لماذا يكتب الإنسان ؟ أتراها الرغبة في الكتابة والفعل ؟أم تمزيق الجسد بالقوة وتحويله إلى صور تعلق على الذاكرة ؟
سألته مرة ’كيف تكتب؟إبتسم ثم قال:بالكلمات وبقليل من الحبر.قلت :أعني اللحظة التي تصبح فيها مبدعا حقيقيا؟ فرك رأسه بكلتا يديه ثم قال:حينما أفقد الشعور بالزمن’وتنفذ من جيبي الدريهمات ويطاردني الدائنون في كل مكان.حينما يتحول ماسح الأحذية وبائع السجائر ومغنية الحي إلى جواسيس’يسلمك الواحد منهم للآخر في زوايا الأزقة والدروب.أتدري’لولا الحلم لاشتعل العالم مثل هذه اللفافة من السجائر.وسحب نفسا عميقا من الدخان قبل أن يتم كلامه’وقال:الحلم يا صديقي ’منطقة لا حدود لها’لا يستطيع مراقبتها لا ماسح الأحذية ولا بائع السجائر ولا مغنية الحي’بل لا يقدر على مراقبتها حتى الرادارات او أحدث أجهزة التنصت التي اخترعها الانسان.هي منطقة منفلتة بعيدة قريبة من جغرافية فيودالية العالم الحديثة.هي حقل ألغام وبئر من البترول القابل للإشتعال في أية لحظة.قد ينفق الإنسان حياته على حلم واحد.فكيف لا نحلم كثيرا...
صادفني مرة أن قبض عليّ بتهمة الهذيان العلني في مقهى الحي’كان الرجلان اللذان اعتقلاني يتظاهران طيلة أيام بقراءة الجرائد....
أدخلاني غرفة باردة مظلمة’تذكرت شيئا قراته في كتاب عنوانه "عذاب القبر" فجأة أضاء رجل مصباحا على مكتبه ( المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها متواطئة ضدي ) كان يداعب مشرطا في يديه.
سألني : ما اسمك وما عنوانك وما مهنتك ومنذ متى وكيف قطنت بهذا الحي ولماذا؟
تعجبت من كلامه وعيناي لا تفارقان المشرط.سألت نفسي:هل يمارس مهنة الطب إلى جانب التحقيق؟ ربما’ فقد جمع ابن سينا الموسيقى والشعر وعلم التشريح.
أجبته : السائل أعلم من المسؤول .هل أدخن سيجارة من فضلك ؟قال لي بلهجة فظة وقحة : ممنوع ’أتدري ما تعنيه كلمة ممنوع. ( منذ الطفولة ونحن نقرأ قائمة الممنوعات. في القسم ’في الشارع’في البوابات ’في اللافتات...ممنوع الشغب’ممنوع الدخول’ممنوع التدخين’ممنوع قضاء الحاجة’ممنوع التفكير بصوت مرتفع’ممنوع الحلم في ليالي الصيف ممنوع الكلام’حتى قيل إن الأسر تنفق وقتا طويلا في تعليم أبنائها الكلام’في حين تتكفل السلطة بتعليمهم تقنية الصمت ).ثم قال بعد أن غير نبراته الحادة التي تنفذ من مسام الجلد قبل الأذن:
-هل سبق لك أن دخلت مصحة للطب العقلي أو النفسي؟
-أجبته :لا’غير أني أعاني في بعض الأحيان من آلام في الرأس’كما قد أحس بحالة من الفصام والوساوس القهرية.ولكن لماذا؟
قال:لأننا سنعالجك .هل سبق وجربت الصدمة الكهربائية.قد تشفى من أوهامك وهذيانك’وقدتفقد الذاكرة فترتاح ونرتاح منك.
-ولكن يا سيدي إن لي ذاكرة شعرية أدبية.لا يجد ربي أن أنساها.أنا كاتب’أنا شاعر ولي مشاريع أطمح إلى تحقيقها.
قال:قد لا يسعفك الوقت لذلك ’وأخرج مقالات صحفية موقعة باسمي ووضعها أمامي.وبعد برهة أضاف ’أنت متهم يا سيد بالتآمر والخيانة ضد الوطن’وقذف المحصنات وهدم الثوابت وتسور الأعراف والدين وطور سنين....والحصيلة ’أنك متهم في انتمائك وهويتك وعقيدتك.من أين انحدرت ؟
-من سام بن نوح.(تقول النظرية التطورية أن أصل الإنسان نسناس’أما بعض السادة من دوي الكروش المنتفخة فعلى الأرجح أنهم قد انحدروا من فصيلة زاحفة ’قد تكون الديناصورات التي يقال إنها تحولت إلى تماسيح ).
صرخ في وجهي :ألا تسمع أيها الوغد ’ستحاكم بتهمة الإرتداد والخروج عن النواميس العالمية.(أما أنتم فسيحاكمكم التاريخ ).تذكرت في تلك اللحظة ’محنة الحلاج ولسان الدين وأبي حيان’وابن المقفع ’وطه حسين’تذكرت خليل حاوي أيضا.
وبعد أيام تمّ الإفراج عني بعد تقديم اعتذار مكتوب مع الإلتزم بحفظ قائمة الممنوعات عن ظهر قلب.
-سؤال أخير من فضلك .هل سبق لك أن أحببت ؟
-لا يمكنني أن أقدم بيانا عن محظور.أعتذر.