من حولنا حياة خلقت جيلا جديدا حررته التكنولوجيا من قيود سلطة المجتمع ورقابة الدولة. حياة تقوم على أساس لا للرقابة لا للمحلية نعم للحرية، نعم للعالمية، نعم للتعبير عن الذات بدون طابوهات.
شطرت الشبكات الاجتماعية المنخرطين حسب اهتماماتهم مجموعات تهتم بمشاكل محلية ومجموعات تجمعها أفكارا عالمية ووجد كل سوق زواره، تغيرت محددات الانتماء الكلاسيكية وتآكلت لتحل محلها محددات أكثر عمقا ودقة، والناس اليوم خاضعين لجغرافية الأفكار أكثر من خضوعهم لجغرافية الأديان أو الحدود أو الهوية، هدم الفايسبوك حواجز المكان وما كان يتكبده المرء من عناء السفر لحضور ندوة أو مؤتمر ، تحرر الحيوان النتي من الخجل ومن احمرار الوجه ومن التردد في المشاركة و تحرر من الرقابة.
تمخضت معظم شعارات الثورات العربية وأفكارها في أجهزة "لاب توب " وغرف الدردشة، حتى ساد الاعتقاد لدى الكثير من الإعلاميين أن الثورات العربية صنيعة "الفايسبوك" ورأى الكثير من الساسة العرب أن الأمر يتعلق بحرية نتية زائدة أو جسارة وفي بداية الربيع العربي عُلم أن بعض الأمراء العرب رغب في شراء شركة الفايسبوك من أجل التحكم في زوار شبكتها، العملية الساذجة هذه يبدو معها الأمير كمن يحاول شراء المحيط الهادي معتقدا أنه يمكنه بذلك التحكم في حركاته الطبيعية كالمد والجزر وغيرها..
الدهاء يمكنه أن يتحول إلى بلادة بادية في محاولة يائسة من بعض الحكام لتوظيف فقهاء البلاط في مقاومة مد تأثير العالم الافتراضي برمته نستحضر حالة فتوى دولة السعودية في استعمال المواطنين للتويتر يقول أحد الصحافيين متحدثا عن الموضوع :" تحولات كبيرة شهدها الموقع في المملكة حيث شبهه صحفي محلي يعمل بإحدى المؤسسات الصحفية ذات الخط الليبرالي بأنه "أضحى اليوم برلمانا سياسيا شعبيا حرّا، يمتاز بالحرية والجرأة المطلقة كمنصات استجوابات المسئولين الكبار تحت قبة مجالس الشعب، حيث لا يفرق بين أكبر رأس وأصغر رأس في هرم الدولة".
حساسية تويتر ومشاغباته دفعت الدولة السعودية من خلال ذراع سلطتها الدينية إلى إصدار فتوى رسمية نشرتها وسائل الإعلام المحلية، حرم فيها المفتي العام عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ التعامل مع موقع تويتر لأنه مروج للأكاذيب والإشاعات وفقًا لفتواه".[ المصدر : الجزيرة. نت]
فقهاء السلاطين هؤلاء قلص النت من تأثير تخديرهم فلم تعد منابر إعلام الدولة وحدها قبلة للباحثين عن الفتاوي بقدر ما عبد الافتراضي الطريق أمام فقهاء المعارضة للدلو بدلوهم وإيصال رسائلهم لمن يهمهم الأمر تساوت حظوظ الوصول للجمهور إذن بين فقيه السلطان وفقهاء المعارضة، ماتت هيرارشية الفقهاء والفتاوي.
والثورتين المصرية والليبية علمتنا أن محاولة اللجوء لمشاهير الفقهاء وجلبهم للصف، المحاولة الموروثة في التاريخ الإسلامي عن الحرب بين علي ومعاوية محاولة خافقة، فقد حاول نظاما حسني مبارك والقدافي تلمس رضا بعض كبار الفقهاء لإصدار فتاوي تحظر الخروج عن طاعتهما لكن دون جدوى فالثوار في ليبيا بدورهم بحثوا عن فقهائهم وكلا الفريقين حارب تحت يافطة الله أكبر.
وهناك مثال أكثر تعبيرا فعندما استعملت الصين وروسيا حق "الفيتو" ضد التدخل في سوريا أصدر شيخ الأزهر الفقيه القرضاوي فتوى تقول :" إنه من واجبنا مقاطعة المنتوجين الصيني والروسي". فبرأيه الدولتين وقفتا ضد معاناة الشعب السوري ومأساته، تعليقات قليلة تلك استحسنت هذه الفتوى، ونسبة هامة من التعليقات أكالت للشيخ سبابا ونقدا لادعاً، أراء أخرى رأت أن الامتناع عن السلع الصينية يعني بالضرورة التكالب على المنتوج الأمريكي والغربي مما سيساهم في دعم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، ونسبة أخرى ألقت باللائمة على دولنا الفاشلة التي لم تستطع خلق اقتصاديات قوية وفي نظر أصحابها من المستحيل الامتناع عن المنتوج الصيني لأنه يتماشى مع قدراتنا الشرائية الضعيفة ولأنه متغلغل فينا حتى النخاع، هل نقتل الشعب السوري أم الفلسطيني؟ برأي هذه التعاليق حجّت القرضاوي والفتوى هنا لم تعد سوى رأي يهم صاحبه، والحداثة عرَّت الفتاوي من لباس قدسيتها.
وأكثر من ذلك فقد صارت التعاليق والانتقادات التي تشق طريقها وفق مختلف الشبكات التواصلية أداة ضغط فعالة على بعض الفقهاء لتغيير موافقهم وأرائهم على سبيل المثال شكلت فتاوي الزمزمي الشاذة مادة دسمة جرَّت على صاحبها وابلا من ردود الاستنكار والاستهجان سواء من طرف بعض الشيوخ والفقهاء أو من طرف مختلف مكونات المجتمع مما جعله يتملص من موافقه بطريقة أو بأخرى.
3.1- ذكريات نتية أم سراب واستلاب: أصبح معظمنا اليوم يخزن ذكرياته داخل مساحات إليكترونية لا تشبه تلك التي استعملها أجدادنا، صناديق ذكرياتنا اليوم توجد بعلب الرسائل وبذاكرات الهواتف المحمولة. قدمت هذه الوسائل إغراءات كثيرة كالقدرة على تحمل عدد كبير من الملفات وسهولة الاستعمال وسرعة التبادل لكنها مع ذلك تشعرنا بأن لها وجودا غير حقيقي، وأن هناك شيئا غير مكتمل فلا نقدر على لمسها ولا تحسس رائحتها كما أنها معرضة للتلف والاختراق أكثر من نظيرتها، كأننا أمام سراب أو وجود زائف. هذا الوجود الزائف هذا الاستلاب النتي يحتاج منا زمنا طويلاً لتطويع ذكرياتنا وذاكرتنا لتلائمه وتتماهى معه ونحن الذين تعودنا دائما على الهروب نحو الأصالة كلما شككنا في المعاصرة.
4.1-" اليوتوب"والتغطية الشاملة للمجال.
لا يمكننا أن نتصور تغطية مطلقة للأخبار ولا حتى تغطية موضوعية بشكل كامل، مختلف شبكات الإعلام عندما نركب محتوياتها ستعطينا صورة قريبة من المشهد الواقعي، لا صورة مطلقة عنه.
الخبر الكبير يبتلع الأخبار الصغيرة، ففي فترات الاستقرار تصير أخبار الاغتصاب وجرائم القتل أخبارا مدوية، وفي فترات الحرب تخفت هذه الأخبار وتتوارى، عندما كان القدافي ،مثلا، يتصرف ببشاعة ضد معارضيه، صارت أخبار تدخلات الأنظمة العربية الأخرى ضد شعوبها أخبارا شاحبة، الرأي العام قطيعي ومزاجي والقطيع الذي يفر من الذئب قد يعود ليحتمي وراءه إذا رأى الأسد.
منابر إعلامية كثيرة تتخذ كشعارات لها " الرأي الحر والخبر اليقين"، أو"نحن منبر من لا منبر له".. لكن لم تستطع واحدة منها رفع جبل التحدي هذا مثلما رفعه "اليوتوب"، فقد صار بإمكان أي متطوع أن يصور الأحداث التي يرى أنها تستحق النشر وينشرها في زمن قياسي، مستفيدا من التدفق والانتشار الكبير للكاميرات وآلات التصوير،التحم العالم الافتراضي بالواقعي وصار مرآة له تعكس أحيانا الصورة كما هي بنقلها للحدث قبل أن يفتح الصحافي التقليدي مسودته، تبدو المعلوماتية هنا كأنها منظومة متكاملة تحقق ذاتها بذاتها، لقد صار "اليوتوب" وأشباهه منهلا ضخما تنهل منه جرائد كثيرة وهو بالإضافة إلى شرف سبقه لنقل الأحداث أعطى تغطية شاملة أصبح معها كل مواطن صحافي نائم وهذه العملية بدورها مرشحة للتطور عندما يتنامى وعي الناس وإحساسهم بضرورة الإعلام وفعاليته في تخليق الرأي العام، وخلق إعلام بديل للإعلام الرسمي، وعندما تظهر مواقع منافسة تأخذ بعض مشاكل التنظيم التي يعاني منها الموقع على عاتقها.
ولن ننسى شرط معاينة الحدث الذي سيصل إلى أعلى نسبه بفضل صحافة القرب هذه في الوقت الذي كنا نشم في بعض المقالات الإخبارية أن ذلك الصحافي لم يعاين الحدث رغم محاولته الحثيثة لإخفاء ذلك.
إن الاعتماد على الصورة والفيديو بدوره قد يقدم مادة إعلامية أكثر موضوعية من المقالات الخبرية التي غالبا ما تستبطن توجهات أصحابها، رغم بعض عمليات الفبركة التي تتعرض لها بعض الفيديوهات، والتي ستحول كعوائق أمام الوثوقية.
وأكثر من ذلك وفي ظل مجتمع مستقبلي سيتهافت على استهلاك الصورة فإن النت سيشكل أرشيفا تاريخيا لا مناص للمؤرخين من التجول في متاحفه بهدف استنطاق الصور والفيديوهات وإعادة كتابة التاريخ من وجهات نظر أكثر عمقا وموضوعية.
5.1 - ويكبيديا الموسوعة الحرة: هي مشروع موسوعة متعددة اللغات، ذات محتوى حر يمكن لأي مستخدم في العالم تعديل وتحرير وإنشاء مقالات جديدة فيها. في مارس 2009 وصل محتواها حوالي خمسة عشر مليون مقالة تقريبًا، محررة بما يقارب مائتان وسبعون لغة، وفي 17 غشت وصل عدد المقالات المحررة باللغة الانجليزية وحدها في هذه الموسوعة ثلاثة ملايين. وبذلك أصبحت من أشهر عشرة مواقع نتية عالميا بل إ ن ضخامة محتواها تجعلها أعظم موسوعة في تاريخ البشرية.
ونظرا لأن الموسوعة مفتوحة في وجه العموم فمن الطبيعي أن تتخللها بعض المقالات المتواضعة بل والعشوائية أحيانا. ناهيك عن ضعف التوثيق والإحالات إلى المصادر. بل إن المقالات السياسية والدينية الحساسة قد تستبطن خلفيات أصحابها وقد تتعرض للتعديل مرارا وتكرارا من طرف أولئك الذين يعتقدون أنهم يدافعون عن هذه الجهة أو تلك، بالإضافة إلى أن تحيين هذه الموسوعة سيكون عملية يومية مستمرة مما يجعل الاعتماد عليها كمصدر توثيقي عملية مستحيلة، فعلى الباحث المتخصص إذن أن يجعل منها وسيلة استئناس ومساءلة ، وأن يلتزم باستجواب المقالات ومساءلتها كمن يستجوب عينة الاستطلاع أي أن يغير نمط تعامله معها فهي لا ولن تتمتع بالدقة المهنية كما هو عليه الحال في الموسوعات التي يتجند لها متخصصون ( الأونكارتة، الموسوعة البريطانية ..). ومع ذلك فإن الويكبيديا ستقبى وجهنا ووجه عالمنا تعبر عن مستوى تطورنا، ومن شأن تعميم تجربتها في الحقول الأخرى( كأن تكون موسوعة في المجال الطبي يشارك فيها مثلا جميع أطباء العالم ويدونون ملاحظاتهم وتجاربهم الشخصية ) أن يكوِّن مجالات خصبة يمكنها أن تساعد على تحقيق الطفرة الكبرى.
خلاصة: أُنموذج اليوتوب يقول لنا إن الخبر أصبح ينتج من القاعدة ويوجه إليها وستكون مشاركة الجماهير في إنتاج موسوعات ضخمة في حقول متعددة عملية من شأن تعميمها على المجالات العلمية الأخرى أن يغير مسار إنتاج المعرفة نفسها التي كانت تنطلق من بطون كبريات الجامعات والمختبرات وغيرها، أي التي كانت تنطلق من القمة نحو القاعدة. بل إن تلك الموسوعات بدورها ستشكل مختبرات لا بد للمتخصصين من زيارتها لإذكاء حدسهم.
فرض النت إذن سطوة القاعدة على القمة إعلاميا وتواصليا وفكريا وتغيرت النظرة للدين والأخلاق والمقدسات، بل إن تجربة "ويكيليكس "بدورها قد قلصت هامشا كبيرا من مساحات الأسرار.
خلق مجتمع التواصل طقوسه وعاداته الجديدة،وغير وعيه المحلي وبدله بوعي كوني ومن جهة أخرى وجدت القاعدة الذي هدفت وسائل الإعلام الدولتية إلى ترويضها منذ عقود منفذا لتخرج رأسها من القمقم، بعدما كان التفكيك المنظم والتفرقة المتعمدة قد وصلا فيها غايتمها. فهل قطع مجتمع التواصل النهر وجفت قدماه، هل تخلص من قيود رقابة المركز التي تستعمل الدولة أو الدول كأجهزة لخدمة مصالحها ؟ أم أن المركز بدوره غير شكل آليات تحكمه وحافظ على جوهرها؟ هل تحررنا من قبضة النظم الإعلامية التقليدية الدولتية أم أن الدول بدورها استبدلت الأشكال التقليدية بأخرى أكثر دهاءً في الإخضاع والهيمنة؟( يتبع)