يختزل ديوان "أرخبيل الوجع" تجربة شعرية حافلة بالعطاء والتألق. تعتني باللغة الشعرية المسعفة على ارتياد عوالم دلالية لاحصر لها.
إن الشاعر عبد القهار الحجاري يتمتع برؤية شعرية تحاور بعمق ورصانة اللغة المجازية، وما تستضمره من دلالات عميقة تلملم التشظي والانشطار الحاصل على مستوى الذات الشاعرة. يقةل في قصيدته "مساء المدينة" :
مساؤنا
يفيض شعرا في المدينهْ
خِضابُ أفقِ ينتشي
يحمل أمواج ابتسامات
نيلوفرٌ
يغرق بالحب الصِّبا
إنه يراود الكلمة لتتفتح قريحته نصوصا شعرية محبوكة بعناية فائقة. تحمل بصمة الشاعر المتألق دوما. وتنطوي على هم أنطولوجي، إنساني، يتماهى مع قضايا العصر وأسئل ته الحارقة في زمن التحرير والثورة.
في كل ذرة
من رملنا
ميدان للتحريرْ
في بلدتي
في كل شبر ألفُ صدرٍ عارٍ للطلْقاتْ
إنها لغة شعرية تنبع من الذات لتعيد تشكيل فضاءات الوطن الحبيب. يقول الشاعر في قصيدته "خمائل الندى" مخاطبا ابنته ندى:
خمائلَ الندى
كلَّ الندى
ناصية السعد البهيجْ
ضفائر الهنا
دفق السّنا
يا رونق العطر الأريجْ!
يا نور صبحي الآتي!
بَدِّدْ قنوطَ عتماتي!
ابن صروحا للفرح الغامر في نكباتي!
شعرية اللغة عند عبد القهار الحجاري سفر دائم بين متاهات اللغة ومخافي المجاز. ولا غرو في ذلك، ما دام الشاعر يتقن لغة المجاز باعتبارها لغة التواصل بامتياز, إنها لغة تنساب بأريحية وبشكل عفوي وتلقائي في أماكن شكلت أفق انتظار القارئ ( خمائل، الندى، ميدان التحرير، مساء المدينة، أرخبيل الوجع، الضلوع ، الوطن، الشجر الظليل، الجنة، الأنهار، الأفق، البلدة، سبأ، حدائق المدينة، المقاهي الحاشدة، الشجر المياس، الكون الجميل، البحر المبهور، رمال ذهبية، الطود العظيم، مـﮕونة ، الجيزة، اليم، بابل، ملكوت العشق، النيازك، الثريات، محراب، الجسد المكلوم....)
لغة المجاز أثثت أماكن، بعضها مألوف لدى الشاعر، وبعضها الآخر علق في ذاكرته من خلال قراءاته العاشقة لشعرية وجمالية المكان. أنها أماكن تندغم مع الذات الشاعرة إلى حد التماهي. فتصبح جزءا منه بحيث لا يقوى على مفارقتها، لأنه مفتون بسر الكلمة المولَِدة لاستطيقا المكان أو شعرية الفضاء. يحاور الشاعر سحر الكلمة فتتحول على لسانه إلى فضاء يختزل أزمنة شعرية بهية لا نعدم لها نماذج في حقب أدبية متعاقبة.
إن شعرية اللغة عند الحجاري، تكثف أزمنة شعرية وتنحت لها دلالات عميقة تنبع من التجربة الذاتية في الكتابة التي دأبت على الاحتفاء بالكلمة الشعرية تركيبا ومعجما ودلالة. إن الشاعر يعيد تشكيل الفضاءات التي ألفها أو تلك التي تفاعل معها من خلال تجربته في الحياة، فيقدم قراءة عاشقة لواقع الربيع العربي الذي أومأ إليه في أماكن متفرقة في الديوان بالفل والياسمين. وقد أعاد تشكيل هذا الواقع من خلال حوار عميق ورشين مع الكلمة الشعرية في علاقتها بالأنساق الثقافية والفكرية التي تشكلت فيها هذه الكلمة. فقد جعل منها أداة طيعة أسعفته على ارتياد عوالم شعرية لاحصر لها.
تلملم شعرية اللغة وما تستضمره من مجازات ودلالات عميقة التشظي الذي تعيشه الذات الشاعرة والانشطار الذي تعاني منه، وهي تتأمل واقع الربيع العربي، وما أسفر عنه من مفاجئات سارة للشعوب العربية. وهكذا فإن الكلمة الشعرية تمد جسور التواصل بين الشاعر والقارئ المفترض الذي سيتفاعل مع الذات الشاعرة في ابعادها الوطنية والإنسانية والكونية... إنها لغة صادقة تنبع من الذات المهووسة بالشعر، لتجد صداها في وجدان القارئ العربي الذي سيعقد ألفة مع النص الشعري، ومع الواقع الجديد الذي يتأسس ويتشكل عبر مسارات وتحولات الزمان والمكان. فكل قصيدة في الديوان تأسر العقل والوجدان، لأنها تحيل عبر اللغة الشعرية على أحداث وصراعات مجتمعية، وتتفاعل مع عوالم تخييلية، تضرب بجذورها في أعماق الثقافة الإنسانية والكونية، ومن ثم فإن الشعر كما تمثله الشاعر وارتوى بمائه مبكرا فن يتيح للقارئ المفترض أن ينخرط بشكل إيجابي فيتأويل العلامات والإيقونات الدالة عن طريق تفكيك إواليات شعرية المكان والزمان.
يحفل ديوان " أرخبيل الوجع" لعبد القهار الحجاري بطاقات بطاقات إبداعية وتعبيرية وتخييلية. يتألف من مقاطع شعرية تتفاوت من حيث الطول والقصر. وقد أعطى الشاعر لكل مقطع عنوانا يختزل فيه تجربة شعرية طافحة بمخاضات العشق والابهار بالكلمة الشعرية إلى أبعد مدى. ومقصديته تكمن أساسا في إعادة الاعتبار لفن الشعر، ومخاطبة جيل واسع من الشباب على امتداد المجتمعات العربية، جيل يحتفي بالكلمة الشعرية، ويعيد إليها ألقها ورونقها. ومن ثم كان لزاما عليه أن ينفتح على تجارب شعرية سابقة، وهو يعيد تشكيل أرخبيله الخاص، عبر مخاضات ووجع الكلمة مستفيدا من نصوص شعرية تراثية وحداثية منحت للذات الشاعرة المتلفظة بنية قابلة للتحليل، تعتني بصياغة الجملة الشعرية، بغض النظر عن الصيغ التي يمكن أن تأخذها هذه الجمل. فالجملة الشعرية تحمل رسالة ما، يتوخى منتج النص/ الشاعر إبلاغها إلى المتلقي باعتباره قارئا فطنا، يستعين بمكونات النص الشعري لملء المتواليات النصية التي تحيل على مدلولات في الواقع.
يفرض النص على القارئ أن يتحرك بنفس الطريقة التي تحرك بها المؤلف/ الشاعر وهو يبحث عن علاقات خفية بين الواقع والأسطورة، بين الشعر والربيع العربي. إنه مطالب بتوليد استراتيجيته انطلاقا من استراتيجية المؤلف، لكي يبقى نموذجه الخاص ومطالب بإعطاء مضمون للغة الشعرية الانزياحية. وإذاكان الشاعر يتمتع بقدرة توليدية ما للمعاني، فإن القارئ ملزم بأن يتمتع بقدرة تأويلية. ومن بين المقاطع الشعرية التي تستلزم قدرة تأويلية من قبل القارئ، تلك المصوغة بلغة شعرية تنزاح عن المألوف والمعتاد. نقرأ في الديوان :
من علمكِ؟
أن ترفلي في
هذي الفساتين الشقيهْ
والعطر من باريز
والورد من مـﮕونهْ
إن التنؤ بمسارات اللغة الشعرية أمر موكول إلى القارئ النموذجي الذي عليه أن يختار نمط الموسوعة أو السجل (العطر، الفساتين، باريس، مـﮕونة) ليتحرك في النصبطريقة تعمل على بنائه انطلاقا من اللغة الانزياحية التي تحيل على الواقع العربي والحضارة الغربية، ولكن بعد إعادة التوازن للمستوى التركيبي للجمل، بعد اكتشاف التنافر والتوتر الحاصل على المستوى الدلالي.
وإجمالا، بمكن أن نقول إن "أرخبيل الوجع" ديوان يحفل بلغة شعرية تنضح بدلالات عميقة ورصينة، لغة مفتوحة على نسيج من الفضاءات البيضاء والفجوات التي تنتظر من يملؤها. إنه نص يعيش على فائض المعنى. وما دامت الوظيفة الأساسية في هذا الديوان هي الوظيفة الجمالية فإن الذات الشاعرة تترك للقارئ المبادرة التأويلية، لخلخلة المعنى الثابت، ولاتتم هذه الخلخلة إلا عبر سنن تأويلي يجد مرجعيته في نصوص شعرية ونثرية غائبة/ حاضرة في الآن نفسه.
ليس للقارئ أن يعول على السياق اللغوي لاستنباط الدلالة، بل لابد له من الاعتماد على مرجعية تراثية وحداثية في الآن نفسه لاستقصاء هذه الدلالات. مرجعية تتفاعل – أيضا- مع النص القرآني الذي نعتبره رافدا مهما لهذا الديوان.