محمد الشيخي، شاعر سبعيني، يأتينا من تلك السنوات التوابل الحوافل من القرن الماضي، و ما تزال اليدُ ماسكة بالمجذاف، تمخُر به عُباب الشعر و عباب الحياة.
هو شاعر سبعيني، عميقة جذوره في تربة الشعر، و يانعة أغصانه و أفنانه الشعرية.
هو شاعر سبعيني، من المنظور التاريخي-الزمني، لأنه انطلق و تألق شعريا منذ أوائل السبعينيات، و إن كانت بوادره الأولى تعود إلى أواخر الستينيات، من خلال النصوص التي كان ينشرها بين الحين و الآخر، في صفحة (أصوات) بجريدة العلم. و هي ، بالمناسبة ، الصفحة التي احتضنت معظم الأصوات الأدبية الفاعلة المعروفة.
و هو شاعر سبعيني، من المنظور الإيديولوجي-السياسي و الثقافي، لأنه اصطلى وجدانيا و فكريا بجمرهذه المرحلة و غاص في أتون همومها و أحلامها و أسئلتها الساخنة، و عبر عن ذلك شعريا من خلال ديوانيه المتميزين:
-(حينما يتحول الحزن جمرا)، الصادر سنة 1983.
-و (الأشجار)، الصادر سنة 1988.
و العنوانان كافيان للإيماء إلى هوية التجربة الشعرية لمحمد الشيخي و الإيحاء بروحها و طبيعتها و منحاها. إنه حزن المرحلة، يتحول جمرا أجيجا.
و إنه الجمر الأجيج ، يتحول شعرا متوهجا و متنورا. و إنها أشجار المرحلة، تصمد واقفة في وجه الرياح العاتيات، لا ينحني لها جذع و لا يجف في أعراقها نسغ. الأشجار التي سيجعلها الشاعر الغائص في أتون المرحلة الغاص بمراراتها و مواجعها، أشجارا شعرية مورقة و مونقة.
هكذا عرفنا الشيخي منذ طلائع السبعينيات إلى الآن، شاعرا ملتزما و ملتحما بهموم تاريخه و زمانه و أسئلتهما الساخنة المضنية، سواء أتعلق الأمر بوطنه المغرب، أم بذلك الوطن التراجيدي السليب، فلسطين.
كما عرفناه أيضا و أساسا، شاعرا ملتزما بالشعر و ملتحما به، مسكونا بجمرته المقدسة و مهموما بأمره و سحره لا يملك عنه حولا، و لا منه فكاكا.
و هذا العشق الصوفي المدنف للشعر، ظاهر في لغة الشيخي الشعرية، المنخلة المكثفة المقطرة بحساب، كما هو ظاهر في صوره و أخيلته الشعرية و في طريقة بنائه و توليفه لجسد القصيدة.
وهذا العشق الصوفي المدنف للشعر، هو الذي يجعل الشيخي يتصبب و يخشع في حضرة الشعر، فلا ينشر نصوصه إلا لماما و على فترات، بعد أن تستوفي مخاضها الطبيعي الوئيد، و يأتيها الطلق طلقا في الوقت المناسب، لايزيد و لا ينقص.
إنه شاعر مقل، لكنه مجيد و ممتع و مفيد، و خير الكلام، و خاصة في الشعر، ما قل و دل و لم يمل.
و الشيخي لذلك، قريب من أحمد المجاطي و صنو له، كما هو قريب من كبار الشعراء الأصلاء الذين يعطونك الصفوة و يتحاشون الرغوة.
و في الديوان الذي بين أيدينا (وردة المستحيل) إشارات شعرية إلى بعض هؤلاء الشعراء الأصلاء، أصدقاء الشيخي و خلانه الأصفياء.
نقرأ في القصيدة-المطولة (رائحة الأمكنة) :
-[ ليل ناعم
يتمدد في مقهى "الشعراء الأندلسيين"
و لا بحر في غرناطة
لكن رائحة الموج
تزهر في نشوة الليل
ها هوAlberti
يتنفس شعرا
------------------
ها رائحة العشب
تملأ هذا الفضاء المدجج بالشهوات،
كأني أرى Lorca
يتأبط قيثارة الشعراء
يرفرف فوق وسامة هذا الوقت..]
ص، 71 - 72- 73.
و في القصيدة ذاتها، نقرأ المقطع التالي :
-[ هل تذكر البيضاء؟
لقد كان "المجاطي"
تسعفه الكأس
و الشعر أحيانا
فنرى وطنا
يتفتت حزنا
أو يتجمع
كالموجة الهادرة].
ص، 75
و ثمة و في الديوان أيضا، إشارة إلى شاعر آخر، قريب و حبيب إلى قلب الشاعر، و هو أحمد الجوماري الذي يخصص له الشاعر قصيدة كاملة مهداة إليه، و هي (فضاء للحلم المستحيل).
نقرأ في هذه القصيدة :
-[ سلاما.. يا أوراق الليل
-هي البيضاء إذن،
تغزل الشعر في مسكن الصمت..
قد كان أحمد أسمر كالثلج
كان وديعا كالموجة الهادرة
كان يضحك.. أحيانا
كان يهمس..
في أذن الكأس المترعة
- صوتوا في دائرة الحمق
انتخبوا من شئتم،
ألق بحورك يا شعر
في هذا الصندوق الزجاجي
شفافة هي..
تلك الزحافات
تلك العلل ]
ص، 16 – 17
هؤلاء بعض أصدقاء و أصفياء الشاعر محمد الشيخي، القريبين إلى قلبه و العازفين على وتره، أقلهم ضيوفا شرفيين في ديوانه الجديد. و لا بدع، فهم أشقاء روحه تجمعه و إياهم آصرة الهم الشعري، آصرة الهم الشعوري.آصرة الهم الإنساني النبيل،
و الطيور على أشكالها تقع.
فما بالك بالطيور الشاعرة الحساسة
و الديوان الذي بين أيدينا (ووردة المستحيل) هو الديوان الثالث للشاعر بعد ديوانيه الآنفين (حينما يتحول الحزن جمرا) و (الأشجار).
و النص الإبداعي، كما هو معلوم، هورهين سياقه و مرحلته و آنه، بقدر ما هو متجاوز و متعال على قيود الزمان و المكان. فالمناسبة شرط كما يقال. و سياق النص جزء أساس من كيمياء النص.
و نصوص (وردة المستحيل) تمثل النصوص الأخيرة و الجديدة التي أنتجها الشاعر في غضون التسعينيات من القرن الفارط. ومرحلة التسعينيات، بداهة، تغاير إلى هذا الحد أو ذاك، مرحلة السبعينيات و الثمانينيات. إنها مرحلة الجزر و الإحباط لكل الأحلام و الأشواق العراض الحرار التي التهبت بها الجوانح و الصدور إبان السبعينيات و الثمانينيات. إنها مرحلة الإنكسارات و الإنهيارات على أكثر من مستوى، لذلك كان طبيعيا أن يتغير الحقل الدلالي و الشعوري في هذا الديوان عن سابقيه. كما كان طبيعيا أن يتغير، تبعا، إيقاع اللغة الشعرية و المعجم الشعري، دون أن يعني هذا بالضرورة، تغيرا في "الأسلوب الشعري" الذي عُرف به الشيخي سابقا في ديوانيه، و الذي ظل وفيا له في هذا الديوان، و إن بصيغة جديدة، منقحة و مزيدة.
و "المستحيل" هو، عمق هذا الديوان و معينه الدلالي، و هو مبتدأه و خبره. و لا يكاد يخلو نص من نصوصه من حضور هذه الكلمة المهيمنة/المفتاح بصيغ نحوية-إضافية مختلفة ومؤتلفة في آن.
و هذه نماذج فقط من هذه الصيغ :
-[ ورتل ما قد يتيسر من صورة المستحيل.
ص، 7
-[ للقصيدة أن تغازل كل ريح
أو تحلق في فضاء المستحيل.
ص، 12
- للمساء الذي يتدلى بين الأصابع
يشرب قهوته.. فوق أرصفة المستحيل.
ص، 13
- تزرع أبياتا
في زحام الظهيرة
تحصد سنبلة المستحيل.
ص، 20
-يحلو لك أن تتعرى
في أعراس القصيدة
أو تمتطي صهوة المستحيل.
ص، 27
-هو الحلم يقفز من وحشة المستحيل.
ص, 32
-تتفتح في دهشة المستحيل
تمهلي
و أنت تهبطين في درج المستحيل.
ص، 36
-يلعب لعبة العريس و العروس
في فراش المستحيل.
ص، 37
-قد تتساقط أقلام الحلم المستحيل.
ص، 43]
إلى آخر المستحيلات المتواترة المتناثرة عبر نصوص و مقاطع الديوان.
هذا الحضور المهيمن لكلمة (المستحيل) كلازمة دلالية و شعرية و إيقاعية متكررة و متجردة، يدجل من ديوان (وردة المستحيل) نشيدا شعريا متلاحما موزعا إلى وقفات أو معزوفات شعرية مختلفة و مؤتلفة في الآن ذاته، يسري بينها و عبرها خيط شعري و شعوري ناظم و لاحم. ولعل هذا ما حدا بالشاعر إلى أن يسم ديوانه بهذا العنوان الدال، الجامع المانع، (وردة المستحيل). إن الديوان منذور، من ألفه إلى يائه، لمجابهة هذا المستحيل و منازلته و لو بوردة الشعر و سنبلته ! وماذا يكون الشعر تُرى، إن لم يكن مجابهة للمستحيل و تحديا له، و استشرافا لتلك الأماني القصية العصية التي تأتي و لا تأتي؟ !
ماذا يكون الشعر تُرى، إن لم يكن نشيدا للحياة، و صيحة ضد الموت؟!
و مهما يدلهم الأفق بالسحب السود، و تتراكم النوائب و الخطوب على الطريق، فإن ثمة بارقة أمل تلمع في الأفق. ثمة لمعة ضوء تقاوم الظلمة و تواجه اليأس و الانكسار، و تعيد الدفئ إلى القلب المقرور.
ولهذا تكثر في الديوان كلمات أخرى مفاتيح تشكل تنويعات على ذلك الوتر الرئيس، وتر المستحيل : الحلم و العشق و الشوق.. و هي الكلمات المفاتيح التي تزرع لمعة الضوء و سط الحلكة الداكنة.
نجتلي لمعة هذا النص منذ النص الأول في الديوان، منذ (أول الكلام) :
-[ فلنفتح في صمت الليل نافذة
أشعل موسيقى العمر
فوق سرير النشوة
ها حبق يتدلى
من سقف الوقت
تنفخ كلمته الأولى.]
ص، 5 – 6
و عن الحلم و العشق و الشوق، وقود تلك اللمعة و زيتها، نختار النماذج التالية على سبيل المثال :
من نص (اشتعال) :
-[ هو الحلمُ،
يغزل آهاته
فوق سجادة العشق
ها جمرة تشعل الشوق
في معجم الشعر.
ها وردة
تصفف أوراقها
في مرايا المساء.]
ص، 18 – 19.
و من (قصيدة تبحث عن ورق دافئ) :
-[ هذا المساء
حنون البوح
كغمزة هذا النهر
تشع على بستانه النبوءة
تخضر في جمرة الحلم
تزرع مملكة العشق
فوق تجاعيد الليل.]
ص، 42 – 43.
و من نص (يا شبيهي) :
-[ عم صباحا
و سلاما
أيها العشق المعتق الذي
لا ينحني للعاصفة !] ص، 52.
ما أجل ، ما أروع و أشجع هذا العشق المعتق الذي لا ينحني للعاصفة !
هذا الاحتفاء البهي بالحلم و العشق و الشوق..هذا الاحتفاء البهي بوردة المستحيل، يوازيه و يكمله احتفاء بهي آخر، بالشعر و بأعراس القصيدة ضمن قصائد هذا الديوان.
إن ما يبهجنا و يدهشنا حقا في شعر الشيخي، هو هذا الاحتفاء الجميل بالشعر و الحياة، رغم كل المشاق و الخطوب المخيبة و المعاكسة لأحلام الشعر و الحياة.
و احتفاء الشاعر بالشعر هنا و صلواته في محرابه، يشكل دواء و عزاء. بل يشكل مناعة روحية للشاعر و شكلا من أشكال المقاومة و النضال ضد قبح العالم و شروره. لهذا لا ينفك عن الاحتفاء بالشعر و الإشادة به و هو في صميم حضرته :
-[ - و اعزف جوابك
في بستان القصيدة
في عرس ذاك المساء.
ص، 8.
-هو الشعر،
يزهر فوق خرائب هذا المساء.
ص، 20
-يحلو لك أن تتعرى
في أعراس القصيدة
أو تمتطي صهوة المستحيل
توزع سنبلة الشهوات
على غُرف العشق المعلب.
ص، 27
-إنها شهوة الشعر
تعبر ممشى القصيدة.
ص، 45
-هو الشعر
يصغي لهمس المجهول
و الممكن المستحيل.]
ص، 61
لكن في مقابل هذا الاحتفاء الجميل بالشعر و الإشادة بأعراسه و مباهجه، يحمل الشاعر على كل شعر يداجي الحقيقة، كما يسخر لاذعا من الشعراء الذين يخذلون رسالة الشعر و لا يحترقون بجمرته، كما فعل في قصيدته المشحونة القاسية (أندلس المحال) :
-[ هل غادر الشعراء
كهف الليل
هل دقوا طبول النصر
أو عزفوا نشيد السلم
فوق ثمالة الكأس الأخيرة
وانسكبوا
على صحف الوشاية!]
ص، 9- 10
إن شعر محمد الشيخي، سواء في هذا الديوان أم في ديوانيه السابقين، مسكون بعشق الشعر و تقديسه و الغيرة عليه من كل ما يمكنه أن يشوب صفوه و نقاءه . لذلك فهو يتعامل معه بخشوع و أناة و احتراس. و يبدو ذلك جليا في لغته الشعرية الرصينة الجزلة الجامعة بين التراث و الحداثة، و الحريصةعلى نقاء العبارة الشعرية و كثافتها و موسيقاها اللفظية و العروضية. وهو إلى ذلك شعر منذور للأسئلة و الهواجس الكبرى التي تهم الوطن، كما تهم قضية العرب الأولى (فلسطين) تلك الأندلس الممكنة و المستحيلة في آن. و هو شعر يطفح بنسوغ الحلم و العشق و الشوق، و يتمسك بأهداب المستحيل، رغم كل الرياح العاتية المعاكسة، و كل الألغام المحفورة في الطريق. إنه شعر لم يفقد البوصلة، و لم ينحن للعاصفة، و هنا عظمته و بسالته.
هو الشعر إذن، يقطف وردة المستحيل. و هو الشاعر الموله، محمد الشيخي، يقطف لنا ورود الشعر من تلك البساتين اليانعة، بساتين العشق المعتق، فله منا أجمل التحية
و لنبادله وردا بورد.