مـقـدِّمـة
أوّلاً: الـقَـرن الأوَّل: الأسـبـاب و الـجُـهـود الأولـى.
أ= مـن أيْـن جـاءت كَـلـمـة "الـنَّـحـو"؟
ب= مـا هـي أسـبـاب ظُـهـور الـنـحـو؟
1= الأسـبـاب الـذاتِـيـة:
2= الأسـبـاب الـمَـوضـوعـيـة: = الـعـامِـل الـسِّـيـاسـي = الـعَـامِـلُ الْـقَـوْمِـي = الـعـامِـل الـدِّيـنـي
ت= أوّّل عـمـل نَـظَـري.
ج= أوَّل عـمـل "تَـطـبـيـقـي".
ثـانِـيـا:الـقـرن الـثـانـي: الـبَـصْـرَة، كِـبـار الـنحـاة، الـمَـنـهـج.
أ= لِـمَـاذا ظـهَـر الـنَّـحـو فـي الـبَـصْـرة ؟
ب= كِـبـار الـنُّـحـاة الـبـصـريـيـن.
1= عَـبْـد الله بـن أبـي إِسْـحَـاق الـحَـضْـرَمـي (تـوفـي سـنـة 117 هـ / 735م)
2= عِـيـسَـى بـن عُـمَـر الـثَّـقـفـي (تـوفـي 149هـ / 766م)
3= يُـونُـس بـن حَـبـِيـب:(تـوفـي 182هـ/ 798م)
4= الْـخَـلـيـل بـن أحـمـد الـفَـراهـدي:(تـوفـي 175هـ/ 792م)
ثـالـثـا: سِـيـبَـوَيْـه و "الـكـتـاب" أو قـمـة الـنـحـو فـي الـقـرن الـثـانـي
أ= قِـصـة "الـكِـتـاب" و نِـسـبـتـه إلـى سـيـبـويـه
1)= الـدَّلـيـل الأول 2)= الـدَّلـيـل الـثـانـي 3)= الـدلـيـل الـثـالـث 4)= الـدلـيـل الـرابـع
الـنـحـو عِـمـاد الـلـغـة الـعـالِـمـة و الأدب و الـبَـلاغـة. بـل هـو عِـمـاد الـثّـقـافـة و الـعـلـوم الـعـربـيـة الـقُـحّـة. فـلا فِـقـه و لا حـديـث و لا عـلـم كَـلام....بـدونـه. فـكـم مـن فَـقـيـه أفـتـى الـمـسـلـمـيـن فـي ديـنـهـم مـن كِـتـاب سـيـبـوْيـه. و كـم مـن قـاعـدة فِـقـهـيـة بُـنـيـتْ عـلـى أسـاس قـاعِـدة نـحـويـة. و الـشـبـه بـيْـنـهـمـا لا يـتـرُك مـجـالا للـشّـك. و الـمـكـانـة الـتـي لـهـذا الـعـلـم جـعـلـتْ أحـد جَـهـابـدة الـعـربـيـة؛ أبـي سَـعـيـد الـسـيـرافـي، رَئـيـس مَـدرسـة بـغـداد الـنـحـويـة، فـي مُـنـاظـرتـه الـشَّـهـيـرة مـع "مَـتَـى بـن يُـونـس"؛(جـعـلـتـه) يـعـتـبـره "مَـنـطـق الـعـرب" الـذي يُـغـنـيـهـم عـن "مَـنـطـق أرسـطـو". أيْ أنَّـه جـعَـلـه أداة لإكـتـسـاب كـل أنـواع الـمـعـرِفـة الـعـربـيـة الإسـلامـيـة.
كـل هـذا دفـعـنـي إلـى الـكِـتـابـة عـن تـاريـخ الـنـحـو مـن بـدايـاتـه الأولـى إلـى أنْ إسـتـقـام كـعـلـم قـائـمـة بـذاتـه مـسـتـقـل عـن غـيْـره فـي نـهـايـة الـقـرن الـثـانـي الـهـجـري الـمـوافـق للـقـرن الـثـامـن الـمـيـلادي. لـعـل هـذا الـمَـقـال يُـفـيـد الـقـراء الـكِـرام و يـدفـعـهـم إلـى إغـنـائـه بـنـقـد أو بـتَّـصـويـب أو بـإضـافـة.
أوَّلا: الـقـرن الأوّل/ الـسَّـابـِع: الأَسْـبَـابُ و الـجُـهـود الأُولـى.
مـن أيْـن جـاءت كَـلـمـة "الـنَّـحـو"؟
إذا بـحـثـنـا فـي الـقـامـوس نـجـد أنَّ الـكـلـمـة تـأتـي مـن فـعـل "نَـحَـا / يَـنْـحُـو" بـمـعـنـى صـار عـلـى طَـريـق مُـعـيَّـن أي اتَّـجـه و تـوجَّـه. طَـريـق يـؤدّي إلـى تـعـلُّـم الـلـغـة بـطـريـقـة عـلـمـيـة. و تُـجـمـع الـمَـصـادِر أنَّ الـكـلـمـة الَّـتـي تـدُلُّ عـلـى مـا نـحـن بـصـدد دِراسـتـه اسـتُـعـمـلَـت فـي نِـقـاش بـيْـن الـخَـلـيـفـة عـلـي بـن أبـي طـالِـب و بـيْـن أبـي الأَسـود الـدُّؤَلـي.
فـالـقـصـة الأولـى الَّـتـي يَـرويـهـا ابْـنُ خَـلِّـكـان فـي كِـتـابـه "وَفَـيَـاتُ الأَعْـيَـانِ"ج 2 ص 216 / 217. فـعـنـدمـا أخـطـأتْ ابـنـة أبـي الأسـود فـي حِـوارهـا مـع أبـيـهـا ذهـب هـذا الأخـيـر عـنـد الـخَـلـيـفـة الـرابـِع "عـلـي" و روى لـه قِـصّـتـه مـع ابـنـتـه. فـخـطَّ لـه هـذا الأخـيـر أشـيَـاء عـن الـلـغـة و قـال لـه " اُنـحُ هـذا الـنَّـحْـوَ" و لـهـذا الـسـبـب سُـمِّـيَ هـذا الـعـلـم فـيـمـا بـعـد بـِ "الـنَّـحْـوِ".
الـقِـصـة الـثـانـيـة يَـحـكـيـهـا لـنـا "ابْـنُ الـنَّـدِيـم" فـي كِـتـابـه "الـفِـهْـرِسْـت" ص 62 / 63 .
و هـي نَـفْـسُ الـقِـصـة الـسـابـِقـة إلاَّ أنَّ أبـا الأسـود هـو مـن نـطَـق هـذه الـكـلـمـة عـنـدمـا اسـتـأذن مـن الـخَـلـيـفـة الَّـذي شـرَح لـه أشـيـاء عـن الـعـربـيـة " فـاسـتـأذنـتـه أنْ أصـنَـع نَـحْـوَ مـا صـنَـع" ولـذلـك سُـمِّـي هـذا الـعـلـم "نَـحْـوًا" بـعـد ذلـك.
و سـواء كـان الـخَـلـيـفـة "عـلـي" أو "أبـو الأسـود" هـو أوَّل مـن اسـتـعـمـل هـذه الـكـلـمـة فـي هـذا الـسِّـيـاق الَّـذي يَـهُـمُّـنَـا، فـإنَّ الـنـحـو هـو الـطَّـريـق الَّـذي يـجـب أنْ يَـسـيـر عـلـيْـه كـل مـن يُـريـد أنْ يـتـكـلَّـم و يـكـتـب عـربـيـة سَـلـيـمـة.
مـا هـي أسـبـاب ظُـهـور الـنـحـو؟
إذا كـانـت كُـتـب الـتـاريـخ تـكـاد تَـقـول لـنـا كـل شـيء عـن أسـبـاب ظُـهـور عُـلـوم الـفِـقـه
و أُصـولـه و عِـلـم الـحـديـث و عـلـم الـتـاريـخ...فـإنَّـهـا لا تَـقـول لـنـا شـيءً لـه قِـيـمـة عـن أسـبـاب ظُـهـور عـلـم الـنـحـو. بـل بـالـعـكـس مـا تـقـولـه لـنـا عـن ذلـك لا يُـعـطـي الأسـبـاب الـحَـقـيـقـيـة و يـقِـف عـنـد قِـصـة أبـي الأسـود و ابـنـتـه. ربـمـا سُـكـوتـهـا، كـلـهـا بـدون اسـتـثـنـاء، عـن ذِكْـرِ تـلـك الأسـبـاب يـرجِـع إلـى كـونـهـا كـانـت تـعـتـبـر إيـجـاد قـواعـد للـلـغـة هـو شـيء أكـثـر مـن بـديـهـي و لا يـحـتـاج إلـى إيـضـاح أسـبـابـه. الـسُّـؤال عـن أسـبـاب ظُـهـور الـنـحـو سـيـقـودنـا إلـى تَـقـسـيـمـها إلـى أسـبـاب ذاتـية و أُخرى مَـوضـوعـية.
+ الأسـبـاب الـذاتِـيـة: لا يُـمـكـن لأيِّ بـاحِـث يـهـتَـمّ بـتـاريـخ الـلـغـة أنْ يـقـبَـل بـهـذا الـسـبـب الـذاتِـي الَّـذي تُـشـيـر إلـيْـه الـمَـصـادِر الـعـربـيـة الـقَـديـمة كـسـبـب مُـبـاشِـر أدَّى إلـى ظُـهـور الـتَّـفـكـيـر فـي وضْـع قـواعِـد للـلـغـة الـعـربـيـة. فـهـذه الـمَـصـادِر تُـجـمـع كـلُّـهـا عـلـى أنَّ الـخَـطـأ الـكَـبـيـر الَّـذي وقـعـتْ فـيـه ابـنـة أبـي الأسـود و أدَّى إلـى مـعـنـى آخـر غـيْـر الَّـذي كـانـت تـقـصِـده هـو الَّـذي دفَـع والِـدهـا إلـى عـرْض الـمَـسـألـة، فـي الـغـد، عـلـى الـخَـلـيـفـة "عـلـي". و هـذا الأخـيـر سـطَّـر الأسـطـر الأولـى فـي الـنَّـحـو الـعـربـي و طـلَـب مـن أبـي الأسـود إكـمـال الـعـمـل. فـهـل مـن الـمَـعـقـول أنْ نـخـلُـق قـواعِـد نـحـويـة للـغـة مـا لـمُـجَـرَّدِ خـطـأ شـخـصـي ارتـكـبـتـه فـتـاة مَـهْـمَـا كـان هـذا الـخـطـأ كَـبـيـرا و كـانـت مَـكـانـة الـمُـخـطئ. لـم نـسـمَـع أبـدا أنَّ شـعـبـا وضـع قـواعِـد للـغـتـه لأن هـنـاك إنـسـانـا يُـخـطِـئ عـنـدمـا يـتـكـلَّـم. و لـكـي لا نُـطـيـل فـي ذلـك نَـقـول ربـمـا كـان هـذا الـخـطـأ هـو الـنُّـقـطـة الَّـتـي أفـاضـتْ كـأس أبـي الأسـود الَّـذي كـان قـبْـل ذلك يـفـكِّـر فـي طَـريـقـة تـجـعـل الـنـاس يـتـكـلَّـمـون الـعـربـيـة دون أخـطـاء فـادِحـة. و قِـصّـتـه مـع ابـنـتـه هـي مـن جـعـلـه يُـسـرع فـي فـعْـل شـيء مـا.
+الأسـبـاب الـمَـوضـوعـيـة: و هـي فـي رأيـنـا ثـلاثـة أسـبـاب: الأول ديـنـي و الـثـانـي قـومـي و الـثـالِـث سِـيـاسـي.
= الـسَّـبـب الـدِّيـنـي: الـقُـرآن هـو أوَّل كِـتـاب خـطَّـه الـعـرب و قـبْـلـه لـم يـعـرِفـوا و لـم يـكـتُـبـوا أيَّ كِـتـاب آخـر. فـهُـم قـوم "أُمِّـيُـون" لـم يـكـن لـهـم تـاريـخ لا فـي الـفـكـر ولا فـي الـكِـتـابـة. كِـتـابـهـم الأوَّل أصـبـح مـصـدر كـل افـتـخـارهـم و اعـتـزازهـم بـأنْـفُـسِـهـم. و أصـبـح أيـضـا مـصـدر كـل شـيء عـنـدهـم و دفَـعـهـم للـتَّـفـكـيـر فـي مَـواضـيـع مُـجـرَّدة لـم يـكُـونـوا يُـفَـكِّـرون فـيـهـا مـن قَـبْـلُ. و هـو "مُـعْـجِـزَةٌ" مِـنْ حَـيْـثُ الـمَـبْـنَـى( الـلُّـغـة) و الـمَـعـنـى (الـمَـواضِـيـع). هـذا الـكِـتـاب هـو الَّـذي أخـرَج الـعـرب مـن "الـلاَّوُجُـود الـثَّـقـافـي" إلـى "الـوُجـود الـثـقـافـي الـعـالِـم". قـبـل الـقـرآن لـم تـكـن للـعـرب "ثَـقـافـة عـالِـمـة" و هـذا الـكِـتـاب هـو الَّـذي سـيـفـتَـح لـهـم هـذا الـبـاب. فـي الـبـدايـة كـان الـعـرب / الـمُـسـلـمـون الأوائـل يـفـهَـمـونـه بـ"الـسَّـلِـيـقَـةِ" أي بـالـطَّـبـِيـعَـة. و كـانـوا يـسـتـعـمِـلـونـه فـي الـرَّد عـلـى الـثَّـقـافـات الأخْـرى ومُـنـاقـشـتـهـا و مُـجـادَلـتـهـا بـاعـتـبـارهـا ثـقـافـات أَرْقـى مـن الـثّـقـافـة الـعـربـيـة الإسـلامـيـة.
لـكـن مـع تـوالـي الـسَّـنـوات أصـبـح الـمُـسـلِـمـون غـيْـر الـعـرب هـم الأغـلـبـيـة الـمُـطـلـقـة فـي الـدَّولـة الإسـلامـيـة الـواسِـعـة. ولـكـي يـتـعـلَّـم هـؤلاء دِيـنـهـم كـان عـلـيْـهـم أنْ يـقـرؤوا الـكِـتـاب / الـمَـرجِـع الـوَحـيـد حـوْل الإسـلام: الـقُـرآن. و كـان عـلـيْـهِـم أنْ يـسـتـعـمـلـوه فـي نِـقـاشـاتـهـم مـع الـثَّـقـافـات الأُخْـرى. لـكـن الـمُـشـكِـلـة هـي أنَّ هـذا الـقُـرآن كَـسِـلاحٍ ثـقـافـي
يـصـعُـب عـلـيْـهـم اسـتـعـمـالـه. فـمـن جِـهـة هـو مَـكـتـوب بـدون نـقـط الإعـجـام و بـدون حـركـات. و مـن جـهـة أخـرى فـ"الـمُـصْـحَـفُ" كـمـا كُـتِـبَ فـي عـهـد عُـثـمـان يـخـلُـق مـن الـمَـشـاكِـل أكـثـر مـمـا يـحُـلُّ. فـلا كـلـمـة واحِـدة فـيـه واضِـحـة الإعـراب و الـمَـعـنـى.
كـخُـلاصـة لـهـذه الـفـقـرة نـقـول: أصـبـح الـمُـسـلـمـون الـعـرب يَـخـافـون مـن الـمُـسـلـمـيـن غـيْـر الـعـرب عـلـى الـقـرآن. نِـهـايـة الـقـرن الأول الـهـجـري/ نِـهـايـة الـقـرن الـسَّـابـِع الـمـيـلادي و بـدايـة الـثـامِـن، كـانـت أغـلـبـيـة الـمُـسـلِـمـيـن لا تـسـتـطـيـع أنْ تـسـتـعـمـل الـسِّـلاح الـوَحـيـد الَّـذي تـمـلِـكـه فـي مُـواجَـهـة الـثَّـقـافـات الأُخْـرى و الـسـبـب يـرجِـع إلـى عـدم فـهـم لـغـة هـذا الـسِّـلاح: أي الـعـربـيـة.
إنّ الـعـامِـل الـدِّيـنـي كـان مُـهـمـا فـي ظُـهـور الـنـحـو و الـدّلـيـل عـلـى ذلـك هـو أنَّ أوَّل إنـجـاز عـمـلـي فـي الـنَّـحـو، هـو مـا قـام بـه أبـو الأسـود كـمـا رأيْـنـا فـي مـقـال سَّـابـِق، كـان يَـخُـصُّ نَـقْـط الـقُـرآن. أَضِـف إلـى ذلـك أنَّ كِـبار الـنـحاة فـي مُـخـتـلـف الـفـتـرات الـتـاريـخـية كـانـوا مُـتـخـصِّـصـيـن فـي قِـراءة الـقُـرآن ابـتـداء مـن عـبـد الله بـن أبـي إِسـحـاق الـحـضـرمـي كـأوَّل نَـحْـوِي عـربـي يـسـتـحـق هـذه الـصِّـفـة إلـى الـخَـلـيـل بـن أحـمـد الـفـراهـيـدي.
= الـعَـامِـلُ الْـقَـوْمِـي: لـم يـكـن هـنـاك مـا يـوحِّـد الـعـرب أكـثـر مـن الـلـغـة. أكـثـر مـن ذلـك فـالـعُـروبـة كَـهـويـة لا تـعـتـمـد لا عـلـى الـعِـرق و لا عـلـى الـتـاريـخ بـل هـي هـويـة لُـغـويـة تـعـتـمـد فـقـط عـلـى الـلِّـسـان كـمـكـوِّن واحِـد و أوْحـد. وإذا كـان شـاعـرنـا الـكـبـيـر زُهـيْـر بـن أبـي سُـلْـمـى قـد إعـتـبـر أن الـلـغـة هـي نـصـف هـويـة الإنـسـان فـي بـيـتـه الـمَـشـهـور:
لِـسَـانُ الـفَـتَـى نِـصْـفٌ و نِـصْـفٌ فُـؤَادُهُ فَـلَـمْ يَـبْـقَ إلاَّ صُـورَةُ الـلَّـحْـمِ و الـدَّمِ
فـإن أفـصـح الـعـرب، رسـول الإسـلام، يـجـعـل الـلـسـان و الـهـويـة سـواء فـي مـعـرض رده
عـلـى مـن تـعـجَّـب مـن فَـصـاحـة "صُـهَـيْـب الـرومـي" و "سَـلْـمـان الـفـارِسـي" و "بـلال الـحـبـشـي" و قُـوَّة تـحـكُّـمـهـم فـي الـلُّـغـة، بـقـوْلـه" لَـيْـسَـتِ الـعَـرَبـِيَّـةُ بـأحـدكـم مِـنْ أَبٍ و لاَ أُمٍّ، و إنـمـا هـي الـلِّـسَـانُ. فـمـن تـكـلّـم بـالـعـربـيـة فـهـو عـربـي" . ألـم يـقـل أحـد الـعـلـمـاء الـمـعـاصـريـن " قـل لـي أيـة لـغـة تـتـحـدّث أقـول لـك مـن أنـت"
الـعُـروبـة إذنْ لـيـسـتْ دَمًـا يَـجـري فـي الـعُـروق و لـيـسـتْ إِرثـًا يـتـرُكـه الآبـاء للأبـنـاء بـل هـي هـويـة لُـغـويـة. و مـن تـكـلَّـم الـعـربـيـة فـهـو عـربـي و مـن فَـقَـدَها خـسِـر هـويَّـته. بـهـذا الـوعـي أصـبـح الـتَّـفـكـيـر فـي حِـمـايـة الـلُـغـة الـعـربـيـة مـن الـضَّـيـاع واجِـبـا قَـوْمِـيًّـا لأنَّ حِـمـايـتـهـا هـي حِـمـايـة للـهـويـة و للـذات قـبْـل كـلِّ شـيء.
مـن جِـهـة أُخـرى وجَـد الـعـرب أنْـفُـسَـهُـم و سـط رُقـعـة جـغـرافـيـة قـد عـرفـتْ أرقـى الـحَـضـارات الإنـسـانـيـة إلـى ذلـك الـتَّـاريـخ. وسَـط كـلِّ هـذه الـحَـضـارات و إنـتـاجـاتـهـا الـثَّـقـافـيـة و الـمَـاديـة الَّـتـي تـدعـو إلـى الإفـتـخـار. وسـط هـاتـه الأُمـم الـراقِـيـة كـان الـعـرب هـم الأضـعـف ثَـقـافـة و حَـضـارة و عِـلـمـا. و لـم يـكـونـوا يـمـلِـكـون شـيءً يُـمـكـنـهـم أنْ يـفـتـخـروا بـه غـيْـر لُـغـتـهـم. فـالـعـربـي لا يـمـلِـك شـيء غـيْـر لُـغـتـه الـجَـمـيـلـة الَّـتـي يـعـشَـقُـهـا إلـى حَـدِّ الـتَّـقـديـس خُـصـوصـا و هـي الـلُّـغـة الَّـتـي اخـتـارهـا الله كـوَسـيـلـة لـتَـبـلـيـغ آخِـر رسـالاتـه إلـى الـنـاس. هـذه الـلُّـغـة الـمَـعـشـوقـة إلـى درجـة الـقَـداسـة، أصـبـحـت، ابـتـداء مـن الـنـصـف الـثـانـي مـن الـقـرن الـثـانـي الـهـجـري / الـنِّـصـف الـثـانـي مـن الـقـرن الـثـامِـن الـمـيـلادي، مُـهـدَّدة فـي وُجـودهـا. فـوسـط كـل تـلـك الأقـوام مـن أفـغـان و باكـسـتانـيـيـن و إيـرانـيـيـن و أتـراك و أقـباط و أمازيـغ و إغـريـق و رومان و بـيـزنـطـيـيـن... بـدأتْ الـعـربـيـة تَـضـيـع خُـصـوصـا و أنَّ تـعـلُّـمَـهـا يـتـطـلَّـب الإقـامـة بـيْـن أهـلـهـا لأنَّـهـا لُـغـة لا قـواعِـدَ لـهـا. و حـتـى أصـحـابـهـا الَّـذيـن اخـتـلـطـوا بـالـشُّـعـوب الأُخـرى بـدؤوا يـجِـدون صُـعـوبـة فـي اسـتـعـمـالـهـا. فـهـذا الـخَـلـيـفـة الأُمـوي "عَـبْـد الـمَـلِـكِ بـن مَـرْوان" كـان يـقـرَأ الـقُـرآن و يـرتـكـب أخـطـاء كَـثـيـرة جـدًّا رغـم كـوْنـه عـربـيـا مـن قُـرَيْـش. و تـذكُـر الـمَـصـادِر الـقَـديـمـة أنَّ "الـحَـجَّـاجَ بـن يُـوسـف" الـقـائـد الأَعـلـى للـجـيْـش الأُمـوي، وهـو عـربـي مـن "ثَـقِـيـف"، نَـفَـى "يَـحْـيَـى بـن يَـعْـمُـر" لأنَّـه كـان يـصـحِّـح لـه أخـطـاءه عـنـدمـا يـتـكـلَّـم أو يـقـرَأ الـقُـرآن.
أنْ تـسـيْـطـر سِـيـاسـيـا و عـسـكـريـا عـلـى شُـعـوب هـي أقـوى مـنـك ثـقـافـة و حَـضـارة شـيء مُـمـكـن و لـكـن مـع مُـرور الـوقـت هـذه الـشُّـعـوب هـي الَّـتـي سـتـنـتـصـر لأنـها هـي صـاحِـبة الـفـكـر و الـثَّـقـافـة و الـلُّـغـة الأرقـى. هـذا الإحـسـاس بـالـنَّـقـص و الـضَّـعـف أمـام الأمـم الأُخـرى جـعَـل إرادة الـعـرب قـويـة جـدًّا فـي تـأسـيـس ثَـقـافـة خـاصـة بـهـم و الـمُـسـاهـمـة عـن طَـريـقـهـا فـي الـحَـضـارة الإنـسـانـيـة. هـذا كـلِّـه يَـبـقـى مُـسـتـحـيـلا بـدون لُـغـة مَـضـبـوطَـة و مـنـظَّـمـة تـشـكِّـل وِعـاء للـفـكـر و الـثَّـقـافـة و تُـعـطـيـهـمـا هَـوِيَّـتـهـمـا.
لـذلـك أوَّل مَـوضـوع فـكَّـر فـيـه الـعـقـل الـعـربـي الـعـالِـم و أنـتـج فـيـه مَـعـرفـة عـالِـمـة هـو الـلُّـغـة. و تـظْـهـر أهـمـيـة "الـتَّـقـعـيـد للـغـة" فـي عُـقـول الـمُـفـكِّـريـن الـعـرب فـي تـلـك الـفـتـرة مـن خِـلال عـدم وُجـود أيَّ تَـأثـيـر أجـنـبـي، و لـو فـي حَـدِّه الأدنـى، فـي الـبـنـاء الـنـحـوي الَّـذي أقـامـوه و ذلـك بـاعـتـراف كـل الـدَّارسـيـن بـمـن فـيـهـم أُولـئـك الَّـذيـن لا يـتـردَّدون فـي إرجـاع كـل إنـتـاج فِـكـري عـربـي إلـى الـحـضـارات الأُخـرى و خـاصـة تـلـك الَّـتـي يـعـتـقـدون خـطـأ أنَّـهـا أوربـيـة غـربـيـة، و أقـصِـد بـذلـك الـحَـضـارة الإغـريـقـيـة.
= الـعـامِـل الـسِّـيـاسـي: مـع ظُـهـور الإسـلام كـان الـعـرب يـفـتـخـرون بـإسـلامـهـم. و لـكـن مـع الأمـويـيـن أصـبـحـتْ الـدوْلـة عـربـيـة أكـثـر مـنـهـا إسـلامِـيـة. كـل الـدِّراسـات الـتَّـاريـخـيـة تُـفـيـد أنَّ الـخُـلـفـاء الأمـويـيـن كـانـوا يـفـضِّـلـون الـعـرب عـلـى غـيْـر الـعـرب. بـدأ ذلـك عـنـدمـا قـرَّر الـخَـلـيـفـة "عَـبْـدَ الـمَـلِـك بـن مَـرْوَان" أنْ تَـكـون لُـغـة الـدَّولـة و الإدارة هـي الـلُّـغـة الـعـربـيـة فـقـط دون غـيْـرهـا. هـذا الـقَـرار جـعَـل الـمُـسـلـم غـيْـر الـعـربـي يـجـد صُـعـوبـة كَـبـيـرة فـي الـعـمـل فـي الإدارة نـظـرا لـحـاجِـز الـلُّـغـة. و هـذا مـا يـشـرَح، و لـو جُـزئـيـا، وُجُـود عـرب مَـسـيـحـيـيـن فـي مَـنـاصِـب سِـيـاسـيـة و إداريـة كَـبـيـرة فـي الـدَّولـة، و غِـيـاب مُـسـلـمـيـن غـيْـر عـرب. بـل حـتـى أولـئـك الـمُـسـلـمـيـن غـيْـر الـعـرب الَّـذيـن تـربَّـوْا فـي بـيـئـة و جَـوٍّ عـربـي و أتـقـنـوا الـعـربـيـة ربـمـا أحـسـن مـن الـعـرب أنـفُـسِـهـم لـم يـجِـدوا لـهـم مـنـصـبـا عـنـد الـدَّولـة الأمـويـة. فـهـذا "الـحَـسَـن الـبَـصْـري" رغـم مَـكـانـتـه الـعـلـمـيـة و تـربـيـتـه فـي بـيْـت "أُمِّ سَـلَـمَـة"، زَوْجـة الـنـبـي، لـم يـحـصُـل عـلـى أيِّ مَـنـصِـب لـدى الأُمـويـيـن.
لـكـن بـمُـجَـرَّدِ ظُـهـور نَـتـائـج الـجُـهـود الأولـى فـي الـنـحـو، ظـهَـر غـيْـر الـعـرب عـلـى الـسـاحَـة الـثَّـقـافـيـة و الإداريـة مـع نِـهـايـة الـدولـة الأمـويـة و بـدايـة الـدوْلـة الـعـبـاسـيـة الَّـتـي وصـلـوا مـعـهـا إلـى أعـلـى الـمَـراتِـب.
يُـمـكـنـنـا أنْ نَـقـول إنَّ تـعـلُّـم غـيْـر الـعـرب للـعـربـيـة، فـي ظِـلِّ الأمـويـيـن، كـان يـسـمَـح لـهـم بـالـمُـرور مـن "وضـعـيـة الأجـنـبـي إلـى وضـعـيـة الـمُـواطِــن" و يـفـتَـح أبـواب الـمَـنـاصِـب الإداريـة و الـسِّـيـاسـيـة.
+ أوّّل عـمـل نَـظَـري.
تـذكُـر الـمَـصـادِر الَّـتـي اهـتـمـت بـالـلـغـة أنَّ أوَّل عـمـل نـظـري فـي الـنـحـو يـرجِـع إلـى أبـي الأسـود الـدؤلـي و إلـى الـخَـلـيـفـة عـلـي بـن أبـي طـالِـب و إنْ كـانـت الـرِّوايـات تـخـتـلـف قَـلـيـلا عـن بـعـضـهـا. و تـجـنُّـبـا للـتـكـرار، سـوف نـعـرِض ثـلاث رِوايـات فـقـط حـول هـذا الـعـمـل الـنَّـظَـري الأوَّل. الـرِّوايـة الأولـى يـرويـهـا لـنـا "ابـن الـنَّـدِيـم" فـي كِـتـابـه "الـفِـهْـرِسْـت" و الـثـانـيـة يـرويـهـا "الـقِـفْـطِـي" فـي كـتـابـه " إِنْـبَـاهُ الـرُّوَاةُ عَـلَـى أنْـبَـاهِ الـنُّـحـاة" و الـثـالـثـة يـرويـهـا "ابـن خـلِّـكـان" فـي كِـتـابـه "وَفَـيَـاتُ الأَعْـيَـان"
1= يَـروي "ابـن الـنَّـديـم" فـي ص63/64 عـن "مُـحـمـد بـن إسْـحـاق" قـصـة يـتـحـدّث فـيـهـا هـذا الأخـيـر عـن إطِّـلاعـه فـي مَـديـنـة "حَـدِـثـة" (غـرب الـعـراق)، عـلـى مَـكـتـبـة كَـبـيـرة جـدا فـيـهـا كُـتـب نـادِرة فـي الـنـحـو و الـلـغـة و الأدب، كـان يـمـلِـكـهـا رجـل إسـمـه "مُـحَـمـد بـن الـحُـسـيْـن"، حـيْـث رأى " فـيـهـا مـا يَـدُلُّ عـلـى أنَّ الـنَّـحْـوَ عـن أبـي الأسـود مـا هـذه حِـكـايـتـه: و هـي أربـعـة أوراق أَحْـسَـبُـهَـا مِـنْ وَرَقِ الـصِّـيـنِـي تَـرْجَـمَـتُـهـا: هـذه فـيـهـا كَـلامٌ فـي الْـفـاعِـل و الـمَـفْـعـول مـن أبـي الأسـود، رَحْـمَـةُ الله عَـلَـيْـهِ، بـخَـطِّ يَـحْـيَـى بـن يَـعْـمُـر. و تـحـت هـذا الـخَـطِّ بـِخَـطِّ عَـتِـيـقِ، هَـذا خَـطُّ عَـلاَّن الـنَّـحْـوي. و تـحـتـه، هـذا خـطُّ "الـنَّـظْـر بـن شـمـيـل""
2= يـروي الـقِـفـطـي فـي الـجـزء الأول ص 39 حِـوارا بـيْـن أبـي الأسـود و الـخَـلـيـفـة "عـلـي بـن أبـي طـالِـب" عـن ضَـرورة وضْـع قَـواعِـد للـعـربـيـة. ومـن هـذه الـروايـة يـظـهَـر مـا يـلـى: = الـخَـلـيـفـة يُـعـطـي لأبـي الأسـود صَـحـيـفـة و قـد كـتَـب فـيـهـا:" بـسـم الله الـرحـمـن الـرحـيـم. الـكَـلاَمُ إِسْـمٌ و فِـعْـلٌ و حَـرْفُ. فـالإسْـمُ مـا أَنْـبَـأَ عَـنْ مُـسَـمَّـى، و الـفِـعْـلُ مـا أَنْـبَـأَ عـن حَـرَكـة الـمُـسـمَّـى، و الـحَـرْفُ مـا أَنْـبَـأَ عـن مَـعْـنًـى لـيْـس بـإِسْـمٍ و لاَ فِـعْـلٍ" و بـعـد مَـجـمـوعـة مـن الـنَّـصـائـح، طـلَـب مـنـه أنْ يُـكـمِـل الـعـمـل.
= يَـقُـول أبـو الأسـود " فَـجَـمَـعـتُ أشـيـاء و عـرَضـتُّـهـا عـلـيْـهِ، فـكـان فـي ذلـك حُـروف الـنَّـصْـبِ، فـذكَـرتُ مـنـهـا: إِنَّ و أَنَّ و لـيْـت و لَـعَـلَّ و كَـأَنَّ. و لـم أذكُـر لَـكِـنَّ، فـقـال: لِـمَ تـرَكـتَـهـا؟ فـقـلـتُ: لـمْ أحـسِـبـهـا مِـنـهـا. فـقـال: بـلـى هـي مـنـهـا، فَـزِدْهـا فـيـهـا"
و يـخـتِـم الـقِـفْـطـي بـقـوْلـه: " و رَأَيْـتُ بـمِـصْـرَ...بـأَيْـدِى الـوَرَّاقِـيـنَ جُـزْءً فـيـه أَبْـوَابٌ مـن الـنَّـحْـوِ يُـجْـمِـعُـونَ عـلـى أنَّـهـا مـقـدِّمـة عـلـي بـن أبـي طـالـب الَّـتـي أخـذَهـا عـنـه أبـو الأسـود"
3 = يَـرْوِي ابـن خَـلِّـكـان الـجُـزء الـثـانـي ص 216/ 217 أنَّ الـخَـلـيـفـة "عـلـي" عـلَّـم أبـا الأسـود " أَبْـوَابًـا مـن الـنَّـحـو مـنـهـا بـابَ إِنَّ، و بـابَ الإضـافـة، و بـابَ الإمـالـة" و أنَّ أبـا الأسـود اشـتـغـل "بـوضْـع أبـوابٍ أُخـرى فـي الـنَّـحـو، مـنـهـا بـاب الـعَـطْـفِ، و بـاب الـتَّـعَـجُّـب، و بـاب الإِسْـتِـفْـهـام"
مـن خِـلال هـذه الـروايـات الـثـلاث يـظـهَـر عـدم الإتِّـفـاق حـوْل أوَّلِ شـيْء كُـتِـبَ فـي الـنـحـو. و كـذا حـوْل حـجْـم مـا كُـتِـبَ هـل هـو بـِضْـعَـةُ أوْراقٍ أم مـقـدِّمـة كـامِـلة بـأبـواب و تَـفـاصِـيـل. و هـنـاك رِوايـات أخـرى لاتـتَّـفِـقُ حـوْل مـن هـو أوَّل مـن قـام بـِأوَّلِ عـمـلٍ نـحـوي يـلـخِّـصـهـا "أبـو سَـعـيـد الـسِّـيـرافـي" فـي ص 13 مـن كِـتـابـه "أَخْـبَارُ الـنَّـحْـوِيـِيـن الـبَـصْـرِيـِيـن" قـائـلا:" اخْـتَـلَـفَ الـنَّـاسُ فـي أوَّل مـن رَسَـمَ الـنَّـحْـوَ، فـقـال قـائـلـون: أبـو الأسـود الـدؤلـي، و قِـيـل: هـو نَـصْـرُ بـن عـاصِـم، و قِـيـلَ: بـل عـبْـدُ الـرَّحْـمَـن بـن هُـرْمُـز، و أكـثـر الـنـاس عـلـى أنَّـه أبـو الأسـود الـدُّؤلـي".
و إذا كـان هـذا الإخـتـلاف شـيْءً طَـبـيـعـيًـا لأنَّ الـعُـلـوم، عـنـد كـل الأُمَـم، تـبـدَأ بَـسـيـطـة
و تـظـهَـر شـيءً فـشـيءً. و لا يُـعْـرَف، عـادة، صـاحِـب الـخُـطْـوَةِ الأولـى. فـإنَّ الأسـتـاذ "شَـوْقـي ضـيْـف" (ص14) يَـشُـكُّ عـن حـق فـي مُـشـارَكـة الـخَـلـيـفـة "عـلـي" بـنـفـسـه فـي الـعـمـل الأوَّل، لأنَّ رَئـيـس الـدوْلـة لـه مَـشـاغِـل أخـرى، خُـصـوصـا "عـلـي" الَّـذي كـانـتْ فَـتـرة حُـكْـمِـه فـيـهـا حُـروب و مَـشـاكِـل كَـبـيـرة. لـقـد سـاعـدتْـنـا مُـلاحَـظَـتـه هـذه عـلـى الـتَّـدقـيـق فـي الـرِّوايـات الـثـلاث، فـوجـدنـا فـيـهـا مُـصْـطَـلَـحـات و تَـعـريـفـات دَقـيـقـة يـسْـتـحـيـل أنْ تَـكـونَ قـد ظـهـرتْ فـي أوَّل عـمـل نَـظَـري نـحـوي. و مـا يـعـزِّز هـذا الإسـتـنـتـاج هـو أنَّ "أبـا الأسـود" لـم يـسـتـعـمـلـهـا فـي الـعـمـل الـتَّـطـبـيـقـي الأول الَّـذي قـام بـه و هـو نَـقْـطُ الـقُـرآن.
+ أوَّل عـمـل "تَـطـبـيـقـي".
إذا كـان الـعـمـل الـنَّـظَـري الأوَّل كـمـا تُـعـطـيـه لـنـا الـمَـصـادِر يَـدعـو للـشَّـكِّ، فـإنَّ هـذه الـمَـصـادِر تَـكـاد تُـجْـمِـعُ أنَّ الـعـمـل "الـتَّـطـبـيـقـي" الأول كـان هـو نَـقْـطُ أبـي الأسـود للـقـرآن. فـسـواء كـان الـعـمـل بـطـلـب مـن "الـحَـجَّـاج بـن يُـوسـف" أو "زِيَـاد بـن أَبـِيـه" أو غـيْـرهـمـا فـإنَّ أبـا الأسـود قـال لـكـاتِـبـه، حـسَـب مـا يَـقـولـه " أبـو عَـمْـرو الـدَّاني" فـي "الـمُـحـكَم..." ص3/4 :" إذا رَأَيْـتَـنِـي فَـتَـحْـتُ شَـفَـتِـي بـالْـحَـرْفِ فـانْـقُـطْ وَاحِـدَةً فَـوْقَـهُ، وَ إِذَا كَـسَـرْتُـهَـا فَـانْـقُـطْ وَاحِـدَةً أَسْـفَـلَـهُ، وَإِذَا ضَـمَـمْـتُـهَـا فَـاجْـعَـلِ الـنُّـقْـطَـةَ بـيْـن يَـدَيِ الْـحَـرْفِ، فَـإِنْ تَـبـِعَـتْ شَـيْءً مِـنْ هَـذِهِ الْـحَـرَكَـاتِ غُـنَّـةٌ (تَـنْـويـن) فـانْـقُـطْ نُـقْـطَـتَـيْـنِ." و كـان يُـراجِـع كـلَّ صَـفـحـة إلـى أنْ أكـمـل نَـقْـطَ الـمُـصْـحَـف. و كـان لـوْن الـنُّـقـط مُـخـالِـفـا للـوْنِ الـحُـروف لـكـي لا يـخـتـلـط الأمـر عـلـى الـنَّـاس. وقـد سـار تَـلامـيـذ أبـي الأسـود عـلـى طَـريـقـتـه هـذه و زادوا فـيـهـا أشـيـاء كَـثـيـرة.
لـعـل هـذا الـعـمـل الـكَـبـيـر و الـعَـظـيـم الَّـذي سـهَّـل كَـثـيـرا عـلـى الـنـاس قِـراءة الـقـرآن هـو الَّـذي جـعَـل الإعـتـقـاد سـائـدا أنَّ أبـا الأسـود هـو أوَّل مـن وضَـع الـنَّـحـو. بـالـفـعـل كـان الـدؤلـي و تـلامـيـذه مـن الـقـراء و مـن أصـحـاب الـسَّـلـيـقـة و لـكـنـهـم بـوضـع عـلامـات أواخِـر الـكـلـمـات فـي الـمُـصـحـف يـكـونـون قـد لـمَـسـوا "كُـنْـه" الـنـحـو الـعـربـي كـمـا نـعـرِفـه حـتـى الـيـوْم. والـحَـقـيـقـة أنَّـه يـصـعُـب عـلـيَّ أنْ أقـتـنـع بـأنَّـه قـامـوا بـكـل هـذا الـعـمـل دون أنْ يـطـرَحـوا عـلـى أنـفـسـهـم أسـئـلـة بَـديـهـيـة مـن قَـبـيـل كـيـف؟ و مـا الـسَّـبـب؟ و لـمـاذا؟ و أنَّـهـم لـم يـحـاوِلـوا أنْ يَـجِـدوا لـهـا أجـوبـة و إنْ كـانـت بـدايـة أجـوبـة غـيْـر كـامـلـة و لا مـنـظَّـمـة.
كـيـف؟ و ما الـسـبـب؟ و لـماذا؟ أسـئـلـة تَـقـود إلـى فـكـر مـنـظَّـم و بـناء نـظـري و مصـطلـحات خـاصـة. هـذا مـا سـتُـنـتـجـه الـبـصـرة و أوائـل كِـبـار نُـحـاتـهـا و هـو مـا سـنـدرُسـه فـي الـفـقـرات الـتـالـيـة.
ثـانِـيـا:الـقـرن الـثـانـي: الـبَـصْـرَة، كِـبـار الـنحـاة، الـمَـنـهـج.
بـإجـمـاع الـمَـصـادِر الـتـاريـخـيـة و الـلـغـويـة و الأدبـيـة فـإن مَـديـنـة الـبـصـرة هـي مَـهـد الـفـكـر الـنـحـوي الـعـربـي. الـفـكـر بـكـل مـعـنـى الـكـلـمـة أي: مَـوضـوع مـحـدَّد، مَـنـهـج للـبـحـث، مُـصـطـلـحـات خـاصـة. لـكـن هـذه الـمَـصـادِر لا تـذكُـر سـبـبـا مـقـنِـعـا يـشـرَح لـمـاذا الـبـصـرة دون غـيْـرهـا كـانـت مـهـدا لـذلـك. فـي الـفـقـرة الـتـالـيـة سـنـطـرَح الـسـؤال و سـنـحـاول أنْ نـوجـد لـه و لـو بـدايـة لـجـواب.
أ= الـبـصـرة مـهـد الـتَّـفـكـيـر الـنـحـوي.
لـعـل الـسـبـب الَّـذي أهّـل الـبـصـرة لـكـي تَـكـون الـمـديـنـة الَّـتـي عـرفـتْ بـدايـة الـفـكـر الـنـحـوي هـو خـاصـيـاتـهـا كـمَـديـنـة. أقـصـد خـاصـيـاتـهـا الـجـغـرافـيـة و الـبـشـريـة و الـتـاريـخـيـة و الـثـقـافـيـة. فـمـن حـيْـث الـمـوقـع الـجـغـرافـي هـي مَـديـنـة عـلـى الـبـحـر تُـطـلّ عـلـى ثـلاثـة عـوالـم ذات ثـقـافـات قَـديـمـة. فـهـي مَـفـتـوحـة عـلـى الـشـرق الـهـنـدي الإيـرانـي و عـلـى الـشـمـال و الـغـرب الـبـيـزنـطـي الإغـريـقـي و كـذا عـلـى الـجـنـوب الـعـربـي و مـكـوِّنـاتـه. هـذا الإنـفـتـاح جـعـل هـذه الـمَـديـنـة مُـلـتـقـى للـحـضـارات و الـثـقـافـات الـقـديـمـة فـي الـمَـنـطـقـة. هـذا الإنـفـتـاح يـؤكِّـده الإخـتـلاط الـعـرقـي بـيْـن أقـوام مـتـعـدِّدة. كَـثـيـرة هـي الـنُّـصـوص الـعـربـيـة الَّـتـي تـعـتـبـر الـبـصـرة " عـاصِـمـة عـراق الـعـجـم" لـكـثـرة الأقـوام فـيـهـا. الـتـعـدُّد الـعـرقـي و الـثـقـافـي هـذا جـعـل هـذه الـمَـديـنـة مَـديـنـة الأخـطـاء الـلـغـويـة بـامـتـيـاز. إضـافـة إلـى ذلـك فـإنـهـا مَـرفـأ بـحـري و صـحـراوي كـان يـعـج بـالـبـضـائـع و الـتـجـار مـن كـل أنـحـاء الـدُّنـيـا. و الـكـل يـعـرف أنّ الـتِّـجـارة لـيـسـت تـبـادلا للـبـضـائـع فـقـط بـل أيـضـا للأفـكـار و الـكـتـب و الـتـجـارب. و لـذلك يُـقـال: "إنّ الـتِّـجـارة تـفـتَـح الـدِّمـاغ". هـذا الإحـتـكـاك و هـذا الـتـعـدُّد الـثـقـافـي و الـعـرقـي سـيـجـعـل الـبـصـرة مَـديـنـة الـعـقـل بـامـتـيـاز. هـذه الـخـاصِـيـة سـاهَـمـت فـيـهـا نـوعـيـة الـثـقـافـة الـعـربـيـة الّـتـي اسـتـقـرتْ فـيـهـا. فـأهـم صَـحـابـي اسـتـقـرَّ فـيـهـا هـو "أنـس بـن مـالـك" الَّـذي أنـقـدتـه حـداثـة سـنـه فـي الـصُّـحـبـة الـنـبـويـة مـن الـسُّـقـوط فـي "نـصـيـة الـحَـديـث و الـروايـة" أي الـنـقـل. ولـعـل هـذه الـثـقـافـة الـعـقـلـيـة الـطـابَـع هـي الَّـتـي صـعَّـبـتْ عـلـى الـفـكـر الـشِّـيـعـي الـلاعـقـلانـي أنْ يـجـد لـه فـيـهـا مـوقِـع قـدم دائـم إلـى حـدود الـفـتـرة الّـتـي تـهُـمّـنـا.
أي مـركـز تِـجـاري مَـفـتـوح ومـتـعـدِّد الأعـراق و الـثـقـافـات تـغـيـب فـيـه الـنـصـيـة و الـلاعـقـلانـيـة لا يُـمـكـن إلاّ أنْ يَـكـون مـركـزا للـتـجـديـد فـي كـل الـمـيـاديـن. ألـيْـسـت الـبـصـرة هـي مـن أنـتـجـت أوائـل الـعُـقـول الـعـربـيـة الـعـلـمـيـة الـمـنـظَّـمـة. فـهـي مـديـنـة الـحَـسَـن الـبَـصْـري الـمَـوسـوعـي، و وَاصِـل بـن عَـطَـاء "الـعـقـلانـي الـمُـعـتـزلـي"، و أبـي حَـنـيـفـة الـنُّـعـمـان "إمـام أهـل الـرأي فـي الـفـقـه"...لـيْـس غَـريـبـا عـلـى مَـديـنـة أنـتـجـتْ كـل هـؤلاء الـعـلـمـاء الـمـفـكِّـريـن و الـمُـبـدِعـيـن أنْ تُـنـتـج فِـكـرا جَـديـدا و خِـطـابـا يـجـعَـل الـعـربـيـة مَـوضـوعـا لـه.
ب= كِـبـار الـنُّـحـاة الـبـصـريـيـن.
1= عَـبْـد الله بـن أبـي إِسْـحَـاق الـحَـضْـرَمـي (تـوفـي سـنـة 117 هـ / 735م)
و هـو تـلـمـيـذ " يَـحْـيَـى بـن يَـعْـمُـر" و "نـَـصْـر بـن عَـاصِـم". وهـو مـن" آل الـحَـضـرمـي" وهـي قَـبـيـلـة عـربـيـة قُـحـة و عـنـهـا أخـذ لـسـنـوات طَـويـلـة. وقـد اعـتـبـره شـوقـي ضـيـف ص 22 " أوّل الـنـحـاة الـبـصـريـيـن بـالـمـعـنـى الـدقـيـق لـهـذه الـكـلـمـة...يُـعَـدُّ بـحـق أسـتـاذ الـمـدرسـة الـبـصـريـة". و قـد اعـتـبـره الـقِـفـطـي ج2 ص104 "الـعـلامـة فـي عـلـم الـعـربـيـة( أي الـنـحـو)" و لـم يـسـتـعـمـل صِـيـغـة الـمـبـالـغـة مـع مـن تـرجـم لـهـم قـبْـلـه. وعـنـدمـا سـئـل عـنـه" يـونـس بـن حَـبـيـب"، و مـا أدراك مـا يـونـس بـن حَـبـيـب، قـال " هـو و الـنـحـو سـواء" (الـقـفـطـي ج2 ص 105) و لـكـن الـزُّبـيْـدي (ص31) يـجـعـل جـوابـه " هـو و الـبـحـر سـواء". إذن فـنـحـن أمـام شـخـص "عـلاّمـة" فـي عـلـم الـعـربـيـة أي الـنـحـو، و لـكـثـرة اشـتـغـالـه بـه اعـتـبـر اسـمـه مـرادفـا "للـنـحـو" و لـضـخـامـة عـلـمـه بـه اعـتـبـر " بـحـرا" فـيـه. كـل هـذا يـدفَـعـنـا إلـى الـتـسـاؤُل عـن إسـهـامـه الـفـكـري فـي الـنـحـو.
لـم يـكـتُـب الـحـضـرمـي أي كِـتـاب فـي الـنـحـو بـل اكـتـفـى بـالـتَّـدريـس و الإمـلاء عـلـى تـلامـذتـه. و يـذكُـر شـوقـي ضـيـف أنـه تـكـلَّـم فـي الـهـمـز و فـصّـل كـل شـيء فـيـه حـتـى عُـمِـل فـيـه كـتـاب مـمـا أمـلاه. كـونـه "هـو والـنـحـو سـواء" قـد يـبـدو مـتـنـاقِـضـا مـع عـدم تَـدويـنـه لأي كِـتـابـة. لـكـن هـذه مـسـألـة عـادِيـة بـاعـتـبـار الـمَـرحـلـة الَّـتـي عـاش خِـلالـهـا. و قـد لـخَّـص ابـن سـلام مـسـاهَـمـة الـحـضـرمـي الـنـحـويـة فـي "الـطـبـقـات" ص14 بـقـولـه " أول مـن بَـعَّـجَ الـنَّـحْـو، و مَـدَّ الـقِـيَـاسَ و شَـرَحَ الـعِـلَـلَ"
1= "أوّل مـن بَـعَّـجَ الـنَّـحْـوَ" : و "الـتَّـبـعـيـج" يَـعـنـي الـفَـتْـقُ و الـنَّـحْـتُ. و كِـلاهـمـا يـدلُّ عـلـى الـخـلـق و الإبـداع انـطـلاقـا مـن مـادة خـامـة هـي الـلـغـة الـمَـأخـوذة مـن مَـصـادِرهـا الـمـوثـوقـة الَّـتـي حـدّدهـا بـشـكـل دَقـيـق. لـقـد كـان أوَّل مـن "فـرَّع... الـنـحـو" حـسـب مـا أورده أبـو الـطـيـب الـلـغـوي، و الـتـفـريـع هـو الـتَّـبـويـب و الـتَّـصـنـيـف. أي أنَّـه جـعـل الـنـحـو أبـوابـا مـتـنـاغِـمـة و هـذا لا يـتـأتَّـى إلا لـمـن كـان شَـديـد الـمُـلاحـظـة كَـثـيـر الإسـتـقـراء.
2= " مَـدَّ الـقِـيَـاسَ " أي أنّـه أكـثـر مـن إسـتـعـمـال مـنـهـج نـظـري مـحـكَـم يـتـأكـد بـواسِـطـتـه مـن أنَّ أبـوابـه و تَـصـنـيـفـاتِـه بـعـد تَـجـريـد مـفـاهـيـمـهـا يُـمـكـن أن تُـطَـبَّـق عـلـى أشـيـاء أخـرى فـي الـلـغـة لـم يـتـمـكَّـن مـن إسـتـقـرائـهـا. فـمـا تـمـكَّـن مـن إسـتـقـرائـه أصـبـح لـديـه بـمَـثـابـة "الأصـل" الَّـذي يُـمـكـن أنْ يَـبـنـي و يَـقـيـس عـلـيـه أشـيـاء أخـرى. فـمـا لاحـظـه و وضَـع لـه قـواعـدَ فـهـو "أصـل" و مـا لـم يـدرُسـه فـهـو "فَـرْعٌ" و لـكـي يُـعـمِّـمَ حُـكْـمَ الـفـرع عـلـى الأصـل إسـتـعـمـل "الـقِـيـاس" و اشـتـرط وجـود أوجـه الـشـبـه بـيـنـهـمـا.
بـواسِطـة هـذه الآلـيـة الـذهـنـيـة الـدَّقـيـقـة تـمـكَّـن مـن وضْـع هـيْـكـل أو هَـيـاكِـل نـحـويـة و كـان لا يُـطـيـق مـن لا يـحـتـرمـهـا. و مـن هـنـا نـسـتـطـيـع أنْ نـفـهـم مـشـادّاتـه مـع الـشـاعـر الـعـربـي الـكـبـيـر "الـفَـرَزْدَق" الَّـتـي أوصـلـهـا هـذا الأخـيـر إلـى حـدِّ الـسـبِّ و الـتَّـجـريـح الـشَّـخـصـيـيْـن. و كـذلـك كـثـرة تَـصـحـيـحـه لأخـطـاء "مُـحَـمَّـد بـن سِـيـرِيـن"؛ و هـو مـن هـو فـي الـعِـلـم، إذْ كـانـت حـلـقـاتـهـمـا مـتـجـاوِرتـيْـن فـي الـمَـسـجِـد؛ هـي مـن دفـعـتْ ابـن سِـيـريـن إلـى الـقـول " لـقـد بَـغَّـضَ إلـيـنـا هـؤلاء(الـنُّـحـاة) الـمَـسـجِـد". لـقـد كـان "الـحَـضْـرَمـي" أوَّل مـن يُـطـبِّـق هـذا الـبـنـاء الـنـظـري الإسـتـنـبـاطـي الـنـحـوي، و قـد سـعـى إلـى تَـطْـبـيـقـه حـتـى فـي "الـقِـراءة". فـهـو كـأحـد أكـبـر الـمُـتـخـصِّـصـيـن فـي قِـراءة الـقُـرآن لـم يـكـن يـرى أنَّـهـا "تـواثُـر" عـن الـرسـول و الـصَّـحـابـة، بـل يـجـب أنْ تـخـضَـع لـقـواعِـده الـنـحـويـة، رغـم إحـتـجـاجـات بـاقـي الـقـرَّاء، و هـو مـا يـشـرُح كـوْنـهـا الـيـوْم تُـعْـتَـبَـرُ مـن "الـقِـراءات الـشَّـاذة". هـذا الـبـنـاء الـنَّـظـري كـان يُـلـزم بـه طُـلابـه إذْ بـعـد ردِّه عـلـى سُـؤال أحـد تـلامـذتـه أنـهـى كـلامـه بـقـولـه " عـلـيـك بـمـا يَـنْـطَـرِدُ و مـا يُـقَـاسُ". وفـي نـفـس الـجـواب عـبَّـر عـن غـضَـبـه مـن سـؤال يَـهُـمُّ الـلـغـة و لـيْـس الـنـحـو. و هـذا يَـعـنـي لـنـا أنـه كـمـفـكِّـر كـان صـاحِـب وعـي بـتـخـصُّـصِـه رغـم أنَّ الـدِّراسـات الـلـغـويـة الـنـحـويـة كـانـت فـي بـِدايـة الـطَّـريـق. و لا نـجـد شـهـادة فـي حـق هـذا الـعـالِـم أفـضـل مـن شَـهـادة تِـلـمـيـذه "يُـونـس بـن حَـبـيـب" الَّـذي قـال عـنـه سـنـوات بـعـد مـوتـه " لـو كـان بـيْـنـنـا مـن هـو فـي عِـلـمـه لَـكـانَ أعْـلَـمَ الـنـاسِ"
3= "شَـرَحَ الـعِـلَـلَ" بـعـد الإسـتـقـراء و الـمـلاحَـظـة و الـتـعـمـيـم يـأتـي الـتَّـعـلـيـل. أي الـبـحـث فـي عـلـة الـظـاهـرة الـنـحـويـة أي فـي سـبـبـهـا. فـلا عـلـم بـدون الـتَّـكـلُّـم عـن
أسـبـاب الـظـاهِـرة الـمَـدروسـة. فـهـو لـم يـكـن يـقِـف عـنـد وضـع الـقـاعـدة و الـتـأكُّـد مـنـهـا بـل يـتـعـدَّى ذلـك إلـى شَـرْحِ أسـبـاب وجـود الـقـاعِـدة نـفـسـهـا.
لـكـن شـهـادة تـلـمـيـذه "يـونـس بـن حَـبـيـب" الّـتـي يـقـول فـيـهـا "و لـكـن إذا قـال أحـدنـا بـِعِـلـلـه لـضـحـك مـنـه الـنـاس" تـأتـي لـتـقـلِّـل مـن مُـسـاهـمـة الـحَـضْـرَمـي فـي شـرح الـعـلـل. هـذه الـشـهـادة و إنْ كـانـت تـوحـي بـأنَّ شـرْح الـعـلـل الـنـحـويـة قـد عـرف تـطـوُّرا كـبـيـرا بـعـد الـحـضـرمـي، فـإنَّـهـا تـدفـعُـنـا لـطـرْح سـؤال عـن أي مـسـتـوى مـن عـلـل الـحَـضْـرمـي أصـبـح "يـضـحَـك مـنـه الـنـاس"؟ هـل هـي الـعـلـل الـتَّـعـلـيـمـيـة؟ أم الـقِـيـاسـيـة؟ أم الـنَّـظـريـة؟
لا يُـمـكـن بـأي حـال مـن الأحـوال أنْ يـخُـصّ ذلـك الـعـلـل الـتَّـعـلـيـمـيـة لأنّ أسـتـاذا فـي الـنـحـو، حـتـى و لـو لـم يـكـن مـن وزن الـحَـضْـرمـي، لا يُـمـكـن أنْ تُـصـبـح عـلـلـه الـتَّـعـلـيـمـيـة بـدون قِـيـمـة بـعـد خَـمـسـيـن سـنـة عـلـى الأكـثـر مـن وفـاتـه. كـيـف يُـمـكـن ذلـك لـمـن درّس لأكـبـر الـنـحـاة الَّـذيـن جـاؤوا بـعـده مـثـل "يـونـس بـن حَـبـيـب" و "أبـو عـمـرو بـن الـعـلاء" و " عـيـسـى بـن عـمـر" و نـحـن نـعـلَـم أنـه كـان يـركِّـز كـثـيـرا عـلـى الـعـلـل لأنـه كـان يُـريـد أنْ " يُـمَـكِّـنَ لَـهَـا فِـي ذِهْـنِ تَـلاَمِـيـذِهِ"(ضـيـف ص23). كـخـلاصـة يُـمـكـنـنـا الـقـول إنَّ كـل مـن لا يُـتـقـن الـعـلـل الـتَّـعـلـيـمـيـة لا يُـمـكـنـه أنْ يـدرِّس الـنـحـو ولا أنْ يـخـرِّج الـتـلامـيـذ. و الـحَـضْـرمـي هـو أسـتـاذ جـيـل بـِكـامـلـه.
إذا كـنـا مـتـأكِّـديـن مـن أنَّ شـهـادة يـونـس بـن حَـبـيـب لا تـخُـصُّ الـعـلـل الـتَّـعـلـيـمـيـة، فـإنَّـنـا شـبـه مـتـأكِّـديـن أنّـهـا لا تـخُـصُّ أيـضـا الـعـلـل الـقِـيـاسـيـة لأنَّ الـحَـضْـرمـي كـان بـارعـا فـي الـقِـيـاس ومـده إلـى أبـعـد حـد حَـسَـبَ ابـن سَـلاَّم. و الـقِـيـاس أصـلا يـحـتـاج إلـى عـلـة أو عـلـتـيـن تـجـمـع بـيْـن الـمَـقِـيـسِ و الـمَـقِـيـسِ عـلـيـه لـكـي يـتـسـاويـا فـي الـحُـكـم لـدرجـة أنَّ هـنـاك مـن عـرَّف الـنـحـو بـقـوْلـه:" الـنـحـو قِـيـاس يُـتـبـع". إضـافـة إلـى ذلـك فـ"يـونـس بـن حَـبـيـب" هـو نـفـسـه مـن إعـتـبـر الـحـضـرمـي " هـو و الـنـحـو سـواء". ومـن أصـبـح هـو و الـنـحـو سـواء أصـبـح هـو و الـقِـيـاس سـواء.
إذا كـان كـل هـذا كـذلـك، فـهـل مـن الـمَـعـقـول أنْ يـثـبُـت قِـيـاسـه وتـفـسُـد عـلـلـه مـع الـعـلـم أنَّ الـقِـيـاس قـائـم عـلـى الـعـلـل و يـسـقُـط بـسُـقـوطـهـا؟ قـيـاسـه أو قِـيـاسـاتـه ثـابـتـة لأنَّ عـلـلـه الـقِـيـاسـيـة صَـحـيـحـة.
تَـبْـقـى الـعـلـل الـنـظـريـة و هـي مَـجـمـوعـة مـن الأسـئـلـة ذات طَـبـيـعـة فـلـسـفـيـة يُـريـد الـنَّـحـوي مـن خِـلالـهـا أنْ يـذهَـب بـتَـفـكـيـره إلـى أبـعـد مـدى فـي شـرْح قـواعِـده الـنـحـويـة وإعـطـائـهـا بـعـدا عـقـلـيا خالـصا. فـي هـذا الـنـوْع مـن الـعـلـل يُـمـكـن أنْ يَـكـون الـحَـضْـرَمـي قـد غـامَـر بـبـعـض الإجـابـات جـعـلـت تـلـمـيـذه يـعـلِّـق عـلـيـهـا فـي شـهـادتـه الَّـتـي ذكـرنـاهـا سـابـِقـا.
قـبْـل أنْ يـلـومـنـي أحـد، أقـول إنَّ الـفـقـرات الـتـي حـاولـتُ مـن خِـلالـهـا أنْ أوضِّـح الـمـسـتـوى الَّـذي يـجـب أنْ نـفـهَـم عـنـده شـهـادة "يـونـس بـن حَـبـيـب" بـربـطـهـا بـقـولـة "ابـن سـلاَّم" يـبـقـى بـنـاء نـظـريـا نـعـتـقـد أنـه مـنـطـقـي. و لـكـنـنـا نـفـتـقـد إلـى أدنـى نـص تـاريـخـي يُـمـكـنـه أنْ يـعـزِّز فـهـمـنـا لـكـل ذلـك.
تـاريـخ وفـاة الـحَـضْـرمـي (117هـ / 735م ) يـعـنـي أنّـه عـاش مـعـظَـم حـيـاتـه فـي الـقـرن الأوَّل الـهـجـري، لـكـن إنـتـاجـه و نـسـقـه الـفِـكـري يـنـتـمـيـان بـلا أدنـى شـكِّ إلـى الإنـتـاج الـفـكـري الـنـحـوي للـقـرن الـثـانـي الـهـجـري وهـو مـا جـعـلـنـا نـدرسـه مـع كِـبـار الـنـحـاة فـي الـقـرن الـثـانـي. مـات الـحـضـرمـي ولـم يـتـرك لـنـا كِـتـابـا واحِـدا لـكـنـه كـوّن تـلامـيـذ سـيـصـبـحـون بـعـده الـمـمـثِّـلـيـن الـفـعـلـيـيـن للـمـدرسـة الـنـحـويـة فـي الـبـصـرة. و مـن أشـهـر تـلامـيـذه عـيـسـى بـن عـمـر الـثَّـقـفـي.
2= عِـيـسَـى بـن عُـمَـر الـثَّـقـفـي (تـوفـي 149هـ / 766م)
هـو بـالـتَّـبـنِّـي مـن عـائـلـة الـصـحـابـي خـالـد بـن الـولـيـد. عـاش طَـويـلاً فـي قَـبـيـلـة "ثَـقـيـف" الـعـربـيـة فـي جـنـوب شـرق مـكـة. كـان " مـن الـقُـرَّاء، و كـان ضَـريـرا، و هـو بَـصْـرِيُّ الـعِـلْـمِ و الـمَـذْهَـبِ. مـن الأَوَائِـلِ" حـسـب ابـن الـنَّـدِيـمِ (ص66). و قـد سـار عـلـى نـفـس طَـريـقـة أسـتـاذه الـحَـضْـرمـي حـيـث كـان " يَـطْـرُدُ الـقِـيَـاسَ و يُـعَـمِّـمُـهُ" (ضـيـف ص25) عـلـى مـا لـم يـسـمَـعـه مـن كـلام الـعـرب. و كـان أيـضـا لا يـقـبَـل الأخـطـاء الـنـحـويـة حـتّـى فـي الـشـعـر. و يـذكـر الـقِـفـطـي(ج2 ص 375) نـقـلا عـن مـحـمـد بـن سـلاَّم أنـه"كـان يـطـعَـن عـلـى الـعـرب، و يـخـطِّـئ الـمَـشـاهـيـر مـنـهـم، مـثـل الـنـابـغـة فـي بـعـض أشـعـاره و غـيـره" و نـحـن نـعـلَـم أنّ الـنـابـغـة هـو "أسـتـاذ الـشـعـراء" و أنَّ الـشـعـر الـجـاهـلـي يـعـتـبـِره اللـغـويـون والـنـحـاة أحـد أهـم الـمـصـادِر مـع الـقـرآن و كـلام الـعـرب. و مـثـل أسـتـاذه، كـان يـطـبِّـق قـواعـده الـنـحـويـة حـتـى فـي "الـقِـراءة" ويـفـضِّـل الـنَّـصْـبَ (الـفـتـحـة) فـي حـال الإخـتـلاف لأنـه كـان يـعـتـبـرهـا أخَـفَّ و ألـطـف مـن الـضـمـة و الـكـسـرة. إضـافـة إلـى كـل ذلـك، كـان عـيـسـى بـن عـمـر أول مـن تـكـلَّـم عـن الـعَـوامِـل الـمَـحـذوفـة و الـمـقـدَّرة، و هـو بـاب سـيُـكـمـلـه و سـيـشـتـهـر بـه تِـلـمـيـذه الـخَـلـيـل بـن أحـمـد (ضـيـف ص 26). و أهـم مـن هـذا و ذاك فـإنّ عـيـسـى بـن عـمـر هـو أوَّل مـن دوَّن الـكُـتـب فـي الـنـحـو. و كـان عـيـسـى بـن عـمـر، حـسـب مـا سـمـعـه مـنـه الأصـمَـعـي، يـقـول:"لـقـد كـنـتُ أكـتـب بـالـلـيـل حـتـى يـنـقـطـع سـوئـي أي وسَـطـي" (يـاقـوت الـحـمـوي ج 4 ص 520/ 521)
يـقـول الـقِـفـطـي(ج2 ص375) "و لـه فـي الـنـحـو نَـيِّـفٌ و سَـبْـعُـونَ تَـصْـنِـيـفًـا، عُـدِمَـتْ" دون أنْ يـذكـر كـيـف ضـاعـتْ هـذه الـكُـتـب. لـكـن فـي نـفـس الـكِـتـاب(ص346) جـاء عـلـى لـسـان سِـيـبَـوَيْـه " وأنَّ بـعـضَ أهْـلِ الـيَـسَـارِ جَـمَـعـهـا و أتـتْ عـلـيْـهـا عـنـده آفـة(نـار؟) فـذهَـبـتْ(احـتـرقـتْ؟)، و لـم يـبـق مـنـهـا فـي الـوجـود سـوى تَـصـنـيـفـيْـن".
و رغـم أن الـكـتـابـيـن كـانـا قـد فُـقـدا عـلـى زمـن يـاقـوت الـحـمـوي ( مـا عـلـمـنـا أحـدا رآهـمـا و لا عـرفـهـمـا ص 519) فـإنـه أوْرد شـهـادة للـمـبـرد يـقـول فـيـهـا " قـرأت أوراقـا مـن أحـد كِـتـابـي عـيـسـى بـن عـمـر" (ص 520)
نـحـن مـتـأكِّـدون إذن أنّ عـيـسـى بـن عـمـر كـتـب أكـثـر مـن سَـبْـعـيـن كـتـابـا فـي الـنـحـو لـم يـبـق مـنـهـا إلا كِـتـابـان فـي زمـن سِـيـبـويـه (تـوفـي 179هـ / 796م ). هـذان الـكـتـابـان هـمـا " تَـصـنـيـفـان كَـبـيـران، إسـم أحـدهـمـا "الإكـمـال" و الآخـر "الـجـامِـع""(الـقِـفـطـي ج2ص375). و حـتـى وإنْ أخـطـأ ابـن الـنـديـم فـي "الـفـهـرسـت" فـي عـنـوان الـكِـتـاب الـثـانـي بـجـعـلـه "الـمُـكَـمِّـل" بـدل " الإكـمـال" (ص66) فـإنَّ الـثـابـت بـإجـمـاع الـمَـصـادِر أنّ الـعـنـوان هـو "الإكـمـال". و حـسـب أبـي الـطـيـب الـلـغـوي "..هـمـا مَـبـسـوط و مـخـتـصَـر" (يـاقـوت ص 519)
مـن خِـلال الـعـنـوانـيْـن يـبـدو أنّ الـكـتـاب الّـذي صُـنِّـف أولا هـو "الـجـامِـع" و أن كـتـاب "الإكـمـال" جـاء ثـانـيـا ر بـمـا لإتـمـام الـكِـتـاب الأوَّل. فـأيـن هـمـا الـكِـتـابـان؟ نـحـن نـعـرِف، بـشـهـادة سـيـبـويـه نـفـسِـه، أنَّ كِـتـاب "الإكـمـال" كـان مَـوجـودا عـنـد رجـل مَـعـروف فـي فـارِس(إيـران). أمـا الـكِـتـاب الـثـانـي " الـجـامِـع"، ومـن خِـلال نـفـس الـشَّـهـادة، كـان "سِـيـبَـوَيْـه" يـمـلِـك نُـسـخـة مـنـه، و كـان يـسـأَل كَـثـيـرا أسـتـاذه الـخـلـيـل عـن كـل مـا لـم يـكـن يـفـهـمـه فـي ذلـك الـكِـتـاب. سـنـعـود للـحَـديـث عـن "الـجـامِـع" عـنـدمـا سـنـتـحـدث عـن " الـكِـتـاب" لـسِـيـبَـوَيْـه.
يـقـول الـخَـلـيـل بـن أحـمـد عـن الـكِـتـابـيـن ارتـجـالا،ا وإنْ كـان "ابـن الـنـديـم" (ص66) يـنـسِـب الـبـيـتـيـن للـقـاضـي "أبـوسـعـيـد"(ص66):
ذَهَـبَ الـنَّـحْـوُ جَـمِـيـعـًا كُـلُّـه غَـيْـرَ مَـا أحْـدَثَ عِـيـسـى بـن عـمـر
ذاك "إِكْـمَـالٌ" و هَـذَا "جَـامِـعٌ" فَـهُـمَـا للـنَّـاسِ شَـمْـسٌ وَ قَـمَـرٌ.
كـل الـنـحـو، بـشـهـادة الـخَـلـيـل، لا يـسـاوي شـيء بـاسـتـثـنـاء كِـتـابـي عــيـسـى بـن عـمـر، لأنـهـمـا شـمـس و قـمـر يُـنـيـران حـيـاة الـنـاس فـي الـنـحـو و لا يـحـتـاجـون غـيـرهـمـا.
3= يُـونُـس بـن حَـبـِيـب:(تـوفـي 182هـ/ 798م)
وُلِـد سـنـة 94هـ / 713م و عـاش أكـثـر مـن ثـمـانـيـة و ثـمـانـيـن عـامـا. درَس عـلـى يـد "الـحَـضْـرَمـي" و "عـيـسـى بـن عـمـر" و "أبـي عـمـرو بـن الـعـلاء"(تـوفـي 154هـ/ 771م). حـسـب الـمَـصـادِر كـان شَـديـد الإهـتـمـام بـالـلُّـغـة و الـتَّـدريـس.
حـفـظـت لـنـا الـمـصـادِر الـكَـثـيـر عـن يـونـس الـلـغـوي و هـو شـيء سـنـتـطـرَّق لـه فـي مـقـال خـاص عـن جـمْـع الـلـغـة و لـم تـحـفَـظ لـنـا عـن يـونـس الـنـحـوي إلا الـقَـلـيـل.
فـهـذا ابـن الـنـديـم (ص66) يـعـتـبـره " أَعْـلَـمَ الـنَّـاسِ بـِتَـصَـارِيـفِ الـنَّـحْـوِ" وفـي نـفـس الإتِّـجـاه يـذهَـب الـقِِـفـطـي (ج4 ص76) بـقـوْلـه:" كـان يـونـس بـارِعـا فـي الـنَّـحْـوِ ...و لـه قِـيَـاسٌ فـي الـنَّـحْـوِ و مَـذاهِـبُ يَـنْـفَـرِدُ بـِهـا". مـن خِـلال الـشَّـهـادتـيْـن نـعـرف أنَّ صـاحِـبـنـا كـان عـالـمـا فـي الـنـحـو و لـكـن كـانـت لـه آراء خـاصـة بـه لا تُـوافِـق لا آراء الـخَـلـيـل و لا آراء سـيـبـويـه. و هـذا فـي نـظـرنـا يـشـرَح غِـيـاب آرائـه الـنـحـويـة فـي كِـتـاب تـلـمـيـذه سـيـبـويـه، الـمـرجِـع الـوَحـيـد الـمُـبـاشـر لـهـذه الـفـتـرة. رغـم أنّ سـيـبـويـه يـذكـره 230 مـرة فـي كِـتـابـه و لـكـن فـقـط فـي بـاب الـتـركـيـب و الأقـيـسـة أي فـقـط فـي الأبـواب الـتـي لا يـخـتـلـف فـيـهـا تَـقـريـبـا مـع الـخَـلـيـل.
4= الـخَـلِـيـل بـن أحـمـد الـفـراهـدي: (تـوفـي 175هـ/ 792م)
هـو أول نـحـوي عـربـي نـعـرِف، بـطـريـقـة شـبـه مـبـاشـرة، تَـقـريـبـا كـل آرائـه الـنـحـويـة بـفـضـل "الألـف" صـفـحـة الـتـي دوَّنـهـا عـنـه تـلـمـيـذه سـيـبـويـه. بـل إنَّ يـونـس بـن حَـبـيـب عـنـدمـا أطـلـعـه "الأخـفـش" عـلـى كِـتـاب سـيـبـويـه، بـعـد مـوْت هـذا الأخـيـر، أقـسـم قـائـلا "و الله هـذا مـخـتـصَـر مـا قـالـه الـخَـلـيـل". إذا كـان "الـكِـتـاب" كـلـه مـخـتـصَـر مـا قـالـه الـخَـلـيـل، فـكـيـف يـمـكـنـنـي فـي أسـطـر أن أكـتـب عـن مُـسـاهـمـتـه فـي تـاريـخ الـنـحـو؟
الـحـلّ الـذي أقـتـرحـه هـو أن نـذكـر نـقـط مـعـيـنـة فـقـط تـوضِّـح أهـم إسـهـامـاتـه دون الـدخـول فـي كـثـرة الأمـثـلـة:
أ= هـو الـذي وضـع الأصـول و الـقـواعـد الـعامـة لـلـنـحـو و الـصـرف بـأبوابـها و مـصـطـلـحاتـها الـتـي لازلـنـا نـسـتـعـمـلـهـا حـتـى الـيـوم.
ب= هـو الـذي وضـع مـصـطـلـحـات "الـرفـع" و "الـنـصـب" و "الـخـفـض" لـلـكـلـمـات الـمُـعـربـة تَـمـيـيـزا لـهـا عـن مُـصـطـلـحـات "الـضـم" و "الـفـتْـح" و "الـجـر" الـتـي خـصَّـصـهـا لـلـكـلـمـات الـمـبـنـيـة.
ت= هـو مـن إعـتـبـر أنَّ "×َانِ" و "×َيْـنِ" فـي الـمُـثـنّـى، و "×ُونَ" و "×ِيـن" فـي جـمـع الـمُـذكَّـر الـسـالـم ، (أنّـهـا) حـروفـا لـلإعـراب مـثـل الـفَـتـحـة و الـضـمـة و الـكـسـرة فـي الـمُـفـرد و جـمـع الـتَّـكـسـيـر
ث= هـو مـن اخـتـرع الـمِـيـزان الـصَّـرفـي الـعـربـي و أوزانـه و تـكـلَّـم عـن الـمُـجـرَّد و الـمَـزيـد و جـعـلـه ثـلاثـيـا أو رُبـاعِـيـا أو خُـمـاسـيـا.
ج= هـو مـن جـمـع الـحُـروف الـزائـدة عـن الـجـذر فـي كـلـمـة "سَـألْـتُـمُـونِـيـهَـا".
خ= هـو مـن وضـع قـواعـد الإعـلال الـتـي تـسـمَـح لـنـا الآن بـتـصـريـف كـل الأفـعـال الـمُـعـتـلّـة، و مـا أكـثـرهـا فـي الـعـربـيـة، بـدقـة مـتـنـاهـيـة تـفـقِـدهـا مـعـظـم لـغـات الـعـالـم.
د= هـو مـن تـحـدَّث عـن "الـنـحـت" فـي الـعـربـيـة بـأمـثـلـة بـسـيـطـة و كـيـف أنّ بـعـض الـكـلـمـات الـعـربـيـة أصـلـهـا كـلـمـتـان ضُـمَّـتـا إلـى بـعـض: لَـنْ = لاَ + أنْ. قـبـل أنْ تـسـقُـط الـهـمـزة لـلـتَّـخـفـيـف ثـم الألـف لـلإتـقـاء الـسـاكِـنـيْـن.
ذ= هـو صـاحِـب "نـظـريـة الـعـامِـل" بـعـد أنْ لاحـظ أنّ كـل تَـغـيـيـر فـي الإعـراب لا بـد لـه مـن سـبـب. و هـكـذا جـمـع أدوات نـصـب الـفِـعـل مـع بـعـضـهـا و سـمـاهـا "نَـواصـب الـفـعـل". و أخـرى لـهـا نـفـس الـتَّـأثِـيـر عـلـى الأسـمـاء سـمّـاهـا " نَـواصِـب الأسـمـاء" و أخـرى تـجـزِم الـفِـعـل سـمّـاهـا "جَـوازِم الـفِـعـل" و أخـرى تـجُـرُّ الأسـمـاء سـمَّـاهـا " حُـروف الـجَـرّ".......
الـخـلـيـل مَـذكـور فـي "الـكِـتـاب" 720 مـرة و هـذا يـكـفـي لـتـوضـيـح مـكـانـتـه فـي بـنـاء الـصـرح الـعـلـمـي للـنـحـو الـعـربـي الـذي إكـتـمـل بـشـكـل شـبـه نـهـائـي عـلـى يـديـه و لـيْـس عـلـى يـدي تـلـمـيـذه "سـيـبـويـه" كـمـا هـو شـائِـع بـيْـن الـنـاس.
رجـل تـربَّـى عـلـى يـد عـيـسـى بـن عـمـر الـنـحـوي و أبـي عـمـرو بـن الـعـلاء الـلـغـوي و هـمـا أول مـن لاحـظـا عـبـقـريـتـه الـلـغـويـة، فـعـل كـل شـيء تـقـريـبـا فـي الـنـحـو الـعـربـي و لـكـنـه احـتـفـظ بـتـواضـع الـعـالِـم و الـمـؤمـن الـحـامـل لـكِـتـاب الله الـخـبـيـر فـي قِـراءتـه. فـهـذا رجـل يـسـألـه هـل قـواعـده الـنـحـويـة تـنـطـبـق عـلـى كـل كـلام الـعـرب ؟ فـيُـجـيـب بـالـنـفـي. ولـمـا طـلـب مـنـه نـفـس الـسـائـل: مـاذا يـفـعـل بـمـا لـم تـنـطـبـق عـلـيـه قَـواعِـده؟ قـال: "أسـمِّـي الـبـاقـي لُـغـات" أي لـهـجـات. نـفـس الـتـواضـع يـظـهـر مـع شـخـص سـألـه عـن عـلـلـه، هـل أخـذهـا عـن الـعـرب ام اخـتـرعـهـا مـن نـفـسـه؟ فـأجـاب بـالـنـفـي مـع شـرح مـطـوَّل أورده أبـو الـقـاسـم الـزجـاجـي ( الإيـضـاح فـي عـلـل الـنـحـو ص 66) يـقـول فـيـه " إنّ الـعـرب نـطـقـت عـلـى سـجـيَّـتـهـا و طِـبـاعـهـا. و عـرفـتْ مـواقِـع كـلامِـهـا، و قـام فـي عُـقـولـهـا عـلـلـه، و إنْ لـم يُـنـقَـل ذلـك عـنـهـا. و اعـتـلـلـت أنـا بـمـا عـنـدي أنـه عـلـة لـمـا عـلـلـتـه مـنـه. فـإن كـنـتُ أصـبـتُ الـعـلـة فـهـو الـذي الـتـمـسـتُ. و إنْ تـكـن هـنـاك عـلـة لـه فـمـثـلـي فـي ذلـك مـثـل رجـل حـكـيـم دخَـل دارا مُـحـكـمـة الـبـنـاء،....فـكـلَّـمـا وقـف هـذا الـرجـل فـي الـدار عـلـى شـيء مـنـهـا قـال : إنَّـمـا فـعـل هـذا هـكـذا لـعـلـة كـذا و كـذا و لـسـبـب كـذا و كـذا...فـجـائـز أنْ يـكـون الـحـكـيـم الـبـانـي لـلـدار فـعـل ذلـك لـلـعـلـة الـتـي ذكـرهـا الـذي دخَـل الـدار، و جـائـز أنْ يـكـون فـعـلـه لـغـيْـر تـلـك الـعـلـة. إلا أنّ ذلـك مـمـا ذكـره هـذا الـرجـل مـحـتـمَـل أنء يـكـون عـلـة ذلـك. فـإنْ سـنَـح لـغـيْـري عـلـة لـمـا عـلـلـتـه مـن الـنـحـو هـو ألـيـق مـمـا ذكـرتـه بـالـمـعـلـول فـلـيـأتِ بـهـا"
ثـالـثـا: سِـيـبَـوَيْـه و "الـكـتـاب" أو قـمـة الـنـحـو فـي الـقـرن الـثـانـي
هـو أبـو بـشـر عـمـرو بـن عـثـمـان بـن قَـنْـبَـر الـبَـصْـري. ولـد عـلـى الأرجـح فـي سـنـة 140هـ / 785 م فـي الـبـيـضـاء قـرب مـديـنـة شِـيـراز فـي إيـران. و كـلـمـة "سِـيـبَـوَيْـه" هـي كـلـمـة فـارسـيـة مـركـبـة مـن كـلـمـة "سـيـب" و تـعـنـي "الـتـفـاح" و كـلـمـة "بـوي" و تـعـنـي "رائـحـة أو عـطـر" و الـهـاء فـي آخـرهـا عـلامـة الـجـمـع. و بـهـذا يـكـون الـمـعـنـى هـو عُـطـور / رَوائـح الـتُّـفّـاح" و إنْ كـان الـمُـعـتـاد فـي الـمَـصـادر إعـتـبـارهـا " رَائـحـة الـتـفـاح". و ربـمـا لأنـه كـان يُـكـثـر مـن اسـتـعـمـال عـطـر مُـسـتـخـلَـص مـن الـتـفـاح. أمـا مـا تـذكـره مـصـادر قـلـيـلـة مـن كـون الـكـلـمـة تـعـنـي "حُـمـرة الـتُّـفّـاح" لأن وجـهـه كـانـت تَـعـلـوه حـمـرة، فـإنـنـا لـم نـعـثـر عـلـى هـذا الـمـعـنـى فـي أي قـامـوس فـارسـي إطّـلـعـنـا عـلـيـه. لا نـعـرف فـي أيـة سـنـة جـاء إلـى الـبـصـرة وهـي عـاصـمـة الـعـلـم آنـذاك. و هـو يَـنـوي دِراسـة الـحـديـث و الـفـقـه و هـذا يـدُلّ عـلـى أنـه كـان يـعـرف الـعـربـيـة قـبـل وُصـولـه إلـى الـبـصـرة. إلـتـحـق بـدروس "حَـمَّـاد بـن سَـلَـمـة" و لـكـن مُـسـتـواه فـي الـلـغـة لـم يـكـن يـسـمَـح لـه بـذلـك. فأخـطـاؤه فـي الـلـغة كانـت فادِحة بالـنـسـبة لـطـالِـب فِـقـه و حَـديـث.
إضـطـرّ سـيـبـويـه إذن، بـسـبـب ضـعـفـه الـلـغـوي، إلـى الإلـتـحـاق بـدُروس الـنـحـو و اللـغـة.
و تـحـدِّثـنـا الـمَـصـادِر عـن تـتـلـمُـذه عـلـى "الـخـلـيـل بـن أحـمـد" و "يـونـس بـن حَـبـيـب" (الـقـفـطـي ج 2 ص 346)، و عـلـى "الأَخْـفَـش الأَكْـبَـر"( أبـو الـخـطـاب تـوفـي 177هـ / 793م). ويـذكُـر الـقِـفـطـي فـي نـفـس الـصَـفـحـة أنـه أخـذ عـن "عِـيـسَـى بـن عُـمَـر الـثَّـقَـفـي". إلاّ أنّـنـا نـعـتـبـر ذلـك شـيء مُـسـتـحـيـلا لـكـوْن "عـيـسـى بـن عـمـر" مـات سـنـة 149هـ/ 766م، و هـو مـا يَـعـنـي أنّ سـيـبـويـه تـتـلـمـذ عـلـيـه و هـو لـم يـصـل سِـنّ الـتـاسِـعـة مـن عـمـره بـعـد. و هـو مـا يـعـنـي أيـضـا أنـه جـاء إلـى الـبـصـرة و عُـمـره أقـل مـن تِـسـع سـنـوات وهـي سـن مـبـكـرة جـدا خـصـوصـا و أنَ الـمـصـادر لا تـذكـر أبـدا أنـه كـان مَـرفـوقـا بـأحـد أقـربـائـه.
و يـذكُـر يـاقـوت ( ج5 ص2124) أنّ لـسـانـه كـانـت فـيـه "حُـبْـسَـة"، أي إلـتـواء فـي الـلـسـان كـان يـمـنـعُـه مـن الـنـطـق بـسُـرعـة و بـوُضـوح. هـذا الـعـيْـب تـحـوّل، فـيـمـا نـعـتـقـد، إلـى شـيء إيـجـابـي عـنـد صـاحـبـنـا. إذ أنّ هـذا الـعـيْـب جـعَـلـه يـتّـجـه نـحـو الـكِـتـابـة حـيْـث كـان يـكـتُـب و يـنـقُـل، بـأمـانـة كَـبـيـرة جـدا، كـل مـا كـان يـسـمَـعـه أو يـقـرَأه. هـذه الـمُـلاحـظـة هـامـة جـدا لأنـهـا سـتـسـاعـد الـقـارئ عـلـى فـهْـم بـعـض مـا نـذهَـب إلـيـه بـخـصـوص نـسـبـة "الـكـتـاب" لـسـيـبـويـه. و مـن خـلالـهـا نـفـهـم الـمَـصـادر الـتـي تـعـتـبـره " أتـبـث مـن أخـذ عـن الـخـلـيـل و يـونـس بـن حـبـيـب". و تـعـزِّزهـا شـهـادة أخـرى عـنـد يـاقـوت (ج5ص2124) جـاءت عـلـى لـسـان أحـد مـمـن عـرفـوه "و نـظـرْت فـي كِـتـابـه فـرأيْـت عِـلـمـه أبـلـغ مـن لِـسـانـه" وعـنـد الـقِـفـطـي (ج2ص349) "و قـلـمـه أبـلـغ مـن لِـسـانـه".
واضـح إذن أنّ "حُـبْـسَـتَـه" و تَـجـربـتـه الـسـلـبـيـة مـع "حَـمَّـاد بـن سَـلَـمـة" جـعـلـتـا مـنـه مـدقِّـقـا و مُـكـثـرا مـن وضْـع الأسـئـلـة و أمـيـنـا فـي تَـسـجـيـل الأجـوبـة وحَـريـصـا عـلـى الـحُـصـول عـلـى الأمـثـلـة الـتَّـطـبـيـقـيـة. هـذا مـا يـشـرَح تَـرحـيـب الـخـلـيـل بـه فـي مـجـلِـسـه قـائـلا:" مَـرْحَـبًـا مَـرْحَـبًـا بـزَائِـرٍ لا يُـمَـلُّ". و نـحـن نـعـرِف مـن شَـهـادة "أبـي عَـمْـرو الـمَـخْـزُومـي" الـذي لازم الـخَـلـيـل أنـه لـم يـسـمَـعـه " يَـقـولـهـا لأحـد إلا سـيـبـويـه"( الـقـفـطـي ج 2 ص 352).
بـعـد كـل هـذا نَـقـول إنَّـنـا لا نـعـرِف الـكَـثـيـر عـن سِـيـبَـويـه. فـنـحـن لا نـعـرِف الـمـدة الّـتـي قَـضـاهـا فـي دِراسـة الـنـحـو و الـلـغـة، و لا الـمـدة الّـتـي لـزِم فـيـهـا الـخَـلـيـل. فـهـذا يـونـس بـن حَـبـيـب يـقـول عـنـدمـا سـمـع أنّ سـيـبـويـه قـد ألَّـف كـتـابـا فـي ألـف و رقـة، قـال مُـسـتـغـربـا:" و مـتـى سـمِـع سـيـبـويـه هـذا كـلَّـه مـن الـخَـلـيـل" (يـاقـوت ص 500) كـمـا أنّـنـا لا نـعـرِف تـاريـخ وَفـاتِـه بـالـضـبـط، و إنْ كـان الـراجِـح هـو سـنـة 179 هـ / 796م أو 180 هـ / 797م. رغـم كـل ذلـك فـإنـه قـد تـرَك لـنـا مـؤلَّـفـا ضـخـمـا فـي الـنـحـو مـن تـسـعـمـئـة صَـفـحـة. و هـو أقـدم كِـتـاب جـامِـع وصـلـنـا عـن الـنـحـو الـعـربـي. و إذا كـان الـمِـخـيـال الـثَّـقـافـي الـعـربـي مـطـمـئِـنّ تـمـامـا إلـى أنّ "الـكِـتـاب" هـو الـمَـجـهـود الـعـلـمـي لـسـيـبـويـه، فـإنّ لـنـا رأيـا آخـر فـي نِـسـبـة الـكِـتـاب لـه، سـنـعـرِضـه فـي الـفَـقـرة الـتـالـيـة.
= قِـصـة "الـكِـتـاب" و نِـسـبـتـه إلـى سـيـبـويـه
تـردّدتُ لأكـثـر مـن سـنـة قـبـل أنْ أسـطِّـر هـذه الـفـقـرة، و ذلـك لـسـبـبـيْـن: الأول أنّ مـاخـلُـصـتُ إلـيْـه أزعـجـنـي كَـثـيـرا، خـصـوصـا و أنّ فُـحـول الـعـربـيـة مـثـل الـدكـتـور شـوقـي ضـيْـف تـفـادوا، بـكَـثـيـر مـن الـنـجـاح، الـخـوْض فـي هـذه الـمَـسـألـة. و الـثـانـي أنّـي كـنـت أريـد أنْ أعـزِّز مـا أذهـب إلـيـه بـشـواهـد مـن داخِـل "الـكـتـاب" نـفـسـه. لـكـن الـظـروف لـم تـسـاعـدنـي عـلـى ذلـك. فـرأيـتُ مـؤخَّـرا أنْ أتـرُك ذلـك لـدِراسـة لاحِـقـة، و أنْ أكـتـفـي هـنـا بـدلائـل مـن خـارِج الـكِـتـاب. كـل هـذه الـدلائـل و الإشـارات مَـأخـوذة مـن مَـصـادِر يـثِـق فـيـهـا جـمـيـع الـمـتـخـصِّـصـيـن و تـذهَـب إلـى أنّ الـكِـتـاب لـيْـس مـن "تـألـيـف سـيـبـويـه " و خُـصـوصـا إذا قـرأنـاهـا فـي ضـوء بـعـضـهـا الـبـعـض.
1) الـدَّلـيـل الأول: يَـسـوقـه "ابـن الـنـديـم" فـي "الـفـهـرسـت" ص 81 و هـي شَـهـادة مَـكـتـوبـة قـرأهـا " بـخـط أبـي الـعـبـاس ثَـعْـلَـب" و هـو ثـانـي أكـبـر رأس فـي الـمَـدرسـة الـكُـوفـيـة و تـوفـي سـنـة 291 هـ / 904 م و هـو عـالِـم فـي الـلـغـة و الـنـحـو و يـعـرِف عـن مـاذا يـتـحـدّث. يَـقـول "ثَـعْـلَـب" :" إجـتـمـع عـلـى صَـنـعـة كِـتـاب سـيـبـويـه إثـنـان و أربـعـون إنـسـانـا مـنـهـم سـيـبـويـه" و هـو مـا يَـعـنـي أنـه كِـتـاب جَـمـاعـي شـارَك فـيـه مَـجـمـوعـة مـن الـطـلاب بـتَـسـلـيـم مـا كـانـوا يـسـجِّـلـونـه مـن أفـواه أسـاتـذتـهـم إلـى سـيـبـويـه الَّـذي نـظّـم وهـذّب، لأنّـنـا نـسـتـبـعـد إجـتـمـاع إثـنـيْـن و أربـعـيـن شـخـصـا فـي
و قـت واحِـد لـتَـخـطـيـط الـكِـتـاب.
2) الـدَّلـيـل الـثـانـي: يَـسـوقـه "يـاقـوت الـحـمـوي" ج5 ص 2123 / 2124. مَـفـاد الـقِـصـة أنّ رجـلا أخـبـر "يـونـس بـن حَـبـيـب" أنّ "سـيـبـويـه كـتَـب كِـتـابـا فـي ألـف صَـفـحـة" فـتـعـجَّـب كَـثـيـرا مـمـا سـمِـعـه و قـال للـرجـل: " هـات الـكِـتـاب" و عـنـدما أخـذه و قـرأه قـال: " يـجـب أنْ يَـكـون هـذا الـرجـل (سـيـبـويـه) قـد صـدَق فـي جَـمـيـع مـا حـكـاه (نـقـلـه) عـن الـخـلـيـل، كـمـا صـدَق فـي كـل مـا حـكـاه (نـقـلـه) عـنـي". لا أخـفـيـكـم أنّ هـذه الـرِّوايـة لـم تـتـرُك لـي خِـيـارا فـي تـقـديـمـهـا. لأنـي إذا أغـفـلـتـهـا تَـسـلـيـمـا بـأنَّ "الـكِـتـاب" هـو لـسـيـبـويـه فـسـيَـكـون عـلـيّ أنْ أُومـن أنَّ "يـونـس بـن حَـبـيـب"، أسـتـاذ سـيـبـويـه، الَّـذي درّس الـنـحـو و الـلـغـة لأكـثـر مـن مـن سـتـيـن سـنـة، و الّـذي كـان " أعـلـم الـنـاس بـتَـصـاريـف الـنـحـو" لـم يَـكـن يـعـلَـم أنّ تِـلـمـيـذه، الَّـذي لازَمـه لـسـنـوات، كـان بـصـدد كِـتـابـة كِـتـاب فـي الـنـحـو مـن ألـف صَـفـحـة. فـهـل مـن الـمَـعـقـول أنْ يـكـتُـب طالِـب كِـتـابا فـي مادة ما دون أنْ يـسـتـشـيـر أسـتاذه الـمـتـخـصِّـص فـي تـلك الـمـادة و هـو يـجـلِـس مـنـه مـجـلِـس الـدرس كـل يـوم صَـبـاح مـسـاء، خُـصـوصـا أنّ "الـتـتـلـمـذ" كـان فـي تـلـك الأيـام نـوعـا مـن الـصُـحـبـة و الـمـرافـقـة الـمـسـتـمـرّة؟
الـدلـيـل الـثـالـث: يَـسـوقـه الـقِـفـطـي فـي "إنـبـاه الـرواة" ج2 ص 347 أثـنـاء حـديـثـه عـن سـيـبـويـه عـنـدمـا يَـقـول:" و عـمِـل كـتـابـه الـمَـنـسـوب إلـيـه فـي الـنـحـو و هـو مـا لـم يـسـبـقـه إلـيْـه أحـد...و قـد قـيـل إنـه أخـذ كـتـاب " عـيـسـى بـن عـمـر" الـمُـسـمّـى "الـجـامـع" و بـسّـطـه و حـشّـى عـلـيـه مـن كـلام الـخـلـيـل و غـيـره، و هـو كـتـابـه الّـذي اشـتـغـل بـه، فـلـمـا اسـتُـكْـمِـلَ بـالـبـحـث و الـتـحـشـيـة، نُـسِـبَ إلـيـه".
هـذا الـدلـيـل، فـيـمـا نـعـتـقـد، يـشـرَح عـدم عـلْـم الأسـتـاذ، يـونـس بـن حـبـيـب، بـتـألـيـف تـلـمـيـذه لـكـتـاب فـي الـنـحـو، لأنّ كـل مـا كـان يَـقـوم بـه سـيـبـويـه هـو تـبـسـيـط أفـكـار عـيـسـى بـن عـمـر و وضْـع الـحـواشـي و الـتـعـلـيـقـات و الأمـثـلـة الـضـروريـة لـتـوضـيـح الأشـيـاء الّـتـي يـصـعُـب فـهـمـهـا فـي كـتـاب "الـجـامِـع".
الـدلـيـل الـرابـع: يَـسـوقـه الـقـفـطـي ص 347 / 348. و أقـل مـا يُـمـكـن أن نـقـول عـنـه هـو أنـه " سـيـد الأدلـة". إذ هـو اعـتـراف مـن سـيـبـويـه فـي حـلـقـة مـن دروس الـخـلـيـل كـان يَـدور فـيـهـا الـحـديـث عـن كـتـب عـيـسـى بـن عـمـر، و كـان سـيـبـويـه يـحـمِـل مـعـه كـتـاب " الـجـامـع" و يَـقـول للـخـلـيـل: " و هـو هـذا الـكـتـاب الّـذي أشـتـغـل فـيـه عـلـيـك، و أسـألـك عـن غَـوامِـضـه". واضـح إذن أنّ سـيـبـويـه كـان يـجـد صُـعـوبـة فـي فـهـم بـعـض الأشـيـاء فـي هـذا الـكِـتـاب الـمـوسـوعـي الـضـخـم و الـصـعـب و أنـه كـان مـضـطـرا لـسـؤال الـخـلـيـل عـن ذلـك.
و مـن خـلال أجـوبـة الـخـلـيـل فـي الـلـغـة و الـنـحـو، و أجـوبـة "يـونـس بـن حـبـيـب" فـي الـلـغـة، زاد سـيـبـويـه الـحـواشـي و الـشـروح ، و اشـتـرك طـلاب آخـرون فـي تـسـجـيـل مـا كـان يُـلـقـيـه عـلـيـهـم الأسـاتـذة شـفـويـا، و مـن كـل هـذا جـاء "الـكِـتـاب" الّـذي نـعـرِفـه الـيـوم و نـنـسـبـه لـسـيـبـويـه. و أكـاد أعـتـقـد جـازمـا أنّ سـيـبـويه لـم يـضـع عـنـوانـا للـكـتـاب لـيْـس لأنّ الـمـوت اسـتـعـجـلـه كـمـا تَـقـول الـمَـصـادِر، و لـكـنـه لـم يُـرد أن يـنـسِـب لـنـفـسـه وحـده كـتـابـا جـمـاعـيـا.
قـد يَـقـول قـائـل: و مـاذا تـركـتَ لـسـيـبـويـه؟ أقـول: هـذا تـسـاؤل لا يُـمـكـن أن يـصـدُر عـن شـخـص قـرأ "الـكـتـاب" بـشـكـل مـتـمـعِّـن، لأن مـن قـام بـذلـك يـعـرف جـيـدا أنّ مـتـن "الـكـتـاب" يُـعـطـي أكـثـر مـن دلـيـل عـلـى مُـسـاهـمـة الـرجـل الـكـبـيـرة فـي بـنـاء صـرْح الـنـحـو الـعـربـي. أكـثـر مـن ذلـك، أقـول يَـكـفـيـه شـرفـا أنـه حـافـظ لـنـا عـلـى كـل الـتـراث الـنـحـوي الّـذي سـبـقـه.
هـنـاك فِـكـرة أخـرى شـائـعـة تـذهَـب إلـى أنّ عـلـم الـنـحـو عـرف صِـغـتـه الـنـهـائـيـة مـع "الـكـتـاب" و مـع سـيـبـويـه. أمـا كـوْن سـيـبـويـه هـو صـاحِـب الـهـيـكـل الـنـهـائـي للـنـحـو فـهـي مَـقـولـة خـاطـئـة و قـد أثـبـت ذلـك "شـوقـي ضـيـف" فـي كـتـابـه " الـمـدارس الـنـحـويـة" حـيـث اعـتـبـر، و بـحـق، أنّ الـخـلـيـل هـو مـن قـام بـذلـك. لـكـنـنـا لا نـعـتـقـد أن الـنـحـو وصـل إلـى قـمـتـه فـي هـذه الـمـرحـلـة الـتـاريـخـيـة. الـدلـيـل عـلـى ذلـك يـوجـد فـي "الـكـتـاب" نـفـسـه، إذ أنّـه يـسـتـعـمـل مُـصـطـلـحـات نـحـويـة أقـل تـطـوُّرا و وُضـوحـا مـن الـمُـصـطـلـحات الّـتـي ظـهـرت بـعـد ذلك و الّـتـي نـسـتـعـمـلـها إلـى يـومـنا هذا. و كـلـنا يـعـلـم مـدى أهـمـيـة الـمُـصـطـلـح فـي الـعـلـوم عـلـى اخـتـلاف أنـواعـهـا. فـعـلـى سَـبـيـل الـمِـثـال لا الـحـصـر نَـسـوق بـعـض الأمـثـلـة الّـتـي إخـتـرنـا أوضـحـهـا و أسـهـلـهـا حـتـى تَـكـون فـي مُـتـنـاوَل الـجَـمـيـع و لـيْـس الـمُـتـخـصِّـصـيـن فـقـط:
1- يـقـول " هـذا بَـابُ مَـجَـارِي أَوَاخِـرِ الـكَـلِـمِ مِـنَ الْـعَـرَبـيـة" و نـعـتـقـد أن مُـصـطـلـح " الإعـراب" هـو أكـثـر وُضـوحـا و دِقّـة.
2- يـقـول " هـذا بَـابُ مَـا عَـالَـجْـتَ بـه" و لا يـسـتـعـمـل "إسـم الآلـة"
3- يـذكُـر مَـجـمـوعة مـن أوزان "إسـم الـمـرة" و لـكـنـه يـسـتـعـمـل مـصـطـلـح " اسـم الـواحدة"
4- يـسـتـعـمـل "اسـم مـوضـع الـفـعـل" و "اسـم الـحـيـن" و لا يـسـتـعـمـل "اسـم الـمـكـان و الـزمـان"
5- يـسـتـعـمـل لـفـظ " بـنـات الـثـلاثـة" و "بـنـات الأربـعـة" بـدلا مـن الـثـلاثـي و الـربـاعـي. و هـي أيـضـا نـفـس الـمُـصـطـلـحـات الـتـي إسـتـعـمـلـهـا الـخَـلـيـل فـي مـقـدِّمـة مـعـجـم الـعـيـْن
كـخـلاصـة، نـقـول إنَّ الـنـحـو الـعـربـي كـعـلـم مـنـظَّـم بـدأ فـعـلا مـع الـحـضـرمـي واسـتـوى عـلـى شـكـلـه شـبـه الـنـهـائـي مـع عـبـقـريـة الـخَـلـيـل. فـفـي أقـل مـن مـئـة و مـع أربـعـة أجـيـال يـمـثـلـهـا الـحـضـرمـي و الـثَّـقـفـي و الـخَـلـيـل و سـيـبـويـه إنـطـلـق الـنـحـو مـن مـادة خـامـة هـي الـلـغـة و وصـل إلـى عـلـم قـائـم الـذات لـه أصـحـابـه و مـوضـوعـه و قـوانـيـنـه و مـصـطـلـحـاتـه الـخـاصـة.